توجد مشكلة خطيرة بين طرفي السودان، شماله و جنوبه، تتعلق بمستحقات نقل البترول من جنوب السودان بخط الأنابيب للتصدير عبر الموانئ في البحر الأحمر. و كما يرشح من المعلومات الواردة في الأخبار فان السودان يطلب حوالي 35 دولارا و جنوب السودان يعرض دولارا واحدا أو أقل لنقل البرميل، و الفرق كبير جدا بين المطلوب و المعروض. فما العمل بعد أن أصبح البترول نغمة علينا و ليس نعمة ؟. من الناحية القانونية، فهناك ثلاثة اتفاقيات رئيسية خاصة بالبترول السوداني، أولها اتفاقية الاستكشاف وقسمة الإنتاج (و اختصارا تعرف ب أكستا) و ثانيها اتفاقية إنتاج البترول الخام (كوبا) و ثالثها اتفاقية ترحيل البترول الخام (كوتا) و هذه الاتفاقيات مبرمة بين حكومة السودان (قبل الانفصال) و شركات أجنبية و بصفة أساسية من الصين و ماليزيا و الهند و غيرهم إضافة لشركات أنشأت في السودان بمشاركة الحكومة السودانية مثل شركة النيل الكبرى و بترو دار و سودا بت و شركات سودانية خاصة .. العلاقة بين كل هذه الأطراف ينتج عنها استكشاف البترول الخام و ترحيله و تصديره و تصفية بعضه في المصافي التي تم تشييدها في عدة مناطق. هذا و يتم اقتسام ريع البترول و تصديره بين هذه الأطراف المتعاقدة وفق نصيب كل طرف و وفق ما ورد في الاتفاقيات و أهمها الاتفاقيات الرئيسية المذكورة أعلاه. والشركات الأجنبية تأخذ حقها " عضم " و تسلم السودان نصيبه و من هذا النصيب تأخذ حكومتي الشمال والجنوب و تأخذ كل الشركات وغيرها من الأطراف السودانية نصيبها و أيضا وفق الاتفاقيات المبرمة. ما يهم الآن الجانب المتعلق بنقل البترول و ترحيله عبر أنابيب البترول حتى نقاط التصدير، خاصة و أن الأمر أصبح لا يخص دولة واحدة بل يتعلق بدولتين، و ربنا يستر من الزيادة، و الاتفاقيات تتناول معايير تحديد أسعار النقل عبر أنابيب البترول و سنشير لأهم معايير التسعير. في البداية و قبل إدخال البترول الخام في الأنابيب فلا بد من معالجته ( أي تنظيفه كما يتم تنظيف ماء النيل قبل ضخه للاستهلاك البشري) لتهيئته فنيا للمرور في الأنابيب لمسافات طويلة لمئات الكيلومترات خاصة و أن الشوائب تعيق الانسياب و كل هذا يعتمد علي نوعية الخام و هل هو من النوع الخفيف أو الثقيل و هل مخلوط بالماء أو الغاز (مع العلم أن هناك اتفاقيات بترول خاصة إذا تجاوزت نسبة الماء أو الغاز نسب معينة في البترول الخام وذلك للاتفاق علي نسب الإنتاج و التكاليف ) ... و غيره و كل هذا العمل الفني تقوم به شركات خدمة خاصة يتم التعاقد معها و كل هذا بثمنه من عمالة و مواد و كيماويات و آليات خاصة ... و هذه التكاليف تضاف في فاتورة الترحيل. و سعر نقل و ترحيل البترول يعتمد أيضا علي "مواصفات" خاصة بخطوط الأنابيب نفسها كطول الخط مثلا، و هناك معايير دولية في هذا الخصوص متبعة في العديد من الدول، لأن خدمة الأنابيب تزداد كلما زاد الطول و يتم التسعير وفق عدد الكيلومترات ( خط الأنابيب السوداني أكثر من 1600 كيلو ) و الخدمة التي تقدم و منها مراقبة الخط من لحظة إدخال البترول حتى نقطة الوصول في ميناء التصدير و المعالجة الفورية للتجمد أو التسرب أو انفجار الخط لأي سبب مع المراقبة الأمنية العامة أو الخاصة إذا كانت هناك نزاعات أو اضطرابات أمنية و خط الأنابيب السوداني تحفه مخاطر أمنية عديدة مما يستدعي خطوات أمنية إضافية لتأمين وصول البضاعة ... و سبق تفجير خط الأنابيب ... و هذه الخدمات بثمنها و في بعض المناطق الثمن عالي جدا لحساسية الموقع أو انعدام الأمن. و أيضا سعر النقل و الترحيل بالأنابيب يشمل تكاليف خدمة المحطات "تيرمينالز" حيث تقدم هذه المحطات ما يعرف " بخدمة المعالجة المركزية" و في المحطات توجد أجهزة خاصة للقيام بهذه المعالجة تشمل عدة أشياء فنية منها مراقبة سير البترول في الأنبوب و تسخينه إذا لزم الأمر لتسهيل الاندفاع في الخط للوصول بالسرعة المطلوبة و قياس الكميات في الأنبوب إضافة للعديد من الخدمات الفنية اللوجيستية التي لا بد منها لاستمرار التدفق الانسيابي للبترول الخام ... و يتم تسعيرة الخدمات. كل هذه المعايير و الخدمات المتعددة تؤخذ في الاعتبار عند تحديد سعر توصيل البترول من " البير للصنبور". و كما ذكرنا فهذه المعايير موجودة في العديد من الاتفاقيات الدولية، و الأمثلة كثيرة منها اتفاقية نقل البترول العراقي بالأنابيب عبر سوريا و تركيا و اتفاقيات نقل بترول و غاز بحر قزوين بين روسيا و الدول الجديدة مثل كازاخستان و تركمنستان و أذربيجان ... و إيران، و بعض الاتفاقيات في دول أمريكا الجنوبية و أفريقيا... مع الاختلافات وفقا لجغرافية و طبيعة وضع كل منطقة، و في بعض هذه المناطق تقوم الدولة المنتجة ببناء خط الأنابيب و كل توابعه داخل الدولة الجارة التي يمر الخط عبر أراضيها و هناك دول تقوم ببناء الأنابيب داخل أراضيها و لها كل الحقوق السيادية و تقوم بتأجيرها لدولة أخري و طبعا التسعيرة تختلف علي حسب كل حالة. و الاتفاقيات الرئيسية التي أشرنا لها أعلاه ما زالت سارية المفعول و الاختلاف الموجود الآن بين السودان و جنوب السودان له انعكاسات قانونية خطيرة لأن الأطراف المرتبطة بالاتفاقيات ستتأثر من عدة جوانب و ستتضرر مصالحها و طبعا من حقها المطالبة بالتعويض و جبر كل الأضرار خاصة و أنها لم تتسبب فيها و ستكون هناك قضايا بمطالبات كبيرة أمام المحاكم و هيئات التحكيم الدولية، فالشركات الشغالة في استكشاف و إنتاج البترول ستتضرر و لها حقوقا قانونية و شركات الخدمة ستتأثر و لها حقوقا قانونية وخزينة الشمال و الجنوب ستتأثر كثيرا بل كثيرا جدا و خط الأنابيب سيتأثر و المصافي ستتأثر و البيئة ستتأثر و الإنسان خاصة العامل في هذه النشاطات سيتأثر و الإنسان المجاور لهذه النشاطات سيتأثر ... وكل بيت في الشمال و الجنوب سيتأثر و الجميع خسران ... و أصبح البترول نغمة بسبب غياب الحكمة. في النهاية، أقول، قطعا دولار واحد كما يقول جنوب السودان ليس هو السعر المناسب لأنه لا يتماشي مع المعايير الدولية إطلاقا و يخالف الاتفاقيات القانونية المبرمة لإنتاج البترول و ترحيله. و ما طلبه السودان في حدود 35 دولار لم يأت من فراغ و لكنه قطعا يخلو من الشفافية تماما، و يا جماعة الخطر الراهن يجيز لكم قانونا كسر "إطار السرية" المفروض في الاتفاقيات المبرمة و المطلوب كشفه ليس تفاصيل الاتفاقيات و إنما أرقام و حسابات عامة لتوضيح فاتورة الترحيل. و دائما نقول " الحساب ولد " و لهذا أنشروا الفواتير علي الملأ ؟ حتى تكون حجة لكم و لا عليكم و حتى يعرف القاصي و الداني هذه التفاصيل، و هذه من أبسط الحقوق. و لا أعتقد أن الشيطان يخرج من مثل هذه التفاصيل الرقمية لأن الأرقام الصحيحة نظيفة و طاهرة. و قبل حسبة كل هذه الأرقام و تدوينها في الفواتير نسأل هل من "تخفيض" ؟ بل و نطالب به . و في جميع الأحوال، علي جميع الأطراف شمالا و جنوبا النظر للمستقبل من أجل تدفق البترول من الجنوب عابرا للشمال إلي جنب مياه النيل المتدفقة منذ الأزل مانحة للحياة جنوبا و شمالا، و من أجل تواصل جسور المحبة و سريان دماء الأخوة بين محمد احمد و ملوال، و لتبقي الحدود شكلا و بدون فواصل لنعيد الحياة بيننا و بينهم كما فعل الجدود. بل، نحن، نتطلع للأحسن، و لنجعل ما رزقنا به الله عونا لنا في حاضرنا و لتعبيد مستقبل أفضل لأحفادنا. فهلا فعلنا لنكسب الجولة ؟. ---------------------- *المستشار القانوني و أستاذ قوانين الأعمال و التجارة بالجامعة الأمريكية البحرين Email: [email protected]