شاركت الأسبوع الماضي في ندوة تناولت جانباً من العلاقات السودانية الأفريقية ، تحدث بعض المشاركين فيها عن عدم اهتمامنا بالقارة الأفريقية ونظرتنا المتعالية حيالها. وقد صدق هؤلاء عندما اشاروا للحيز الضيق الذي تحتله الشئون الأفريقية في مناهجنا الدراسية وفي أجهزة إعلامنا ، وعزوا ذلك لأننا نتلقى جل معلوماتنا عن القارة الأفريقية من أجهزة الإعلام الغربية التي درجت ولوقت طويل على وصم الشعوب الأفريقية بالتخلف ووصف أفريقيا بأنها قارة بلا تاريخ. ومما لا شك فيه كذلك أن بعض المفاهيم السالبة التي سادت في المجتمع السوداني نفسه وبصفة خاصة فيما يتصل بالعلاقة بين مكوناته الثقافية المختلفة قد أضافت لهذا الانطباع العام عن القارة الأفريقية ، وانعكست بصورة أو أخرى على علاقاتنا بها. ولعل المتابع للحراك السياسي والاجتماعي في بلادنا يجد أننا لا زلنا نرسل الوفود والبعثات شرقاً وغرباً للإطلاع على تجارب الشعوب الأخرى دون الالتفات للقارة الأفريقية التي خطت بعض دولها خطوات واسعة نحو تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية. وساتناول في هذا المقال باختصار تجربة أفريقية أرى أنها تستحق الدراسة وهي تجربة جزيرة موريشص الصغيرة في المحيط الهندي وهي الجزيرة التي تقع بعيداً عن مركز العالم في الجزء الجنوبي الشرقي من القارة الأفريقية. أسعدني الحظ بزيارة هذه الجزيرة الوادعة في عام 1976 ضمن وفد السودان لاجتماعات القمة الأفريقية التي عقدت هناك ، وهي القمة التي شهدت المواجهة الشهيرة بين الرئيس الراحل جعفر نميري ورئيس الوفد الليبي الشاب عندئذ على التريكي وذلك موضوع آخر ليس هذا مجال التفصيل فيه. قد يعجب الكثير من القراء الأعزاء أن التعليم في موريشص مجاني حتى المرحلة الثانوية ، وكذلك العلاج بما في ذلك عمليات القلب المفتوح وعلاج العيون بتقنيات الليزر. هذا فضلاً عن أن المعاشيين في الجزيرة يتلقون مخصصات مجزية من الدولة تكفيهم شر المسغبة ، وتتوفر لهم الكثير من المزايا مثل ميزة الترحيل المجاني على وسائل النقل العام. كما أن 86% من سكان الجزيرة لا يساورهم القلق بشأن توفير مبلغ إيجار المنزل آخر كل شهر إذ أنهم يملكون منازلهم الخاصة وتعتبر هذه النسبة من أعلى النسب على مستوى العالم ، وبالاضافة لذلك فإن 99% من منازل الجزيرة تتمتع بخدمات المياه النظيفة والصرف الصحي. وقد استطاعت الجزيرة تحقيق نسبة نمو اقتصادي سنوي بلغت في المتوسط 5% خلال الأعوام الخمسة وثلاثين الماضية مقارنة بالنسبة التي حققتها القارة ككل والتي لم تتجاوز 2,9% ، كما ارتفع الدخل القومي خلال نفس الفترة بنسبة عشرة أضعاف. كيف استطاعت هذه الجزيرة التي لا يتجاوز عدد سكانها المليون إلا بقليل ، وتزيد مساحتها الكلية بالكاد عن ألفي كيلومتر مربع ، وتفتقر للموارد الأولية تحقيق كل هذه النتائج المذهلة؟ لا شك أن الكثير من الأسباب قد طرحت لتفسير هذه المعجزة الاقتصادية والاجتماعية التي لم نهتم في بلادنا بدراستها حتى الآن. وتدور محاولات التفسير حول عدد من العوامل يمكن ان نجملها في الاستقرار السياسي ، وتدني مستويات الفساد ، والسياسة الاقتصادية الرشيدة التي يمثل القطاع التجاري فيها قوة الدفع التي تقود البلاد نحو التنمية الاقتصادية. عندما خرج الاستعمار من موريشص في عام 1968 ترك خلفه مجتمعاً منقسماً على عدد من الإثنيات وهم الفرنسيون ، والكريول الذين يمثلون خليطاً نتج عن التزاوج بين السكان المحليين والأوربيين ، ثم الآسيويون الذين ينقسمون بدورهم إلى هنود وصينيين. ورغم أن البلاد شهدت بعض الاضطرابات في نهاية القرن الماضي من جانب الكريول إلا أن الوضع السياسي فيها تميز بالاستقرار. اختارت البلاد عند استقلالها نظام الحكم البرلماني ، غير أن تجربتها تشير إلى عجز أي حزب حتى الآن من الحصول في البرلمان على الأغلبية التي تمكنه من الحكم منفرداً فبرع أهل الجزيرة في التوافق السياسي إذ لم تشهد حكوماتهم الائتلافية المماحكات السياسية التي ابتليت بها بلادنا في العهود الحزبية ، وقد كانت هذه المهارة سبباً في اتباع سياسة اقتصادية متوافق عليها من جانب الجميع أصبحت الأساس الذي قامت عليه المعجزة الموريشية. كما أن الاستقرار السياسي والاقتصادي كفى الجزيرة شر تدخل القوات المسلحة في أمور السياسة وهي الآفة التي ابتليت بها الغالبية العظمى من الدول الأفريقية ، خاصة وأن تدخل العسكر لم يوفر الاستقرار المنشود في دول القارة بل قاد في الكثير منها إلى لعكس تماماً. في الجانب الاقتصادي استطاعت حكومة الجزيرة بما توفر لها من توافق سياسي واجتماعي من الوقوف في وجه وصفات صندوق النقد الدولي الكارثية التي لم تؤد في الدول الأخرى إلا لزيادة معاناة الجماهير. وسعت الحكومة بجدية لتنويع مصادر الثروة بعد أن كان اقتصادها يعتمد بصورة كاملة على انتاج وتصدير السكر ، فعملت على تطوير القطاعات الأخرى وبصفة خاصة قطاع السياحة مستغلة شواطئها النظيفة الممتدة فاصبحت قبلة للسياح من جنوب وشرق أفريقيا. كما تمكنت الحكومة من توفير الجو المناسب للتنسيق الكامل بين القطاعين العام والخاص ، وفتحت البلاد للاستثمار الأجنبي الذي جذبه الاستقرار السياسي والاقتصادي فتدفقت رؤس الأموال الاجنبية من كل حدب وصوب. وتعاظمت في الفترة الأخيرة قدرة موريشص على لعب دورها كسوق مالية واصبحت حلقة وصل مهمة بين المستثمرين من القوى الآسيوية الصاعدة وعلى رأسها الصين والهند وبين الأسواق التي تشهد معدلات نمو عالية في شرق أفريقيا وجنوبها. استطاعت موريشص عبر السياسات الحكيمة لنخبها السياسية أن تحول كل نقاط ضعفها ابتداء من الموقع البعيد ومروراً بالتركيبة الإثنية وفقر الموارد إلى أسباب للقوة جعلت منها مثالاً يحتذي في التنمية السياسية والافتصادية. ليس من الحكمة بالطبع نقل التجارب الناجحة في الدول الأخرى بحذافيرها ولا بد من تطويع هذه التجارب لظروف بلادنا الخاصة. إلا أن اعتقادنا هو أن تجربة تلك الجزيرة الصغيرة التي تقع في ركن قصي من العالم تستحق الدراسة المتعمقة من جانب مسئولينا بغرض الاستفادة منها في مواجهة مشاكلنا الاقتصادية والسياسية ، فالحكمة ضالة المؤمن. Mahjoub Basha [[email protected]]