النجاح الذي حققته الحركة بإعادة توحيد قوى الإجماع، مهما كان حجمه أومستقبله، قض مضجع النظام، ولكنه قبل ذلك قض مضاجع الكثيرين ممن لا يضمرون لحركتنا خيراً. إنهم في ذلك لا يتوقفون عند حد، إنما يلوون عنق التاريخ والحقائق، للنيل منا، ومن شاكلة ذلك المداخلات الإسفيرية لبعض من تركوا الحركة وغيرهم، في الأيام الفائتة. لتمرير مرارتها وخصوماتها الفاجرة، تحاول تلك الأقلام أن تتدثر بغطاء فكري وسياسي يتكيء على مقولات القوى الجديدة مقابل القوى القديمة أو التقليدية، وتهاجمنا باعتبارنا قد هجرنا موقف القوى الجديدة وأصبحنا جزءاً من القوى القديمة والتقليدية، كما تزايد علينا بالتزلف إلى مقالات لمؤسس الحركة الخاتم عدلان .. إلخ. وهناك أيضاً من يقلل من شأن ما قامت به الحركة، بقوله أن الخلافات التي أطفأنا نيرانها سرعان ما ستندلع من جديد، أو أن تلك الزعامات هي أصلاً جزء من النظام .. وغير ذلك من أنصاف الحقائق. في يناير 1997 في المؤتمر الأول للحركة في أسمرا، طرح تقديم طلب الحركة للانضمام للتجمع الوطني الديمقراطي، وهو الوعاء الذي ضم جميع القوى التقليدية والقديمة والزعامات الطائفية، والتي لم يكن خافيا على أحد تورطها بشكل ما وقدر ما في تمرير انقلاب الانقاذ ولم يكن سرا اتفاقها معه في بعض القضايا الفكرية والسياسية. ولكن كل ذلك لم يمنعنا من طرح تقديم الطلب للتجمع. نوقشت القضية في المؤتمر، واتخذ فرع كندا (حيدر قاسم وثروت وطلعت) موقفاً معارضا للطلب وصل حد الابتزاز بأنهم سيستقيلون من الحركة إن أقدمت على تقديم مثل ذلك الطلب. لقد ناقشناهم مطولا في ذلك، ولكن في النهاية صوت جميع المؤتمرين، فيما عدا ممثلي كندا، مع تقديم طلب الانضمام ورفض كل المقولات اليسارية الطفولية المتطرفة، من شاكلة رفض التعامل مع القوى التقليدية الطائفية الرجعية المسئولة تاريخيا عن أزمات البلاد .. إلخ، التي أطلقها أولئك السادة المدججون دوماً بالضجيج. ذلك الخط الذي يحاول عادل عبد العاطي وبشير بكار وجوقتهم أن يبتزونا به، ويزايدوا به علينا، تمت هزيمته هزيمة ساحقة في مؤتمر الحركة الأول في يناير 1997، ولكنه منذ ذلك الحين ظل مطية لكل من يضع (كراعا جوه وكراعا بره) الحركة إلى أن يستقيل منها أو ينقسم عليها أو بين بين. ولكن الحركة لم تتوقف في هزيمة ذلك الخط عند مجرد تقديم الطلب للتجمع الوطني الديمقراطي، وإنما، ورغم رفض التجمع لذلك الطلب، والتآمر الذي تم علينا من القوى القديمة والجديدة معا، بل ومن القوى الجديدة قبل القديمة، فقد ثابرنا في متابعته، وظل الزميل الخاتم يسافر إلى أرتريا ويقضي الأشهر الطوال في أسمرا، مترصداً ومصاقرا اجتماعات هيئة القيادة صباح مساء، يجدد تقديم الطلب، ويستجيب لكل الطلبات المعجزة والمستفزة في صبر وأناة، ولم يقل ولامرة واحدة، رغم اليأس والإحباط الذي غمرنا جميعاً، مالنا وهذه القوى الرجعية التقليدية القديمة... ولماذا الإصرار على الانتماء لتحالفها؟ ليس ذلك فحسب، وإنما ورغم رفض التجمع لطلبنا، فإننا لم نتوقف عن تقديم الدعم والمساعدة والنقد الإيجابي له محاولين ما استطعنا أن نسهم في تعزيز قدراته وفعاليته. إذا قال قائل أن ذلك الموقف كان قبل 15 سنة، وأن مياهاً كثيرة جرت تحت الجسر منذ ذلك الحين، نتفق معه، ولكن عليه أن يقنعنا أولاً أن حال المعارضة السودانية اليوم، وبعد 15 سنة من ذلك الموقف في 1997، هو أفضل وليس أسوأ، وأنها حققت نجاحات واختراقات، لا تراجعات وانكسارات، وأن القوى الجديدة قد نمت وترعرعت وشبت عن الطوق واستطاعت أن تجعل من نفسها قوة يؤبه لها ويعتد بها، وأن بوسعها أن تقاتل هذا النظام ومعه كل القوى التقليدية والقديمة وتلقي بهم جميعاً في مزبلة التاريخ. هناك الكثير من الكلام الفخم والضخم، والكثير من التنظير الهلامي والثرثرة فوق النيل وفوق التيمز والدانوب والراين والبوتوماك وكل انهار الأرض عن حرب القوى الجديدة والقديمة هذه، ولكن كله جعجعة فارغة وأسياف عشر لا غير. حينما تكون على البر بينما الناس يصارعون الأمواج، وحينما تكون يدك في الماء بينما أيدي الناس في الجمر، يكون الكلام سهلاً والثرثرة مجانية. ما هي هذه القوى الجديدة؟ أهي التي قال عنها الخاتم عدلان في ورقة داخلية لحركة حق (ولكنها في حوزة عادل عبد العاطي بحكم عضويته في الحركة بالوكالة) ما يلي: "قيادات القوى الجديدة جديدة ببرامجها السياسية والفكرية، في الحدود التي تتعامل فيها مع الفكر. ولكنها ليست جديدة في بنيتها التنظيمية وأساليب عملها السياسي وتحالفاتها وموقفها من الإتفاقات والعهود. وهذا يعني أن هذه القيادات الجديدة، ليست جديدة إلا جزئيا فقط. إنها قوى قديمة في كل ما يتجاوز الإركان العامة لبرنامج جديد، وفي كل ما يتجاوز الشعارات والمواقف المعلنة." أو تلك التي قال عنها في نفس الورقة: "ففي كل التجارب التي دخلنا فيها مع قيادات هذه القوى، جابهتنا بالمحاولات الفظة للإبتلاع والإحتواء وإجهاض ما نمثله من وعد بنشوء قوة ديمقراطية حقا في السودان. وفي كل تجاربنا معها لم تقف معنا حتى فيما وقفت فيه معنا القوى التقليدية مثل حزب الأمة، وخاصة فى عضوية التجمع. بالإضافة إلى ذلك فإن أي تنظيم من تنظيماتها لا يمكن أن يدعى أنه يقوم على اساس من الديمقراطية والمؤسسية والقيادة المتضامنة والمحددة الصلاحيات." أين هي هذه القوى الجديدة التي يطنطنون بها على أرض الواقع؟ ما هي تنظيماتها السياسية القائمة؟ نحن نعرف التحالف السوداني ونعرف المؤتمر السوداني، وكلاهما عضو معنا في تحالف قوى الإجماع الوطني، ونعرف الحركة الشعبية لتحرير السودان، سواء بقوامها الكامل أو قطاع الشمال، والتي كانت عضواً في هذا التحالف باسم تحالف جوبا، ثم استمرت كقطاع الشمال عضوا فيه بعد الانفصال، ولم تنسلخ عنه أو تبعد عنه حتى الآن، وإنما أضطرت للانتقال للعمل بشكل آخر بينما لا زال مقعدها شاغراً، وهناك قوى تحالف كاودا، ودونكم رسالتهم الأخيرة لتحالف قوى الإجماع الوطني والمنشورة للقاصي والداني. إذن ما هي هذه القوى الجديدة التي لم تتلطخ بعد بنفس الأوحال التي خضنا مستنقعاتها نحن في حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق)، والتي لم تتسخ أياديها وأجسادها بمصافحة القوى التقليدية والجلوس إلى جانبها مثل ما اتسخت أيادينا وأجسادنا. أهي الحزب الليبرالي؟ الحزب الذي لم يعد من الممكن وصفه إلا بأنه، تهذيباً، العنوان الدائم لجميع المنقسمين والمفصولين والمطرودين من حركة القوى الجديدة الديمقراطية (حق)، بحساباتهم الصغيرة وأحقادهم الضخمة! حينما تكون أقدامنا على أرض الواقع هناك حقائق صلدة نتعامل معها مهما كانت قسوتها، ولكن حينما تكون أفهامنا على سحاب الأحلام والتمنيات، فهناك أوهام كثيرة يمكننا أن نخلد إليها، ونرتاح. إن الذي يرفض الحقيقة الواضحة وضوح الشمس أن الغالبية الساحقة من جماهير شعبنا لا زالت أسيرة للتخلف بواقعه وعلاقاته وبنياته التقليدية والقديمة، بما فيها الطائفية والقبلية والعشائرية، ويظن أنه بوسعه استبدال تلك الجماهير بحلقات صفوية نخبوية ضيقة، لايمكن أن يكون إلا دكتاتوراً مكتملاً أو مشروعاً لذلك. لقد حاول عادل عبد العاطي ومن لف لفه من قبل ابتزازنا برؤيته البائرة عن التحالفات مع ما يسميهم هو بالقوى الجديدة، والذين لا يمكن أن يكونوا خارج دائرة أوامره ونواهيه، وهاهو يحاول نفس الأمر من جديد ومعه هذه المرة رهطه، الذين ظلوا جسداً معنا في الحركة، و لكن، قلباً وفكراً وعقلاً، معه في الليبرالي، مفصحين هذه المرة عن وجوههم الحقيقية. إنهم يكررون نفس الأسلوب بإعادة نشر مقالات للزميل الخاتم باعتبارها خطاً سياسياً للحركة، تقوم الحركة الآن بالتخلي عنه. لعادل ورهطه القديم الجديد نقول أولاً، أن خط الحركة لا يصاغ في مقالات الخاتم، مهما كان اتفاقنا معها، وإنما في وثائق الحركة المجازة في مؤتمراتها وهيئاتها الرسمية. لهذا، بالإضافة إلى مقولات الخاتم عن القوى الجديدة المقتطفة أعلاه، نقتطف من ورقة إعادة البناء ووحدة القوى الجديدة التي أجازها المؤتمر الثالث للحركة في يناير 2006 ما يلي: "لقد تبين لنا من خلال المحاولات الدؤوب والحوارات المتواصلة أن كثيرا من هذه القوى التي تضع نفسها في هذا الإطار لا تملك من الجدة إلا الشعارات وأنها في واقع الأمر تتبنى نفس مناهج وأساليب وتصورات القوى التقليدية من حيث تكالبها على الزعامة والدكتاتورية والتآمر وغيره والفارق الوحيد هو أن القوى التقليدية لديها من السند والرصيد الاجتماعي ما قد يسوغ لها ذلك." وثانياً، أن الخاتم نفسه كان يفرق كثيراً بين رؤيته كمفكر وبين مواقف الحركة التي تمليها ضرورات ومتغيرات الواقع السياسي. وثالثا، أن مواقف الخاتم الفكرية لم تمنع الحركة مطلقاً من اتخاذ مواقف سياسية لم تكن متفقة بالكامل مع تصورات الخاتم، وكمثال نورد الموقف من الحزب الشيوعي السوداني. وأخيراً، فنحن على قناعة بأن التحالف لا يعني التماهي أو إلغاء التمايز، وإلا لكان الأصوب أن نكون جميعا مع من نتحالف معهم في حزب واحد بدلاً من أحزاب شتى. نحن في (حق) لنا، كما للآخرين في أحزابهم، رؤى سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية متكاملة وشاملة، لا نفرضها على تلك الأحزاب كما لا تفرض تلك الأحزاب رؤاها علينا، ولكن رؤانا جميعاً تتقاطع وتتفق إلى هذا الحد أو ذاك بشأن قضايا معينة، وهذا هو إطار التحالف. خلط الكيمان وإثارة الغبار الكثيف حول هذا الموضوع البسيط، لا يمكن أن يكون إلا لأهداف خبيثة. نحن نعلم تماماً منطلقات ومرامي هجوم السيد عبد العاطي المستمر علينا والذي دخلت على خطه هذه المرة جوقته الجديدة القديمة. إنها، وطالما المجال مجال الاقتباس من الراحل الخاتم عدلان، ليست أقل مما وصفه الخاتم بقوله "انطلاقا من انتماءاتها الجزئية للجديد، وتوجهاتها الإحتوائية للآخرين، وهيمنتها الفردية على تنظيماتها الخاصة أو على اي تنظيم مشترك للقوى الجديدة، فان هذه القيادات يمكن أن تتوهم فينا ما نراه فيها، أي أن تعتقد أننا بصدد تحقيق الأهداف ذاتها التي ترمى إلى تحقيقها هي، لأنها لا تفصح عن هذه الأهداف بطبيعة الحال، ولا تتوقع منا أن نفصح عنها ايضا." هل من مرآة أكثر جلاء من هذه يمكن للسيد عبد العاطي أن يرى وجهه فيها بوضوح؟ متى يفهم السيد عبد العاطي أن منطلقاتنا ليست منطلقاته، وأن أهدافنا ليست أهدافه، وأننا أحرار في أن نيمم وجهنا أينما شئنا، فهو ليس وصياً علينا. لديه تنظيمه، ولديه جوقته، فلماذا لا يتكفل هو بمسألة توحيد القوى الجديدة هذه، ويتركنا في حالنا نجرب حظنا ونعافر مع القدماء والتقليديين والرجعيين والعملاء والخونة؟ الذين يثيرون ذلك الغبار يصورون أنفسهم كأنما هم ينطلقون من مواقف فكرية متسقة ومتماسكة ومن قيم ومباديء اخلاقية واضحة وثابتة، بينما في حقيقة الأمر هم أبعد ما يكونون عن ذلك. هناك من بينهم، على سبيل المثال، من كان أقرب إلى أن يكون عضوا في الحركة الشعبية لتحرير السودان من أن يكون عضوا في حق، حتى إذا جاء انقسام وراق وكان من بين أسبابه الرئيسية، في أدبيات وراق وجناحه، قرب حق الشديد من رؤية ومواقف الحركة الشعبية التي لم تك في عرف الحاج سوى منظمة تحاول أن تلغي الثقافة العربية الإسلامية وتستبدلها بالأفريقانية، حتى إذا جاء ذلك الانقسام، ألقى بولهه بالحركة الشعبية في أقرب مكب، وانحاز إلى الحاج وراق تماما دون نقاش. إنني أتعجب من قدر الصرامة المبدئية والأخلاقية التي يحاكمون بها موقف الحركة من التحالفات السياسية بينما تنعقد ألسنتهم ويصمتون صمت القبور إزاء الفساد المالي والإداري المفضوح لولي نعمتهم الجديد وعراب مؤتمرهم الأخير صاحب المركز، بل بينما يتمرغون في تراب ذلك الفساد ويباركون بين صفوف قيادتهم مفرغي الضمير والأخلاق من شاكلة مخبري وجواسيس صاحب المركز الصغار. هل تقبل المباديء والأخلاق القسمة، وعلى "كم"؟! من يحاولون تصوير الصراع السياسي الرئيسي في السودان باعتباره صراعا بين القوى الجديدة والقوى القديمة، ذاهلون تماما عن واقع الأشياء، بل ومتورطون أيضا في خدمة أجندة النظام بوعي او بغير ذلك، ويلعبون في أيدي النظام ولصالح حساباته، شاؤا أم لم يشاؤا. إن تصوير الصراع على ذلك النحو لا يمكن اعتباره، في أفضل التقييمات، إلا قفزاً على المراحل. الصراع الآن هو بين كل القوى الوطنية والديمقراطية والمسحوقين والمهمشين وهم الغالبية الساحقة من الشعب السوداني ضد نظام أقلية ضئيلة فاسدة شمولية إقصائية. نحن نناضل مع كل القوى الوطنية والديمقراطية وكل القوى المعارضة لبناء وتوحيد أوسع تحالف ضد سلطة الإنقاذ بهدف عزله تماماً ومن ثم العمل على تغييره أوإسقاطه. إن فرز الكيمان على غير هذا النحو لن يؤدي، من وجهة نظرنا، إلا إلى شق صفوف قوى المعارضة وبالتالي إضعافها، وإلى تقوية صف النظام وإضافة قوى مؤثرة لمعسكره. إن المطلع في عجالة على تصريحات مساعد رئيس الجمهورية نافع على نافع تعليقاً على المصالحة التي تمت بين زعيمي حزب الأمة القومي والمؤتمر الشعبي، وكذلك المطلع العابر على مقالة رئيس تحرير الانتباهة تعليقا على ذات الأمر، يدرك تماما مغزى ما نقول. إذا كان ذلك الأمر يثير حنق المؤتمر الوطني والسلطة إلى ذلك الحد، فلماذا يثير حنق أدعياء المعارضة هؤلاء بنفس القدر، بل وربما أكثر؟!