نمى إلى علمنا نحن أهل الصومال، أن أخًا جزائريًا (آخر) قد انضم إلى موكب من أحرقوا أنفسهم، فأطلنا النظر إلى (فوانيس الكاز) النظيفة، والموضوعة بعناية، على الأرفف المعدة لها، فقد كانت مطفأة وساكنة في مكانها، منذ مدة ليست بالقصيرة، خاصة بعد أن ارتفعت أسعار المحروقات، نظرًا لازدياد حركة السيارات والشاحنات، مع توافد فرق الإغاثة، و الصحفيين والمراسلين والسياسيين الأقارب والأجانب، كيف لا وقد وصل اشتعال الأسعار للكاز أخيرًا، ببساطة لأن أصحاب محطات الوقود، أخذوا يخلطونه بالبنزين والديزل، وأي نوع آخر من أنواع الوقود الرائجة، والمستعملة للسيارات والمولدات، فأمسى القادر منا يشعل شمعة، أما غير القادر فأمسى يلعن الظلام، ومحطات الوقود والوفود حتى ينام. ولأن الوضع المشتعل في الصومال، يجعل كل صومالي في الداخل أو المغتربات، يشعر أنه (محروق سلاف أهله) كما يقول أحبابنا في لبنان ، فقد كان التعاطف الفوري هو الحال، مع البوعزيزي والعشرات، ممن ساروا على دربه في شمال إفريقيا، وآخرهم ذاك الأخ الجزائري، وشاب وسيدة آخرين من مصر، وللحق فقد كان أكثر ما استفز القوم حين ذاك، منظر (بن علي) وهو يطمئن على ضحية أذنابه، وكأنه بنفاقه و حركات العلاقات العامة تلك، سيطفئ النار المشتعلة في الصدور. لكن للجزائر وضعًا خاصًا، ملتبسًا وغامضًا أيما غموض على الأقل علينا ، فالكل مدرك تمام الإدراك، للتراث الجزائري في المقاومة والنضال، وكذلك فإن التعامل اليومي مع الإخوة الجزائريين، يعطيك الانطباع القوي بأنهم مستقيمون في محبتهم، واضحون في عداوتهم، لمن كان سيء الحظ كفاية ليسيء إليهم. فما الذي يجعل المواطن الجزائري، الذي صمد شعبه في العشرية الحمراء، وخرج منها منتصبًا رغم الندوب، مالذي يجعله يشعر أنه وحيد، مهيض الجناح، عرضة للتجاهل والاقتحام، بل أن تصبح الحياة في نظره عقوبة، أو حتى شيئًا يقايض به، ويطرحه على مائدة الرأي العام، ليثبت لنفسه وللعالم، أنه لا زال لديه قيمة، كل ذلك والبلد غني بالموارد، ناجح الزراعة جيد الطقس، وذو شعب يحوي بين أبنائه، طبقة كبيرة من المثقفين والأكاديميين، وكل ما من شأنه أن يجعله موطنًا مليئًا بالفرص، بل ومستقطبًا للخبرات والموارد البشرية الخارجية. وكيف يمكن أن يبلغ الإنسان حدًا من الغضب، واليأس والاحتجاج، على الحال الذي سمم حياته، وبدد لحظات شبابه، إن لم يكن هناك ما هو حاضر بقوة ومتجسد، ليطغى على كل الأمل في الغد، ودافعًا بالإنسان لأن يتجاهل كل الألم الذي سيلتهمه، وكل المعاناة التي سيتركها، في قلوب من يحب، بل وكل الغموض الذي يكتنف مصيره الأخروي، وهو المنهي في كل رسالات السماء، عن التسبب لنفسه بالموت. لكن المريب حقيقة، جدار الصمت المضروب حوله، جدار غير مرئي، لكنه يوحي إليك أنه سور أملس أبيض شاهق وأنيق، يدل على أن الناس هناك، يتم طبخهم بحرص على نارٍ أهدأ من وبور الكاز ، ليندفعوا مختنقين محتقنين، فيهجروا بلدهم الطيب، وثروة ورثوها ودفع ثمنها عنهم، آباء انطلقوا مواكب آلفية نحو الموت، ليكتمل العدد مليونًا وأكثر من الشهداء. قد نكون نحن هناك في تلك الزاوية البعيدة من الشرق الإفريقي، أصبحنا عرضة للموت من عوادي الطبيعة وعوامل الطقس، لكننا مدركون أن لكل حكاية بدأت، نهاية ولو كان الضحايا بعدد النقاط والأحرف وعلامات الترقيم، فحكاية الموت المقيم في بلادنا، ستنتهي، لكننا نخشى أن تبدأ في طرف آخر من جسد أمتنا الحزينة، وتصبح الآمال التي تحيي قلوبنا بعافية تعمه، حلمًا آخر نصحوا منه في وسط العتمة. ومن كل قلوبنا المليئة بالمحبة والعرفان، لإخوتنا في الجزائر سنشعل الفوانيس في السحر، وندعو ونبتهل أن يصلح الله الأحوال، وأن لا يصيبنا فيهم وفي أنفسنا بما نكره. محمود محمد حسن عبدي كاتب وشاعر من الصومال mohamoud abdi [[email protected]]