بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: (هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) .. الآية هذا بلاغ للناس توطئة: كالعادة يفاجئنا الإمام الحبيب بما يمكن السكوت عليه وعض النظر عنه ، أما إن أراد أن يثبت لنا أنه العلامة والبحر الفهامة ليقدس سره ، فيكون قد (طبز) هذه المرة طبزة عمره فأدخل بها نفسه في عشٍ ليس مكان لسُكنى طيرٍ عابر يلتقط من كل فجٍ حبة، فقد (طبز) حين أحل لنفسه حق الفُتيا في شرع الله وفي سنن نبيه المعصوم ، وهو كما نعلم رجل مجاز في الاقتصاد والعلوم السياسية أي كان عليه من اللياقة ومعرفة الرجل بقدر نفسه أن لا يقحم نفسه فيما لا يملك له أساس من علمٍ شرعي شامل وكامل الأركان ، فهو ليس بعالم دينٍ أو هو من العلماء الموثوق بهم ومجاز ومعترف به من هيئة علماء المسلمين ، وليس بدارس لعلوم الشريعة والحديث والسنة والفقه وحتى إن تثقف منها فهذا لا يكون بمثابة إجازة يدلف بها إلى مراتب الافتاء ؛ فلا يحق لأحدٍ حق الاجتهاد إلا إذا توافر عنده غزارة علم شامل تحصل عليها من ينابيعها تؤهله لأن يكون مجتهداً بأمور الفقه ، لذا إني أحيله لقولٍ خالدٍ للإمام أحمد بن حنبل إذ قال:[إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام]!! ، فالثقافة الدينية لا تعني التبحر بعلوم الدين وإلا لكان كل حافظٍ للقرآن وملماً بالسنن مفتياً لهذا كان وما زال عدد من يحق لهم حق الإفتاء قليلون؛ العلم الشرعي ، فالثقافة الدينية يتحصل عليها المسلمون من علماء الدين حتى يلموا بفرائضهم وأحكامها ومقاصد الشريعة حتى يتجنبوا الذنوب والشبهات والمتشابهات حتى لا يقعوا في المحظورات. إنها ثقافة شخصية لغرض شخصي ليقي نفسه وأهليه النار. على كل حال هذه المرة ( طبز) الإمام الحبيب وأذكره بالحكمة المأثورة:[ وهل يكب الناس علي وجوههم في النار الا حصائد السنتهم]!! قال الشافعي فيما رواه عنه الخطيب في كتاب الفقيه والمتفقه له: "لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلا عارفا بكتاب الله بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهة وتأويله وتنزيله ومكيه ومدنيه وما أريد به ويكون بعد ذلك بصيرا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن ويكون بصيرا باللغة بصيرا بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن ويستعمل هذا مع الإنصاف ويكون بعد هذا مشرفا على اختلاف أهل الأمصار وتكون له قريحة بعد هذا فإذا كان هكذا فله أن يتكلم ويفتي في الحلال والحرام وإذا لم يكن هكذا فليس له أن يفتي. وقال صالح بن أحمد: قلت لأبي: "ما تقول في الرجل يسأل عن الشيء فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال: "ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بالسنن عالما بوجوه القرآن عالما بالأسانيد الصحيحة" وذكر الكلام المتقدم. قال علي بن شقيق: "قيل لابن المبارك: متى يفتي الرجل؟ قال: "إذا كان عالما بالأثر بصيرا بالرأي . وقيل ليحيى بن أكثم: "متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: "إذا كان بصيرا بالرأي بصيرا بالأثر". قلت: "يريدان بالرأي القياس الصحيح والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام وجعلها مؤثرة فيها طردا وعكسا". "قال ربنا سبحانه و تعالى في محكم التنزيل [ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ] (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)"] سورة ق. الحاشية: سئل الشيخ الدكتور عطية صقر وهو من علماء الأزهر الشريف الذي يُشهد له عن خطورة الفتوى بغير علم فقال:[ خطورة الإفتاء بغير علم و ما حكم الدين فيمن يجترئون على الفتوى من غير أهل الاختصاص ويُحدِثون بلبلة بين الناس لتعصُّبهم لآرائهم؟ فأجاب: [ الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ، يقول الله سبحانه: (وما أُوتِيتُمْ مِنَ العِلْمِ إلا قَليلاً) (سورة الإسراء : 88) ويقول: (وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَليمٍ) (سورة يوسف : 76) ويقول: (قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) (سورة طه : 114) ويقول (فاسْألُوا أهلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (سورة النحل : 43) ويقول (ولا تَقولُوا لمَا تَصِفُ أَلسِنتُكُمْ الكَذِبَ هذا حَلالٌ وهذا حَرامٌ لِتفتَروا عَلى الله الكَذِبَ إِنّ الذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللهِ الكذِب لا يُفلِحونَ) (سورة النحل : 116). ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "إنَّ اللهَ لا يَقبِضُ العِلْمَ انْتِزاعًا يَنتزِعُهُ مِنْ قُلوبِ العِبادِ ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبضِ العُلماء، حتّى إذا لم يُبْقِ عالِمًا اتّخَذ الناس رؤساء جُهّالاً فأفتَوهم بغير علم فضَلُّوا وأضلُّوا" رواه البخاري ومسلم ويقول: "أجرَؤُكم على الفُتْيا أجرَؤُكم على النّار" رواه الدّارمي عن عبيد الله بن أبي جعفر مرسَلاً. ويقول: "إنّ عيسى عليه السلام قال: إنما الأمور ثلاثة، أمرٌ تبيّن لك رشده فاتبعه ، وأمرٌ تبيّن لك غَيُّه فاجتنِبْه، وأمر اختُلف فيه فرُدّه إلى عالم" رواه الطبراني في الكبير بإسناد لا بأس به. ويقول: "ألا سألَوا إذا لم يعلموا، فإنّما شِفاء العِيِّ السّؤال" رواه أبو داود وابن ماجه والدارقطني وصححه ابن السَّكَن " هذه بعض النصوص التي تدل على أن الإنسان مهما بلغ من العلم فلن يُحيط بكل شيء علمًا، وأن الجاهل بالحكم يجب عليه أن يسأل المُختصِّين، ومن أفتى بغير علم فقد كَذَب على الله وعلى الرسول، وضَلَّ في نفسه طريق الحق وأضل غيره عنه، ومن سَنّ سنة سيئة فعليه وِزرُها ووِزر مَن عَمِلَ بها إلى يوم القيامة، كما في الحديث الذي رواه مسلم. ولهذا لا يجوز لأحد أن يُفتيَ بغير علم، أو يتعصَّب لرأي لم يطَّلِع على ما يخالفه من آراء المجتهدين. والنبي صلى الله عليه وسلم سُئِل عن الرُّوح، وعن أهل الكهف، وعن ذي القرنين فلم يجب حتى نزل عليه الوحي، غير عابئ بما يقوله المشركون والأعداء عندما تأخّر الوحي عن الإجابة، ولما سُئِل عن خير البِقاع وشرِّها قال: حتى أسأل جبريل، كما رواه أحمد وهو بهذا يقف عند حدِّ علمه، ويرسُم للناس من بعده الطريق الأمثل لنشر العلم والإجابة على الأسئلة، وصحّ أنه قال لأميره "بريدة" إذا حاصَر العدو أن ينزلهم على حكمه هو لا على حكم الله فإنه لا يَدري ما عند الله. ونحن نعلم أن بعض الصحابة كانوا يسألون عن مسألة فيُحيل على غيره، وأن أبا بكر قال: أيُّ سمّاء تُظِلُّني وأيُّ أرض تُقِلُّني وأين أذهب وكيف أصنع، إذا قلت في حرف من كتاب الله بغير ما أراد الله تبارك وتعالى؟ وكان لعبارة (لا أدري) عند القُدامى منزلة وممارَسة شائعة، فقد رُوِيَ فيها خبر( العلم ثلاثة، كتاب ناطق، وسُنّة قائمة، ولا أدري) رواه الخطيب موقوفاً على ابن عمر. وروى أبو داود وابن ماجه نحوه مرفوعًا "العراقي على الإحياء ج 1 ص 61". وقال ابن مسعود: جُنَّة العالِم لا أدري، فإنْ أخْطأها فقد أُصيبتْ مقاتله. وكان ابن عمر يَسأل عن عشر مسائل فيُجيب عن واحدة ويسكُت عن تسع، والإمام مالك سُئِلَ عن ثمان وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري. هذه كلها صورة مشرقة عن السّلف تُرينا إلى أي حدٍّ كانوا يَخشَون الفتوى بغير علم، على الرغم من الأمر بتبليغ الدعوة والتحذير من كَتْمِ العلم، أرجو أن تكون نِبراسًا لكلِّ مَن عنده بعض العلم أن يقف عند حدِّه، ولمن عنده رغبة في نشر العلم أن يكون متثبِّتًا مما يقول، وأنّ مَن عَرَف رأيًا اجتهادِيًّا لا ينبغي أن يتعصَّب له. وعلى أن يكون النشاط العلمي تحت مظلّة الإخلاص لله بعيدًا عن الرياء والشهرة، وبَريئًا عن أغراض سيّئة تَضُرُّ بنفسه، أو تَضُرُّ بغيره، أو تضر بسمعة الدين نفسه. "ملخص من بحث لي عن الفتوى، ويمكن الرجوع إلى كتاب "الفقه الإسلامي مرونته وتطوره" لشيخ الأزهر السابق الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، نشر سنة 1989م". والله أعلم. الهامش: لما كانت الفتوى بيانا لحكم الله عز وجل في الوقائع والأحداث، وهناك من الناس من سيتبع هذا المفتي فيما قاله من أحكام، كان المفتي بغير علم واقعاً في كبيرتين عظيمتين: - الكبيرة الأولى : - الجرأة على الكذب والافتراء على الله . - قال الله عز وجل: (قُُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف/33. - والمفتي بغير علم يقول على الله ما لا يعلم، وقد قرن الله تعالى تحريم ذلك بتحريم الإشراك به ، مما يدل عل عظم ذنب من قال على الله ما لا يعلم . قال ابن القيم رحمه الله: - " وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا والقضاء ، وجعله من أعظم المحرمات ، بل جعله في المرتبة العليا منها فقال تعالى : ( قُُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) الأعراف/33. - فرتب المحرمات أربع مراتب : - وبدأ بسهلها وهو الفواحش . - ثم ثَنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم. - ثم ثَلَّث بما هو أعظم تحريما منها وهو الشرك به سبحانه . - ثم ربَّع ما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم ، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه . - ومما يدل أيضا على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى : ( وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) النحل/116-117. فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه ، وقولهم لما لم يحرمه : هذا حرام ، ولما لم يحله : هذا حلال ، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه " انتهى. (المصدر" إعلام الموقعين " (1/38). أسأل الله أن يهدي كل ضالٍ عن ضلالته وأرجو أن يستتاب الإمام الحبيب حتى إن لآقى ربه يلاقيه وقد ختم بالصالحات أعماله، إن أراد ذلك.!! Abubakr Ibrahim [[email protected]]