بينما الخليفة العباسى ابو جعفر المنصور فى الطواف بالبيت العتيق ليلا اذ سمع قائلا يقول: (اللهم انى اشكو اليك ظهور البغى والفساد فى الارض وما يحول بين الحق واهله من الطمع ) ..فجزع المنصور فجلس بناحية من المسجد و ارسل الى الرجل .. فصلى ركعتين واستلم الركن ..واقبل مع الرسول فسلم عليه بالخلافة فقال المنصور: (ما الذى سمعتك تذكر من ظهور الفساد و البغى فى الارض؟ و ما الذى يحول بين الحق و اهله من الطمع ؟ فوالله لقد ملات مسامعى ما امرضنى)..فقال الرجل:(ان امنتنى يا امير المؤمنين اعلمتك بالامور من اصولها والا احتجزت-اى حبست ما عندى عنك-منك واقتصرت على نفسى فلى فيها شاغل). فقال المنصور:(فانت امن على نفسك فقل) فقال: يا امير المؤمنين ان الذى دخله الطمع و حال بينه وبين ما ظهر فى الارض من الفساد و البغى لانت..فقال المنصور فكيف ذلك؟ويحك يدخلنى الطمع و الصفراء و البيضاء فى قبضتى و الحلو و الحامض عندى..فقال الرجل: وهل دخل احدا من الطمع ما دخلك..ان الله استرعاك امر عباده و اموالهم فاغفلت امورهم..واهتممت بجمع اموالهم ..وجعلت بينك و بينهم حجابا من الجص والاجر و ابوابا من الحديد..و حراسا معهم سلاحا..ثم سجنت نفسك عنهم فيها.. وبعثت عمالك فى جبايات الاموال وجمعها..وامرت الا يدخل عليك احد من الرجال الا فلان و فلان نفرا سميتهم.. ولا تامر بايصال المظلوم.. ولا الملهوف ولا الجائع العارى اليك ولا احد الا وله فى هذا المال حق ولما راك هؤلاء النفر الذين استاثرتهم لنفسك و اتخلصتهم لها ..واثرتهم على رعيتك..وامرت ان لا يحجبوا دونك تجبى الاموال و تجمعها..قالوا هذا قد خان الله فما لنا لا نخونه..فائتمروا ان لا يصل اليك من علم اخبار الناس شئ الا ما ارادوا..ولا يخرج اليك عامل الا خونوه عندك ونفوه حتى تسقط منزلته عندك فلما انتشر ذلك عنك و عنهم.اعظمهم الناس و هابوهم و صانعوهم..فكان اول من صانعهم عمالك بالهدايا و الاموال ليقووا بها على ظلم رعيتك..ثم فعل ذلك ذوو المقدرة و الثروة من رعيتك لينالوا ظلما من دونهم فامتلات بلاد الله بالطمع ظلما و بغيا و فسادا..وصار هؤلاء القوم شركائك فى سلطانك وانت غافل..فان جاء متظلم حيل بينك و بينه.. فان اراد رفع قصته اليك عند ظهورك وجدك قد نهيت عن ذلك و اوقفت للناس رجلا ينظر فى مظالمهم فان جاء ذلك المتظلم فبلغ بطانتك خبره سالوا صاحب المظلمة الا يرفع مظلمته اليك ..فلا يزال المظلوم يختلف اليه و يلوذ به ويشكو و يستغيث وهو يدفعه..فاذا اجهد و احرج ثم ظهرت صرخ بين يديك فيضرب ضربا مبرحا يكون نكالا-عبرة لغيره- و انت تنظر فما تنكر..فما بقاء الاسلام؟؟ و قد كنت يا امير المؤمنين اسافر الى الصين فقدمتها مرة و قد اصيب ملكهم بسمعه فبكى يوما بكاء شديدا..فحثه جلساؤه على الصبر فقال:اما انى لست ابكى للبلية النازلة..ولكن ابكى لمظلوم يصرخ بالباب فلا اسمع صوته..ثم قال:اما اذا ذهب سمعى فان بصرى لم يذهب..نادوا فى الناس ان لا يلبس ثوبا احمرا الا متظلم.. ثم كان يركب الفيل طرفى النهار و بنتظر هل يرى مظلوما.. فهذا يا امير المؤمنين مشرك بالله بلغت رافته بالمشركين هذا المبلغ ..وانت مؤمن بالله من اهل بيته لا تغلبك رافتك بالمسلمين على شح نفسك..فان كنت انما تجمع المال يا امير المؤمنين لولدك فقد اراك الله عبرا فى الطفل يسقط من بطن امه ماله على الارض مال..و ما من مال الا و دونه يد شحيحة تحويه فما يزال الله يلطف بذلك الطفل حتى تعظم رغبة الناس له..ولست الذى تعطى بل الله تعالى يعطى من يشاء ما يشاء و ان قلت انما تجمع المال لشد يد السلطان فقد اراك الله فى بنى امية ما اغنى عنهم جمعهم من الذهب وما اعدوا من الرجال و السلاح و الكراع اسم يطلق على الخيل و البغال و الحمير =حين اراد الله بهم ما اراد و ان فلت انما تجمع المال لطلب غاية هى اجسم من الغاية التى انت فيها فو الله ما فوق ما انت فيه الا منزلة تدرك بخلاف ما انت عليه يا امير المؤمنين هل يقتل من عصاك باشد من القتل؟ فقال المنصور: لا.. فقال: فكيف تصنع بالملك الذى خولك ملك الدنيا وهو لا يعاقب من عصاه بالقتل ولكن بالخلود فى العذاب الاليم فد راى ما عقد قلبك و عملته جوارحك و نطر اليه بصرك و اجترحته يداك و مشت اليه رجلاك هل يغنى عنك ما شححت عليه من ملك الدنيا اذا انتزعه من يدك و دعاك الى الحساب؟؟ فبكى المنصور ثم قال:ليتنى لم اخلق.. ويحك كيف احتال لنفسى؟ فقال الرجل:يا امير المؤمنين ان للناس اعلاما يفزعون اليهم فى دينهم و يرضون بهم فى دنياهم فاجعلهم بطانتك يرشدوك و شاورهم فى امرك يسددوك..قال المنصور قد بعثت اليهم فهربوا منى..قال:خافوك ان تحملهم على طريقتك و لكن افتح بابك..و سهل حجابك و انصر المظلوم..واقمع الطالم..وخذ الفئ و الصدقات على حلها.. و اقسمها بالحق و العدل على اهلها..وانا ضامن عنهم ان ياتوك و يساعدوك على صلاح الامة وجاء المؤذن فاذن بالصلاة ..فصلى المنصور و عاد الى مجلسه وطلب الرجل فلم يجده