أكوبام كسلا يعيد قيد لاعبه السابق عبدالسلام    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    طلب للحزب الشيوعي على طاولة رئيس اللجنة الأمنية بأمدرمان    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    البرهان: لن نضع السلاح حتى نفك حصار الفاشر وزالنجي وبابنوسة    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    يوفنتوس يجبر دورتموند على التعادل    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



توثيق الفساد في ظل الإنقاذ ..هدم الخدمة المدنية ب " التمكين " .. بقلم: حليمة عبد الرحمن
نشر في سودانيل يوم 20 - 12 - 2011


التعيينات في وزارة الخارجية عام 1990
[email protected]
حكمة المقال: مِكِنوا ولم يتمكنوا..واسقطوا حرف الألف عن لامه في عبارة "لا لدنيا قد عملنا"، واستبدلوا به حرف الباء ، لتصبح " بل لدنيا قد عملنا" .. فاستقام الوضع!!
(1)- لا أزعم ان ما أسطره هي قصة أو قصص فريدة، من حيث نوعية الفساد، أو طريقة الإخراج.. أعلم أن هناك حكاوي " تشيّب"، وسرديات محزنة جداً عرفها السودان والسودانيون مع نظام الانقاذ .. استدعي قصتي مع الإنقاذ في مرحلة من أحلك المراحل التي مرت على الوطن، وأسردها كما هي بشفافية مطلقة .. وأرجو أن تكون بداية لتوثيق المظالم، وكشف المستور عن حكاوي المقهورين، الذي داستهم أقدام أهل السلطة في حومة " التمكين"، والشعارات المنمقة التي يطلقونها ويريدون عكسها : "هي لله ، لا للسلطة ولا للجاه"..
(2)- إلى كل اللذين اكتووا بنار التطبيقات الغريبة للإسلام، إلى الوطن الذي يلوك سنوات الإنقاذ ولا يكاد يسيغه.. و إلى أرواح أصدقائي و زملائي في رحاب اداب الخرطوم (1983-1988) الدخري احمد الدخري ، من كردفان، وعصام الدين الخواض جاد الرب، من منطقة كلي، ونفيسة عبد الله محمد احمد ، من الدويم بالنيل الابيض.. توفاهم الله إلى رحمته، واقفين، مثل غيرهم، في صف عطالة جمهورية السودان المضروبة عليهم قسراً، تاركين اطفالا زغب الحواصل لا مال ولا كافل الا الله. مات الأول في السودان و توفي الثاني بلندن والأخيرة بهولندا.. ثلاثتهم، يجيدون أكثر من ثلاث لغات، ولكن لم يمكنهم القدر ثم "الانقاذ" من بناء حياتهم بالكيفية التي كانوا يخططون لها. وكان أن عاد اثنان إلى الوطن في صناديق خشبية. هاجروا "مضيومين" وماتوا محرومين"- وتلك قصة أخرى – اهدي هذه الحكاية..!
(3) - الإخوة القراء الأعزاء
تنويه: قد تستوقفكم هذه الحكاية وتالياتها، وقد لا تستوقفكم. إن قلت على المستوى الشخصي، فهي موغلة في ذلك، وربما لا تضيف إلى معارفكم المتوقعة من "مصاقرة" الانترنيت اليوم شيئا كثيرا، لكنها حتما تضع اللبنة الأولى للتوثيق لتجارب أجيال كاملة من الدراسة الجامعية إلى سن المعاش الاختياري، وهم في حالة غياب قسري عن دواوين الخدمة العامة بجمهوريتي السودان الأولى والثانية.. أجيال تتراوح قوة وضعفا، لكنها تضج بالآمال المؤودة والرغبة في حياة هادئة، يمضيها الأبناء بين ظهراني أهليهم وذويهم، ووطن كان من الممكن المساهمة في بنائه ورد بعض دينه عليهم.. فأصبحوا مبعثرين في أركان الدنيا الأربعة.. "شقيق" ما يممت شطرك، هناك سوداني وراءه قصة معاناة، وضيم دفعه إلى الهجرة القسرية خلال العقدين الأخيرين.
لنفتح الدفتر الذكريات ونسجل أسماءنا حضورا و مشاركة أو الاثنين معا.
(4)- كلمة لابد منها.. تخرجنا في الجامعة ، يا سادتي، في أيام عزها وعزنا الغابر، وقد درسنا مجانا، وسكنا مجانا، وتعالجنا مجانا، وترحلنا مجانا، بل كانت الجامعة تلتزم بمصاريف المعسرين من الطلاب، وكذلك تذاكر سفرهم برا وجوا، إلى مناطقهم عند نهاية العام الدراسي، وتقيم كذلك دورات تقوية للطلاب الضعيفين في اللغة الانجليزية، إلى جانب نظام تغذية مجاني خاص لمن يوصي له الطبيب المعالج في العيادة الجامعية بذلك، بل أنه من شدة "تدليعنا" ظننا أن لجنة الاختيار للخدمة العامة ستنادينا هي الأخرى، أن شبيكم لبيكم الوظائف جاهزة لديكم. عز في عز ولسان حالنا يقول:
همة وعبقرية
ذمة وفنجرية
ضد العنصرية
وتحلم بالسلام
لكن القدر كان يخبئ لنا عنصرية من نوع اخر، و أن العنصرية ستكون ديدن الحكومة من الشباب الى الشيخوخة ، وأن الولاء التنظيمي واسم القبيلة سيكون لهما الأولوية على المؤهل التعليمي..كان ذلك بداية فساد الخدمة المدنية الذي عبد الطريق للمآسي التي حاقت ولا زالت تحيق بالبلد..
(5)- شاء حظنا العاثر أن نتخرج في الجامعة قبيل شهور قليلة من انقلاب الإنقاذ، و منذ حينه -- اغلبنا عاطلون عن العمل نتسقط الفرص عند أبواب لجنة الاختيار، منذ أن كانت في شارع السيد عبد الرحمن حتى استقر بها المقام بالقرب من داخليات الرازي وحسيب.
من التخرج حتى بلوغ سن المعاش الاختياري، تلازمنا صفة واحدة: العطالة.
كمدخل لهذه الحلقات التي انوي كتابتها ، دعونا نبدأ بكيفية الاختيار للعمل بوزارة الخارجية عام 1990. في ذلك العام أعلنت الوزارة عن حاجتها إلى سكرتيرين ثوالث للعمل بها، فتقدمت كغيري وجلست للامتحان، الذي كنت قد استعددت له تماما طيلة الثلاثة شهور التي أمضيتها متدربة في وكالة السودان للأنباء (سونا) حيث نهلت من قسم الأرشيف الضخم، حينما كانت سونا تصنف كأحسن وكالة تمتلك أرشيفا في إفريقيا، وذلك قبل أن تمتد إليه يد الدمار الشامل ويتحول إلى مكتب واحد بت طاولتان وثلاثة كراسي، وربما تم لاحقاً التخلص من المتبقي منه برميه مع النفايات في سوبا والاستفادة من القاعة كما كان مخططا لذلك.
(6)- جلس للامتحان قرابة الألفي خريج من مختلف التخصصات ذات الصلة، واجتازه بنجاح، اقل من تسعين خريجا.. للتأريخ كان ذلك آخر امتحان يعد بالطريقة السابقة، "في العهد الديمقراطي البائد"، الشبيهة بامتحانات الشهادة السودانية من حيث الدقة والتنظيم، وكان كذلك أول امتحان "يقنطرونه" بطريقتهم الخاصة ليستوعب المجموعة التي يبغونها فقط.
لم تكن تلك هي المفاجأة الأولى فقط في المرحلة الأولى من الامتحان الذي حفل بالعديد من المفاجآت على المستويين الشخصي والعام.
أولا- للمرة الأولى في تاريخ نتائج الامتحانات. جاء ترتيب الناجحين- أبجديا، غض النظر عمن أحرز المرتبة الأولى أو الأخيرة . بناء عليه تصدر القائمة الاحمدون وكل من شاء له والداه أن يبتدئ اسمه بأحد حروف الأبجدية الأولى. طريقة أريد بها إدراج كوادرهم بأي شكل كان. هكذا سار الأمر، ولم يكن معلوما – إلى حين - من أحرز المرتبة الأولى أو "الطيش"، غير أني لم اترك الموضوع هكذا لعواهنه ، خاصة وان أدائي طيلة الامتحان، كان ممتازا. سأتعرض لذلك لاحقا في الجزء الثاني من هذه المقالة.
(7)- ثانيا - كنت ضمن الناجحات وكان ترتيبي حسب الآلية التي استخدمت في ترتيب الناجحين و التي بينتها أعلاه، رقم 24. وكان عددنا أربعة خريجات اجتزنا الامتحان النهائي: ثلاثة منا من جامعة الخرطوم وتحمل ثلاثتهن مرتبة الشرف في تخصصاتهن، بينما كانت رابعتنا من جامعة القاهرة الفرع، وفي رواية أخرى الإسلامية تخصص لغة عربية. الناجحات هن: (إ. إ.)، و تحمل إلى جانب البكالوريوس بمرتبة الشرف، ماجستيرا في العلوم السياسية، وبالتالي تعتبر أكثرنا تأهيلا للعمل بالخارجية، بينما تحمل (إ. ح. ق.) درجة الشرف في اللغة الانجليزية كعلم أساس، إلى جانب علم النفس كعلم ثان، وكانت مطمئنة إلى أن فرصتها كبيرة خاصة وأن شخصية نافذة في الوزارة وعدت بالتوسط لها حال اجتيازها الامتحان التحريري، كما سرى بيننا آنذاك. وكنت احمل بكالوريوس لغة فرنسية كعلم أساس مفرد، إلى جانب معرفتي باللغة الانجليزية التي درستها كعلم ثانوي في الجامعة حتى الصف الثالث، إلى جانب أنها كانت لغة الدراسة لباقي العلوم التي درستها، بينما كانت رابعتنا (أ. ع.) وللأمانة لا علم لي بمدى معرفتها باللغة الانجليزية، لكنني علمت أنها كادر إسلامي كبير.
(8)- كان أدائي في الامتحان الشفهي ممتازا هو الآخر، حيث أنني إلى جانب استعدادي التام للامتحان، فقد ساعدت حداثة تخرجي والسنة الدراسية التي أمضيتها مع رفاقي في جامعة ليون الثانية بفرنسا بجعل لساني طلقا – آنذاك- في اللغة الفرنسية.
في انتظار النتيجة النهائية، حضر في احد الأيام إلى منزلنا أحد أقاربي الجبهجية وسألني عما إذا كنت قد جلست لامتحان الخارجية، فأجبته بالايجاب، وسط دهشتي ، خاصة وانني كنت نادرا ما أشرك أحدا في شئوني، وسألته عمن اخبره بذلك، فاخبرني أن " واحد أخونا في التنظيم كلمني قال لي عندكم بت في الجبل امتحنت الخارجية وجات الأولى لكن الجماعة ديل خايفين منها، قالوا ما محجبة ودايره ليها تزكية".
في الواقع فقد جلست للامتحان ولم أكن محجبة، ولكنني كنت محتشمة جدا، وكنت وما زلت اعتقد أن التوب السوداني- على علاته- زي محتشم جدا وساتر.
والحل؟
قال قريبي "اتركي الموضوع ده علي، دي قضيتي أنا بعد ده ما قضيتك انتي".
الغريب في الأمر أن كل هذه الأحداث الدائرة، والتسريبات والنتيجة لم تعلن بعد.
(9)- تركت لقريبي الجمل بما حمل، فليس لي في العير أو النفير، كنت مدهوشة من هذا الوضع الجديد هذا الذي ما زالت أبعاده غير واضحة بالنسبة لي . صحيح أن العمل في الخارجية يظل حلم الكثيرين، غير أني كنت أفضل العمل في مجال الإعلام، لكن كانت الخارجية أول فرصة فتحت أبوابها أمامي ف"تلبت".
اتفق قريبي- دعني أطلق عليه قريبي نمرة 1- مع أبي عليه الرحمة، أن يذهبا إلى احد أقاربي الجبهجية ويبدو أن "اسكيله" في التنظيم أعلى من قريبي نمر ة 1 هذا، ودعني أطلق عليه قريبي نمرة 2. ذهبت معهم وأخبرته (أي نمرة 2) بالموضوع برمته، وان نجاحي في الامتحان لن يدفعني إلى تغيير رأيي واستبدال ثوبي بأي لبس آخر. فانتهرني قريبي قائلاً: اسكتي ساكت ما تتفاصحي..تبدليهو غصبا عنك !
سكت وبي حيرة كبيرة وحرج وغموض في الرؤية، فنحن نعيش في عصر "الهدوم فيه افضل من العلوم". اتفق الجميع على أن الموضوع يحتاج إلى تزكية شخصية أعلى منهما تنظيميا.
مصدقين حاجة؟ هو آنا ح اشتغل سكرتير تالت ولا وزيرة؟
(10)- قرر الجميع الذهاب مساء اليوم التالي إلى شخصية كبيرة حدداها بالإسم ، و تقطن المنشية، صارت فيما بعد عقب مفاصلة 1999، مؤتمرا شعبيا. قبيل الموعد المضروب للتحرك بساعة، حضر إلى والدي عليه الرحمة ، واخبرني أن قريبي رقم 2 اخبره انه لن يزكيني إلى الشخصية المعنية، وذلك لأن شخصا آخر تدخل في الموضوع ، حين الاستفسار عني، وقال إنني لا أصلح للعمل في الخارجية، لأنني غير محتشمة، وانه قد رفع تزكيته بذلك، وأي مشروع تزكية مضادة سيكون محل طعن منه.!!
عجبي..!! كأنما أنا اخرج من بيت أهلي بملابس محتشمة لاستبدلها فيما بعد بملابس أخرى لزوم ما يلزم.!. لاحقا علمت أن عدم الاحتشام مرده إلى العام الدراسي الذي قضيته بجامعة ليون الثانية بفرنسا (1986-1987) ، والذي يأتي في إطار المنحة التي كانت تقدمها الحكومة الفرنسية سنويا، لعشرة من طلاب اللغة المتفوقين لقضاء العام الدراسي بجامعة ليون الثانية، في اطار تجويد اللغة وتحفيزا للطلاب للإقبال على دراستها، والتي للاسف ساهمت سياسة التعريب في توقفها الان.
- (11)كنت غير محتشمة دفعة واحدة؟ وتقال لمن؟ لأبي الذي وثق بي كل الثقة وسمح لي بالذهاب إلى فرنسا وقضاء عام كامل، بعيدا عن الأسرة، رغم اعتراض بعض الأهل؟ لم يزد أبي، عليه الرحمة، على ذلك، وإن اكتسى وجهه حزن غامض. لم اسبر كنهه آنذاك، ولكن لاحقا عرفت انه يريد أن يقول لي إنني دخلت في معركة في غير معترك، وأنها اكبر من مقاسي.
كيف يعد لبس البنطلون عدم احتشام في حين ان اسرتي زودتني بالبناطلين والبوت والبالطو، لزوم الوضع الجديد وذلك قبل ان تقلع طائرة الخطوط الجوية الفرنسية من مطار الخرطوم إلى مطار شارل ديغول، وماذا يريدونني ان البس في طقس درجة حرارته كانت دون الاربعتاعشر في شتاء ذلك العام؟ كيف يفكر هؤلا القوم؟ رغم ذلك فإن السؤال عن الحرية الشخصية في الملبس، رغم انها حق، لكنها تبدو غير واردة في ذلك الموقف العصيب..!
هذا الجزء من القصة له تداعياته التي ساتعرض لها لاحقا في الجزء الثانية من هذه الحكاية.
(12)- لم اترك الموضوع يذهب سدى، خاصة بعد ان دخلت فيه أشياء شخصية وتلميحات غير كريمة.
ذهبت صباح اليوم التالي إلى نفس الشخص الذي أطلق فرية أنني غير محتشمة، و في دواخلي تمور بشتى المشاعر ، "الوضع الجديد القائم على الاقصاء بالتجريم والحرمان وفرض قناعات في التوظيف ما انزل الله بها من سلطان. ثم ماذا يضيرهم ان لبست بنطلون او جكسا في خط ستة؟ الزي مسالة شخصية في المقام الاول تخضع للظروف المناخية والانسانية والمادية والاجتماعية والعقدية" اشياء كنت اتمتم بها لنفسي وانا في طريقي إلى منزله. أمامه، تظاهرت بأنني أتيت اطلب مساعدته في التوظيف خاصة وان الفرصة مازالت أمامي للوظيفة في مرفق محترم كالخارجية . في البداية لم أتطرق لاتهاماته السابقة.
اعتدل الرجل في جلسته حين رآتي وإن لم يبدِ رغبة في مساعدتي، فقد أتخذ رأيه مسبقا، ولكنه ألقى على محاضرة طويلة في أنهم في بداية إرساء دعائم الحكومة الرسالية لا بد لهم من "غربلة" الإختيار و التدقيق التحري، وصولا لاختيار القوي الأمين القادر على حمل الأمانة ، وبالتالي لا فرصة هناك لشيوعيين أو بعثيين أو خلافهم. فقط تيار اسلامي.. تيار إسلامي هي العصا السحرية وصك النجاح في التوظيف، أما "الفكي وأمه فلهم الصَقاّر" أي أن الفكي وأمه يستحقون صقرا ينزل عليهم فجأة ويختطفهم ويريح الدنيا منهم. وللأسف فإن الفكي ووالدته هم الشعب السوداني غير المسيس اسلاميا.
(13)- احترت في امر التصنيف السياسي و تلك المحاضرة الدينية الطويلة عن الامانة.. (كأني ماشة اعتل)، بينما مطلبي بسيط: حقي في العمل الذي كفله لي تأهيلي و دستور السودان، اللهم إلا إن كان ينظر إلى الدستور كأنه دستور "أولاد ماما".
دخلت منزله محايدة تبحث عن تزكية تتخذها وسيلة للتوظيف وخرجت منه مصنفة سياسيا..! بينما انا اريد عملا. عملا يا سادتي يسد الرمق ويحفز البنات في عشيرتي على القراءة والتحصيل. لكن لا حياة لمن تنادي.
(14)- لم يتأكد لي حينها أن الرجل بفعلته تلك قد قفل أمامي أبواب التوظيف مستقبلا في جمهورية السودان (آنذاك)، وفي نظامهم ذلك الى الابد، غير أنني قررت مواجهته. الغريبة انه لم ينكر ذلك، بل أنه اكد عليه وزاد انه أدلى بتزكيته بناء على معلومة استقاها بطريقته الخاصة وبنى عليها فرضية أنني لا أصلح للوظيفة المفصلة على "زولة" إسلامية ، محجبة، فشكرته في سري على تلطفه بعدم ذكر سيرة البنطلون. ولدهشتي للمرة الثانية في مجرى تلك الاحداث التعيسة، سألني مباشرة عما إذا كنت إسلامية، فنفيت ذلك، رغم علمي التام انه يعرف ذلك "زي جوع بطنه"، فتطوع واخبرني أن التقارير التي بحوزته(م) تقول إنني في انتخابات الاتحاد الأخيرة لم أعط الاتجاه الإسلامي صوتي..كان الرجل في ذلك محقا.. ما عدا صوت واحد أصرت إحدى صديقاتي أن أعطيه ل (ز. ع. ز.) من الاتجاه الاسلامي لأنها "مكسرة فيه" تكسيرة صامتة، ففعلت، ليس تشجيعا لها، ولكن لأنها سلفتني ثوبها ذلك اليوم. تذكرت حينها انه كان هناك شاب يجلس منفردا الى احدى طاولات الكومون روم التي اتخذتها الرابطة مؤقتا، مركزا انتخابيا. كان الشاب يجلس متظاهراً بالتشاغل بالأوراق التي أمامه، بينما كان بإمكانه رؤية حركة يدي صعودا وهبوطا في قائمة المرشحين، خاصة وان الستارة كانت تغطي حجيرة التصويت جزئيا. الغريبة ان محدثي كان طيلة ذلك الوقت يبسمل ويحوقل ولم يرفع عينه على قط.
ما اسهل خداع هؤلاء الناس..!
كان المشهد استفزازيا بكل المقاييس. أنا التي كنت، وما زلت، انتمى إلى المحايدين، يتم تصنيفي فجأة شيوعية و (أو) بعثية؟. نحن الذين كنا نتحمل تندر زملائنا وزميلاتنا بنا بوصفنا "بيبسي كولا"، التي كانت تطلق علينا، أجد نفسي فجأة في قوائم الاتجاه الإسلامي "لايصة" بين تنظيمين وربما أكثر. ماذا تخبئ لي الأيام؟ من يدري..!!
(15)- بعد مضي فترة من الزمن ظهرت النتيجة..
يا الله !!
رغم مضي عقدين من الزمان، ما زلت اذكر الكيفية التي علقت بها على لوحات لجنة الاختيار الإعلانية المطلة على الناحية الغربية، المحشورة في ذلك الجحر المعتم والمسقوف بألواح "الزنك". مشهد النتيجة والكيفية التي تمت بها فبركتها، عكست تجسيدا لواقع واحد يتسق، للأسف مع بعضه البعض..
بالطبع لم يكن اسمي في الدبلوماسيين المرشحين أو في الاحتياطي، ولم يكن حتى في ذيل الثمانين شخصا الذين تم خضعوا للامتحان. إقصاء تام.. بينما تصدر القائمة زملائي الذين اعرفهم حق المعرفة في الجامعة واعرف انتمائهم السياسي: اتجاه اسلامي على السكين، بمن فيهم من كان يحمل حرف ال(F) في مادة اللغة الانجليزية، فتركها مبكراً إلى معارف أخرى، في الوقت الذي كنت احمل فيها تقدير (B+)، أي فوق السبعين درجة.
وجدني احد زملائي من المعروفين بمناهضتهم لذلك التيار، "مَمَحَنة" أمام لوحة الإعلانات وبي غضب وإحباط شديدين، فقال لي مسرياً وناصحاً : ياخي ما تزعلي.. شنو يعني ما شالوك؟ خليك مبتسمة زي زمان.. وخلي روحك رياضية.. بتحتاجي لابتسامتك وروحك الرياضية كتير مع الجماعة ديل.. ياما تشوفي كتير.. لسع الغريق قدام..
وقد كان..فكانت تلك أول ضربة في سلسلة الضربات الإنقاذية..!!
(16)- حسب علمي، خلت قائمة المرشحين للعمل بالخارجية، في ذلك العام، من أي مرشح أكمل تعليمه إلى النهاية في اللغة الفرنسية بكلية الآداب بجامعة الخرطوم وتخرج بها.
الغريب في الأمر أنه بعد ذلك بعامين تم إنشاء معهد الدراسات الدبلوماسية بغية ترفيع مستوى اللغات الأجنبية لدى العاملين بالوزارة، فكان أن انتدبت بعض زميلاتي من اللائي يعملن في الوحدة العلمية الفرنسية بجامعة الخرطوم للعمل فيه.
بعد ظهور نتيجة الامتحان، تمايزت الصفوف. كانت الدفعة التي وقع عليها الاختيار عام 1990، اتجاه إسلامي صرف أو جبهة قومية إسلامية– آنذاك – ومؤتمر وطني وشعبي بعد المفاصلة الشهيرة عام (1999) ، ثم جاء تطعيمها لاحقا بالقوائم الجهوية، دون اعتبار لتأهيل أكاديمي مناسب.
لابد من الإشارة هنا إلى سياسة الإنقاذ الواضحة في تحجيم دور النساء منذ ذلك الحين ودلك بقصرهن أو قفل الباب إمامهن أو تحجيمهن في بداية السلم الوظيفي، في وظائف بعينها، خاصة في بعض الوزارات السيادية كالخارجية والعدل والإعلام، والداخلية، إلا ما شاء التنظيم والنسب من استثناءات وغيرها ، وان لم تنطلِ على المنظمات النسوية حيلة وضع النساء في أعلى الهرم الوظيفي لهذه الوزارات- على ضيقه - ، وتقليصهن عند قاعدته، أو منعهن من ممارسة بعض المهن. في هذا الخصوص، لعلكم تذكرون قصة الفتاة التي أرادت أن تعمل في طلمبة بنزين وكيف جوبه طلبها بالرفض.
للمرة الأولى تم ترقية الكادر النسائي إلى وظائف قيادية عليا لزوم "الشوفونية" – من شوفوني- والوجاهة الدولية، فكانت الأستاذة نعمات بلال مديرا عاماً لوكالة السودان للأنباء لفترة وجيزة، قبل أن تلحق بوظيفة ملحق إعلامي بسفارة السودان بكينيا، ثم بعد حين تم أحلال شخص آخر ، من أهل الحظوة، محلها. كذلك جاء تعيين الأستاذة فريدة إبراهيم جبريل، على رأس المحكمة الدستورية للمرة الأولى في تاريخ السودان، وبدلا عن النظام السابق بإحالة العاملات في الشرطة والجيش إلى المعاش عند الترقي إلى رتبة العقيد، تمت ترقية د. نور الهدى محمد الشفيع، (زوجة شقيق الرئيس)، اللواء عبد الله حسن احمد البشير، إلى رتبة اللواء، فلها وللظروف التي هيئت ابتدار الترقية الشكر.
(17)- في إطار تطبيق سياسة التمكين، عمد الإسلاميون أيضا إلى إقصاء العديد من الطلاب "المؤلفة قلوبهم" ، حتى من بين الذين كانوا ذراعهم اليمين و كانوا يقدمون لهم المساعدات السخية في إعداد وإخراج صحيفة آخر لحظة، لسان حال الاتجاه الإسلامي، انذاك،بل ان بعضهم كان يضطلع بها تماما، ف"شاتوهم" بعيداً، عملا بالمثل الذي يقول " الزاد كان ما كفى أهل البيت يحرم على الجيران"، ولن يكفهم قط، وسيظل دائما حراما على الآخرين، فال"ما شايفو في بيت أبوك بهلعك".
بعد عدة أيام من ظهور النتيجة إقصائنا، حكى لي احد الأصدقاء وكان من أميزنا في صفوف اللغة الانجليزية، وعلم اللغويات، في رحاب الجامعة حينما كانت "جميلة ومستحيلة" فعلا، انه لم يكن متوقعا خروجه بتلك الكيفية من الامتحان النهائي وكان شعوره مماثلا لشعوري ، خاصة بعد نجاحه في الامتحان التحريري وتطمينات احد أصدقائه ، من الخريجين الإسلاميين، "المغلظة" له باستيعابه في السلك الدبلوماسي، حكى كيف أن والده حينما رأى استياءه قال له في محاولة لتطييب خاطره: يا ولدي ما تزعل، الناس ديل جوا للحكم ده جاهزين من كل النواحي.. يا ولدي ديل حتى صعاليكهم جابوهم معاهم (يقصد الفرق الغنائية).
ما زالت للحكاية بقية، فتابعونا بعد غد.
حليمة عبد الرحمن
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.