[email protected] (1) عندما دخلت الطائرة الى عمق الاجواء السودانية قامت زهرات الحبوش بتوزيع البطاقات التى تفرض سلطات الجوازات عادة على الداخلين عبر الموانئ والمطارات تعبئتها. تذكرت على الفور استاذى الهندى الاصل الهولندى الجنسية فاسانت موهارير. كان قد زار السودان فى مهمة اكاديمية ثم عاد قافلا الى هولندا، فسألته عن انطباعاته. كان معظم ما قاله جميلا يسر القلب، لولا انه حدثنى عن ما وصفه ببعض مظاهر (عدم الجدية) لدى الاجهزة الحكومية. سألت: ماذا تقصد.. أعطنى مثالا. لدهشتى ذكر لى مثال بطاقة الجوازات التى طلب اليه تعبئتها عند دخوله مطار الخرطوم. قال: تجد فى بطاقات المطار سؤالا طويلا مركبا يطلب (رقم جواز السفر وتاريخ ومكان اصداره) وامام السؤال المركب سنتيمتر واحد للاجابة! تفحصت البطاقة التى ناولتنى اياها الزهرة الاثيوبية فوجدت ان هناك تغييرا لا تخطئه العين. السؤال يقول ( رقم الجواز وتاريخ الاصدار) فقط، وامام السؤال سنتيمتر واحد للاجابة، وسؤال مستقل آخر عن مكان الاصدار وامامه سنتيميتر من الفراغ. من المؤكد ان المشكلة التى شغلت استاذى الهندى الهولندى لا زالت قائمة بوجه من الوجوه، اذ ان المساحات المتروكة للاجابة لا تزال صغيرة جدا، ولكن هناك فى ذات الوقت تطور ملحوظ ومحسوس فى اتجاه الاصلاح. مشوار المليون ميل يبدأ بخطوة! (2) من الاوراق التى حملتها معى وقرأتها فى الطائرة مداولات اتحاد الصحفيين السودانيين بالولاياتالمتحدة بشأن المشاركة فى الملتقى، والتى جرت فى دائرة الكترونية، كنت اعتقد انها سرية ومغلقة، حتى صعقتنى المفاجأة وانا أسمع وزيرا انقاذيا يُذكّرنى ويعايرنى، وهو يخاطب رئيس الجمهورية ومئات المشاركين فى الملتقى ببيت الضيافة بالخرطوم، بجانب مما ورد فى مداخلتى اثناء مداولات الاتحاد تلك وينسبه الى شخصى اسما وذاتا وعينا. ذكرت ذلك لوزير آخر، هو الدكتور كمال عبيد، وذلك بعد انفضاض اللقاء الرسمى والانتقال الى الحدائق حيث العشاء والطبل والزمر، قلت له: كيف حصل صاحبكم الوزير على مداولات اتحاد الصحفيين بالولاياتالمتحدة والتى دارت وقائعها فى مدار الكترونى مغلق؟ لم يرف للرجل جفن وقال لى بثقة واعتداد كبيرين: (عشان تعرف يد الانقاذ طويلة، تستطيع ان تصل الى بغيتها فى أى مكان من العالم)! (3) كنت قد جمعت هذه المداولات بنية قراءتها لاحقا اذ لم اهتم بمتابعتها فى وقتها بسببٍ من ان عقيدتى فى المشاركة كانت قد استقامت على سوقها فما كانت المداولات ونتائجها لتبدل من جذعها شيئا. جذبت انتباهى فى الاوراق، وانا اطالعها داخل بطن الطائر المحلق فى ملكوت الله، مداخلة أحد المعترضين على المشاركة ووجدت فى بعض كلماتها مادة للتأمل. كتب صاحب المداخلة: ( كيف يعقد النظام مؤتمرا باسمنا ويسمينا " الاعلاميين العاملين بالخارج" وكأنه هو الذي بعثنا الى هذا الخارج؟ يصادر صحفنا ويشردنا ويعتقلنا ويذيقنا الأمرّين، حتى اذا خرجنا نضرب فى فجاج الارض نلتمس رزقنا بعيدا عن جحيمه يأتى فيسمينا الاعلاميين العاملين بالخارج، ويعقد لنا مؤتمرا؟!) والحق اننى وجدت فى قلب ذلك التساؤل الضخم منطقا متماسكا ذى سلطة وجبروت. تا الله ما كذب الرجل. تلك هى الحقيقة تسطع بشمسها وتحدث عن نفسها. خطر بذهنى على الفور المثل الشعبى: ( الاضينة دقو واتعذر ليهو)، او بالاحرى ( دقو ثم اعقد له مؤتمرا). يا لتعس من تسميهم العصبة المنقذة " الاعلاميين العاملين بالخارج". بعض منهم اقتلعهتم الانقاذ، فى عهدها الاول الاسود الاغبر، من تربتهم اقتلاعا وضيقت عليهم الخناق وسدت عليهم المنافذ، فما خلّت بينهم وبين الرغيف يكتادونه فى وطنهم وبين اهليهم، ولا تركتهم يأكلون من خشاش الارض فى حقول الاخرين. كأنها– مثلما محمود درويش - خشيت عليهم قمح الآخرين وماءهم: ( القمحُ مرٌ فى حقول الآخرين / والماءُ مالح / والغيمُ فولاذٌ / وهذا النجمُ جارح )! أتى علينا حين من الدهر كان بعض هؤلاء اذا وجد من رغب فى توظيف خبراتهم من المنظمات غير الحكومية السودانية او الاجنبية داخل الوطن حالت أجهزة الانقاذ بينهم وبين فرص الاستخدام والكسب الحلال، اذ الزمت المنظمات بألا توظف فى سلكها من السودانيين أنسا ولا جنّا بغير موافقة مكتب معين فى وزارة العمل. وما كان موظفو ذلك المكتب يملكون من امرهم شيئا، فقد الزمتهم هم انفسهم جهات اخرى بأن تقدم لها الاسماء لمراجعتها وفحصها، فيمر العام والعامين فما تفرج عن اسم واحد. فاذا ابتغى هؤلاء البؤساء الفرار بغبنهم الى الخارج حالت بينهم وبين مرادهم الحوائل، فتأشيرات المغادرة والمطارات والموانئ يقف على ثغورها جلاوزة غلاظ الأكباد. تلك عهود كوالح لا أعاد الله لها صبحا، لياليها كئيبةٌ مدلهمة ونهاراتها تعيسة بئيسة ينقبض لها الفؤاد، تذكرها فتتمنى لو انك تذكر عوضا عنها ملك الموت. أفنلوم من العباد من ذكرها وهو يُدعى الى مؤتمر تعقده الانقاذ، ويحرسه ذات الجلاوزة غلاظ الأكباد؟! ولكننى أعدت البصر كرتين فذكرت الاحرار من أبناء وطننا الغالى، من الذين سلخوا اعمارهم، حتى انحنت منهم الظهور، وهم يحملون السودان فى حدقات العيون، يزودون الطير عن ثمره، ويخشون عليه من خطرات النسيم ان تدمى له بنانا. ذكرت المئات من قادة وكادرات التنظيمات السياسية ممن طووا المقادير المقدرة من سنى حياتهم تحت الارض، وفى سجون الانقاذ وفى المنافى والمعسكرات. وذكرت قادة المجتمع المدنى فى السودان ورواد حركة الوعى التغييرى وفرسانه، وفى طليعتهم المثقف الوطنى الدكتور حيدر ابراهيم على، الذى حارب الانقاذ منذ بيانها الاول فقعد له سدنتها كل مرصد وأحكموا الانشوطة حول عنقه، ثم فرضوا عليه المنافى شرقا وغربا ليقضى فى تخومها السنون الغبراء. عاد هؤلاء جميعا الى البلاد بمحض ارادتهم وكامل وعيهم، مكابرةً على الجروح وتسامياً على عزة الذات، يحاورون الحاكمين من فوق خشبات منابرهم ويحتكمون الى المحكومين فى اسفل المحراب، ويكدّون لتثبيت الحقوق والمنافحة عن مبدأ سيادة القانون وإرساء قواعد التحول الديمقراطى المرتجى وتعضيد ركائزه، وتسريع وتائره، وفضح المتآمرين عليه. يجاهدون شرور العصبة المنقذة وغرورها وسيئات اعمالها بالكلمة والموقف والقدوة. يقول القائل: ولكن العصبة ومن ظاهَرها من الحضر والبوادى، سادرون مستحكمون فى قلاعهم لا ينزلون من صياصيها، فنقول: نعم، لكنهم سيرون وسيسمعون وسيحسون الوميض تحت الرماد، لو أننا جميعا نفخنا فيه ملء رئتينا، كما يفعل حيدر وأمين مكى مدنى ومحجوب محمد صالح وسعاد ابراهيم احمد وكمال الجزولى والحاج وراق وفيصل محمد صالح وفيصل الباقر ورباح الصادق، ومن تبعهم بإحسان من المرابطين تحت هجير شمس الداخل. وكل هؤلاء لا يستنكفون مقارعة الانقاذ من فوق منابرها ومن فوق منابر الجن الأحمر، دون قيد او شرط. يقولون كلمتهم .. ويمشون. وأمام ناظرينا جماعة " شبكة الصحفيين "، ومن والاهم وحالفهم من المرابطين على ثغور معركة التحول الديمقراطى، وهم يجوسون محافل الانقاذ ليل نهار، ويقيمون اقامة شبة دائمة داخل قاعات ومكاتب المجلس الوطنى، سلطة الانقاذ التشريعية، ويواجهون أعضاء البرلمان ورؤساء لجانه من اساطين العصبة المنقذة ويحاورونهم ويداورونهم، حتى كتب الله لمدافعتهم ومدافرتهم بعض النجاح فى معركتهم الباسلة ضد مشروع قانون الصحافة والمطبوعات سئ السمعة. وقد كان من ثمرة جهاد هذه الجماعة نزع العديد من النصوص المتعدية على مبدأ حرية الصحافة من صلب المشروع، واقرار المادة (5 ب) التى تنص على أنه: ( لا تفرض قيود على حرية النشر الصحفى الا بما يقرره القانون)، و(لا تتعرض الصحف للمصادرة او تغلق مقارها او يتعرض الصحفى او الناشر للحبس فيما يتعلق بممارسة مهنته الا وفق القانون). فما بالنا نحن اهل الخارج نستنكف محافل الانقاذ، او نتصنع الاستنكاف، ونعده مزية تُورث القدح المعلى، فنتوهم انفسنا ابطالا، ونصفق لانفسنا، وندعو السابلة ليصفقوا لنا، وكأننا فتحنا عكا؟! الديمقراطية لا تنحصر لزوما ولا تتمحور – كما يظن الكثيرون – حول مبدأ قيام انتخابات حرة ونزيهة. الانتخابات واحدة من اركانها. غير ان من ابرز مستحقات الحياة الديمقراطية وجود مجتمع مدنى حيوى ومؤثر، تغذيه صحافة حرة ويحرسه قضاء مستقل. وتلك اشراط لا تتحقق بغير عمل تفاعلى حقيقى بين الناس يتصاعد بالمطالب الوطنية درجا فوق جسورالحوار المدعوم بالارادة السياسية الشعبية. والحوار اذا تحققت مقتضياته واكتملت مستوجباته واصبح لازما فإنه لا يتم الا فى اطار الفكر والايديولوجيا والموقف السياسى، ولا يكون الا بين أقطاب متضادة او قطبين متضادين. وواهم، يخادع نفسه ويخادع الناس، من يظن أن الانقاذ ومؤسساتها فى سودان اليوم أرقام عارضة يمكن تجاهلها وتجاوزها بلاءات مثل ( لاءات الخرطوم ) البلهاء، التى جعلت من اسرائيل اكبر قوة ضاربة فى الشرق الاوسط وأحالت بنى يعرب الى غثاء كغثاء السيل. وفى اتجاه تكريس هذا الوعى طرحنا رأينا فى تواضع وخشوع، ودعونا اخوتنا الاعلاميين والصحافيين من عتاة المعارضين فى الولاياتالمتحدة، من عناصر المجتمع المدنى الزاكية الذين تنعقد عليهم آمال النقلة الديمقراطية المرتقبة، الى المكابرة على ظلامات الماضى واعتماد مبدأ التفاعل الايجابى (Constructive engagement) عوضا عن اطلاق اللاءات المجردة فى هواء السماء، وذلك بالمشاركة فى ملتقى الحوار الاعلامى، والصدع بمطالبهم المشروعة وفى مقدمتها كفالة حرية الفكر والتعبير من فوق منابر العصبة المنقذة، تناغما وتلاحما مع القوى الوطنية المستنيرة التى تعافر وتدافر فى الداخل، دون ان تتبع مدافرتها ومعافرتها بالمن والأذى. كما دعونا أصحاب القلوب الواجفة والايدى المرتجفة من بين اخوتنا، ممن قدموا رجلا واخّروا اخرى خوفا من (كلام الناس)، للاقتداء بنا وترسم خطانا فى المجاهرة بالاكل على موائد الانقاذ، دون خشية او خوف، اذا بُسطت لهم أسمطتها، تتربع عليها الحملان الممتلئة بالارز والمكسرات، وتلال الجنبرى والسمك المشوى، استنانا بالحكمة الشعبية السودانية الاصيلة ( اُكُل اكِل صديقك تسره، وأُكُل اكِل عدوك تضره). ولكنك لا تهدى من احببت! (4) من بين الجلسات التى حظيت باهتمامى – وغيرى - حضورا ومتابعة جلسة التنوير السياسى الشامل التى تحدث فيها السيدان المستشار الرئاسى الدكتور غازى صلاح الدين ممثلا للحكومة المؤتمرية الوطنية والدكتور بيتر ادوك وزير التعليم العالى ممثلا للشريك الحركى الشعبى. كنت قد سمعت الكثير عن رقة غازى ولطفه وسماحته وجنوحه للسلم، ولكننى لم أر شيئا من ذلك. ما أسرع ما استجاب الرجل للانفعال فانفعل. تحدث ممثل الحركة الشعبية عن التواء العصبة المنقذة ببعض عهودها وتخاذلها عن الوفاء بالتزاماتها المقررة فى الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، فركب غازى من فوره عفريت مريد واذا بنا نسمع منه ردودا عنيفة وقاسية ومستفزة، حتى اجفل الوزير ممثل الحركة الشعبية وكست وجهه معالم الاندهاش والوجل. لا حول ولا قوة الا بالله. أهذا هو غازى الذى حدثونا عن عذوبته ورقته وسلاسته، فماذا يكون يومنا غدا مع نافع الذى حذرونا مقدما من غلاسته وصلافته وقوة شكيمته؟! ولكن اكثر ما أهمنى فى الخلاف المذاع بين الدكتور غازى صلاح الدين والدكتور بيتر أدوك هو الالحاف فى السؤال عن مصير الأموال التى تلقتها الحركة الشعبية من الحكومة المركزية وفاءً بمقتضيات اتفاقية نيفاشا. وهى اموال حددها غازى فى ست مليارات من الدولارات، وان كانت مصادر مؤتمرية وطنية اخرى قد رددت على مسامعنا بعد ذلك رقما مغايرا، وهو سبعة و ثلاثة من عشرة مليار دولار. كان غازى يلحف فى السؤال ويعيده ويزيده بعناد شديد: اين ذهبت هذه الاموال، ولم نر فى الجنوب لا بنيات تحتيه تُشيد ولا مرافق خدمية تُنشأ، وحتى مرتبات الموظفين والجنود تعجزون عن دفعها؟ هل يبدو لك هذا السؤال - ايها الأعز الاكرم - قاسيا شديد الحرج لعناصر الحركة الشعبية؟ هل يخيل اليك ان هؤلاء سيتضاءلون خجلا وينزوون الى ركنٍ ناءٍ كلما جوبهوا بسؤال كهذا؟ أبدا والله. كلما سألت واحدا من الحركة الشعبية بعد ذلك ذات السؤال، وقد التقيت وحادثت عددا من قادتهم البارزين، لم اسمع منهم غير رد واحد يتيم: يسألوننا عن ستة مليار دولار؟ فليحدثونا هم اولا عن الاثنين واربعين مليار دولار، التى اخذوها نصيبا لهم وفقا لذات الاتفاقية ولم نر لها اثرا او بيانا فى ميزانيات الحكومة الرسمية إيرادا او تقارير المراجع العام انفاقا!! (5) عشرات المليارات من الدولارات من حر مال الشعب وثروات نفطه يثار حولها الغبار بين الفرقاء على قارعة الطريق، حتى نكاد نختنق ونحن نبحث عن الهواء النقى فلا تتلف منا الرئتان. ثم صددنا عائدين من حيث أتينا فاذا بالزيطة والظاظا والرسوم الكاريكاتورية الساخرة تملأ موقعنا الاسفيرى على الشبكة الدولية، حيث الرهط من عشيرة بنى ثقيف. استفسرنا فأتانا الجواب: انهم يسألون عن الأكل والشرب، وعن فاتورة العشاء الفاخر الذى قيل ان رئاسة مجلس الوزراء قد اقامته للمؤتمرين فى حديقة القيروان وقدمت فيه اطباق الجمبرى وأُم على والبسبوسة. يا الهى، ما اعجب أصحابى هؤلاء، يقتلون الحسين ويسألون عن دم البرغوث! عن صحيفة ( الأحداث ) مقالات سابقة: