أحد الإخوة الخليجيين كان يحكي لي عن نخوة السودانيين وشهامتهم تحضره دائماً حادثة شهد عليها وكان يحكيها كلما تحين مناسبة وهو غاية في الفخر والإندهاش. قال لي: في إحدى المرات تلقى زميله السوداني إتصالاً من أهله يطلبون منه إرسال نقود ودواء لأحد أقاربه. قام الرجل لأقرب صيدلية وأشترى الدواء ثم هب سريعاً للمطار، لم يبحث أو يضيع وقته في ترصد وجوه المسافرين لربما وجد من يعرفه، فما أن لمح أقرب المسافرين حتى سلم عليه ثم اعطاه الدواء ومعه مبلغاً من المال ووصفاً للعنوان، ثم قفل راجعاً لمكان عمله. إنتهى ذلك الموضوع بعفوية مطلقة وبسرعة لم تتح لكليهما حتى أن يعرّفا بأنفسهما لبعضهما البعض. كان ذلك الخليجي يحكي وعلامات الدهشة والاستغراب تملأ وجهه، وفي كل مرة كان يتسآل متعجباً: كيف يقبل شخص وبطيب خاطر أن يحمل شيئاً لا يدري عن محتوياته ولا يعرف حقيقة مرسله أو المرسل إليه؟ وكيف يعطي شخص مالاً لشخص لا يعرفه أساساً ولم يسبق أن قابله. تلك الحادثة وغيرها تعد عادية جداً في مجتمعنا، وإن حكاها مواطن سوداني لمواطن آخر فلن تجد الإهتمام، إذ ليس فيها ما يدعو للإستغراب والدهشة، فتلك هي الشخصية السودانية، فطرية ومتفردة في كل شي. وذاك السلوك هو السائد في علاقات الناس الإجتماعية وممارساتهم اليومية المختلفة. نحن لا نرى ذلك أمراً يستحق أن نذكره إلا حين التمحص فيه من خلال عيون الآخرين كما رأي ذلك الخليجي، وغيره من الشعوب التي كانت ترى في الشخصية السودانية مثالاً نادراً في كل شي. وتلك كانت هي الصورة الرائجة والإنطباع الجميل الذي رسخ عن السودانيين في بلاد المهجر، الكرم والنخوة والمروة والشهامة والصدق، وصون الامانة، ونجدة الملهوف، ومساعدة الغير... مزايا لا تجتمع كلها إلا في الإنسان السوداني. هي صفات حقيقية عرفها الآخرون بعد معايشتهم للسودانيين في بلاد الإغتراب، فرسموا صورة ذهنية غاية في الجمال للشخصية السودانية، فأصبح السوداني هو الأقرب والأصدق دون سواه من جاليات الشعوب الأخرى. لم تأت هذه الصورة من فراغ، بل نتاج لممارسات أخلاقية حقيقية خاصة من المهاجرين الأوائل الذين أثبتوا كل تلك الصفات على الارض، ففتحت لهم أبواب الشركات والمدارس والمزارع واالقصور. وثقوا فيهم، وائتمنوهم على حوائجهم. لم يكن في وارد أن تجد سودانياً سارقاً أو مرتشياً أو خائناً لأمانة، لذلك تصدروا دائماً الوظائف التي تتطلب التحلي بالصدق والأمانة والأخلاق الرفيعة. فما الذي حدث وانقلبت الصورة الآن. لم يصدق ذلك الخليجي ما قرأه في الصحف عن قصة السوداني الذي تسلم بحسن نية طرداً من شخص آخر لا يعرفه، فكانت تكلفة تلك الشهامه أن وجد نفسه في السجن لأن الطرد لم يكن سوى مواد مخدرة. ما الذي أصابنا وأصاب أخلاقنا بالإنتكاسة التي تجلت في هذه الحادثة وحوادث أخرى عديدة لم يكن المر يتصور حدوثها في بلادنا التي كانت مضرب الأمثال في كل القيم الجميلة، والأخلاق الفاضلة. قبل أيام قليلة حدث لي موقف في أحد المطارات، قابلني أحد الإخوة السودانيين ومعه هاتف جوال طلب مني أن أحمله وسيقابلني صاحبه في المطار لأخذه. رمقت الرجل ملياً وكلا القصتين كانتا ماثلتين في ذهني حينها، حكاية ذلك الرجل الشهم، وحادثة صاحب الطرد الذي وجد نفسه في السجن لمجرد أن قبل بالمساعدة بحسن نية. ولم أطل التفكير طويلاً، أعدت النظر كرة أخرى في وجه الرجل ولسان حالي يقول (لا بالله) ثم أعتذرت له بأدب أنني لا أستطيع أن أحمل ذلك الجهاز.. أنصرفت وفي داخلي أسئلة كثيرة. فما الذي أصابنا؟. Ayman Abo El Hassen [[email protected]]