يحكى أن الرئيس الأسبق جعفر محمد نميري كان في زيارة تفقدية لأحد أقاليم السودان، وأثناء قيامه بجولة ميدانية، إذ برجل يخترق الحشود التي هبت لاستقبال الرئيس، وكان الرجل يحمل في يده كأساً كبيرة بها ماء متغير اللون. وقف الرجل أمام الرئيس نميري وهو يشكو حال الماء في قريته، فما كان من الرئيس نميري إلا أن تناول كأس الماء من يد الرجل وشربه لم يستبق منه شيئاً. وعلى الرغم من صرامته المعروفة، وشخصيته القوية فقد عرف عن الرئيس الراحل جعفر نميري التواضع والبساطة، فكان يشارك الناس أفراحهم وأتراحهم، متفاعلاً مع مناسباتهم المختلفة. حكي بعض الصحفيين الذين كانوا يرافقونه أثناء زياراته المختلفة أنه كان يأتي إليهم في أماكن إقامتهم ليشاركهم الأكل والشرب والحديث. وحينما يحضر مناسبات الناس المختلفة لم يكن أحد يميز بينه وبينهم. ومثل نميري كان الرئيس عبود والأزهرى على ذات النهج. الرئيس عبود كان بسيطاً ومتواضعاً وقريباً من الناس. يحكى أنه ذهب ذات يوم إلى المدرسة لتسجيل إبنه، وكان هناك عدد من الآباء الذين جاءوا لنفس الغرض، فوقف الرئيس عبود في الصف منتظراً دوره. وظل واقفاً حتى تعرف عليه الناس ودعوه للجلوس في مكتب مدير المدرسة، إلا أنه أصر على البقاء واقفاً إلى حين دوره. ولذلك أحبه الناس بعد أن غادر كرسي الحكم، وطفقوا يهتفون حينما شاهدوه يمشي ذات يوم في الأسواق: ضيعناك وضعنا وراك. الأمثلة كثيرة في هذا المقام، وهي تدعم فرضية: أن التواضع والبساطة صفتان تلازما الإنسان السوداني سواء كان رئيساً أو غفيراً، وهي جزء من تركيبته النفسية. وربما ساهم في ذلك التنشئة البدوية للإنسان السوداني حتى وإن إدعى التمدن. وكنت أظن أن كل شعوب الدنيا التي تعرفت علينا، تدرك هذه الصفات جيداً وتتعامل معها ضمن سياقها الحقيقي، وكثيراً ما سمعت عبارات الإطراء من الإخوة العرب على شاكلة: أنتم طيبون، أو أنتم متواضعون والتي تجد في نفوسناً القبول والسرور، فمن منا لا يحب أن يكون متواضعاً أو طيباً. لكن: بمرور الوقت زادت شكوكي أن فهم هؤلاء لتواضعنا ربما كان مختلفاً عن سياقه، وهذا الإطراء الذي يكيلونه لنا هو بنظرهم بمثابة المدح الذي يشبه الذم، ولا يعدو أن يكون وصفاً محترماً للبساطة التي قد ترقى –أحياناً- لدرجة من درجات السذاجة وإن تم التحايل عليها بعبارات مقبولة مثل الطيبة والتواضع. ومرد ذلك كما أظن هو إختلاف التفسير لمفهوم التواضع لدى هؤلاء الناس، فما نحسب أنه تواضع فطري غير متكلف، هو بظنهم بساطة وعفوية، ووفقاً عليه يرسمون صورة نمطية لشخصيتنا. وإذا كان التواضع قياساً على ما ورد في القصص أعلاه إيجابياً بل محموداً باعتباره يجسد التمازج والتقارب بين الراعي والرعية، وإشاعة الود والمحبة، وقبل ذلك إقتداء بهدي الدين، وسيرة الخلفاء والصالحين. لكن ذلك الذي يقترب من البساطة والعفوية هو سلوك لن يكون مطلوباً في كل الأوقات، بالذات إذا كان في بيئة وظروف تختلف عن ثقافتنا حيث تخضع الأشياء لتفسير مغاير. وهؤلاء الذين يكيلون عبارات الإطراء على شاكلة أنتم طيبون .. وأنتم متواضعون سيكون رأيهم مختلفاً إذا تعلق الأمر بأنماط محددة من السلوك، لأنهم لن يفهموا التواضع إلا بمعناه السلبي. فكم كان هذا "التواضع" أو "البساطة والعفوية" -بفهم الآخرين-خصماً على صورتنا الذهنية، أو في تعاطي الآخرين معنا يشكل عام. البساطة والعفوية هي نمط سلوكي مكتسب ... وبالتالي يمكن التحكم فيه والسيطرة عليه، أو توجيهه بالصورة التي تتمظهر كسلوك إجتماعي يحفظ للشخصية مكانتها المتميزة. فرق كبيراً بين أن تكون متواضعاً .. أو تكون بسيطاً وعفوياً، رغم أن المفهومين في كثير من الأحيان ينطبق عليهما المقولة الشعبية: "كلو عند العرب صابون". Ayman Abo [[email protected]]