أرسل إلي الأخ الصديق البروفيسور بدر الدين علي الهاشمي ، الأستاذ المحاضر بكلية الطب بجامعة السلطان قابوس بسلطنة عمان الشقيقة ، أرسل إلي عن طريق البريد بنسخة مصورة من كتاب بعنوان: "مفردات من اللهجة الشّحرية" لمؤلفه الشيخ محمد بن مسلم بن طفل المسهلي ، بعد أن كنت قد طلبت منه بإلحاح ، وفي عدة مرات من قبل ، أن يوافيني بكل ما قد يقع بين يديه من كتب أو معاجم أو مقالات حول هذه اللهجة العروبية القديمة ، التي كنت قد سمعت وقرأت عنها قبل بضعة أعوام ، وعن وجودها وتداولها داخل بعض المناطق الجبلية النائية بسلطنة عمان إلى يوم الناس هذا . لقد وصفت البروفيسور بدر الدين الهاشمي في صدر هذا المقال بالأخ الصديق ، وهو بالفعل أخ وصديق ، رغم أنني لم أقابله كفاحا حتى الآن ، وإنما تعارفنا نحن الاثنان ، وبرفقتنا ثلة من الأصدقاء الآخرين الذين يقيم جلهم خارج السودان ، فصرنا مثل من يعرفون بأصدقاء القلم ، وذلك بفضل خدمة التواصل الاجتماعي والفكري التي أتاحتها ثورة الاتصالات والمعلومات الحديثة. وقد ظللت أتابع كل ما يكتبه البروفيسور الهاشمي وينشره من خلال الصحف المحلية في السودان ، فضلا عن بعض المواقع الالكترونية ، فأعجبت بما يكتب هذا العالم والاستاذ الجامعي ، والباحث المحقق في مجالات علوم العقاقير والسموم والكيمياء الحيوية التي نال فيها أرفع الدرجات العلمية من الجامعات البريطانية والأمريكية ، بعد أن كان قد تخرج في كلية البيطرة جامعة الخرطوم في العام 1975م, ولكن البروفيسور الهاشمي لم يقصر نطاق اهتمامه الفكري والمعرفي على مجالات العلوم الطبيعية البحتة ، تلك التي تشكل مجال تخصصه الأكاديمي في الأساس ، وإنما انداح عطاؤه وإسهامه الثقافي والفكري ترجمة وتأليفا واستعراضا ونقدا ، لكي يشمل طيفا واسعا من المعارف والعلوم الإنسانية الأخرى ، وخصوصا الدراسات السودانية شاملة مجالات التاريخ ، والأنثربولوجيا ، والأدب ، والفلكلور وغيرها ، وقد برع على نحو أخص في ترجمة وتعريب العديد من درر وأوابد الآثار المكتوية عن مختلف مناحي الحياة داخل السودان باللغة الإنجليزية ، ومن ضمن ذلك جملة صالحة من مقالات اختارها من مجلة السودان في رسائل ومدونات ذائعة الصيت. لقد شجعتني هذه الاهتمامات الموسوعية المتشعبة في الواقع ، وجرأني هذا الشغف العجيب بتحصيل المعرفة ، والحب الجارف للاطلاع والتأليف والنشر في مواضيع شتى ، التي يمتاز بها البروفيسور الهاشمي ، على أن أطلب منه ، وأن أكلفه مشقة البحث عن مثل هذا الكتاب الذي بعث إلي بنسخة مصورة منه مشكوراً كما أسلفت ، لثقتي في أن مثل ذلك النوع من البحث والتنقيب ، لمما يروق ويلذ له جدا. أما الكتاب الذي نحن بصدده ، ألا وهو مفردات من اللهجة الشّحرية ، للشيخ محمد بن مسلم بن طفل المسهلي ، فهو كتاب يقع في 169 صفحة من القطع المتوسط ، وقد صدرت الطبعة الأولى منه في عام 1418 هجرية ، الموافق للعام الميلادي 1997 ، بيد أننا لا نعلم عما إذا كانت قد صدرت منه طبعات أخرى لاحقة أم لا ، فضلا عن أن النسخة المصورة التي بحوزتنا لا توضح اسم دار النشر ، ولا مكان الطبع. اتبع الكاتب منهجا مبسطا جدا في تأليف كتابه هذا ، إذ أنه اقتصر على إيراد مسردة طويلة من المفردات من اللهجة الشحرية ، مكتوبة ألفاظها بالحرف العربي ، بدون مقابلها بطريقة الكتاية الصوتية العالمية أو ما يسمى با Transliteration ، وبإزاء كل واحدة منها ، مقابلها أو شرحها بالعربية الفصحى ، وإن كان قد عرض بإيجاز أيضا إلى بيان بعض الخصائص الصوتية والنحوية لهذه اللهجة. وعلى سبيل التعريف باللهجة الشحرية ، يقول المؤلف في مقدمة كتابه ما يلي "تمثل اللهجة الشحرية ، إحدى اللهجات العربية الجنوبية ، التي يعتبرها علماء اللغات امتداداً للغة حِمْير ، أو اللغة العربية الجنوبية بصورة عامة. وتعرف هذه اللهجة الشحرية بالجبالية أيضاً عند الحضر من سكان صلالة حاضرة محافظة ظفار من سلطنة عمان ، ثم انتشرت هذه التسمية الجديدة بعد ذلك بالتدريج ، حتى كادت تغطي على التسمية الأصلية الصحيحة لهذه اللهجة ، وهي الشحرية ، نسبة لأرض شحر ، أو الشحر التسمية القديمة المعروفة في المصادر العربية ، التي كانت تطلق على المنطقة الواقعة بين عُمان وحضرموت.." أ. ه من مقدمة الكتاب صفحة 7 . لقد استوقفني في الواقع عدد من المفردات الشحرية التي مررت عليها وأنا أتصفح أوراق هذا الكتاب ، استوقفتني بشدة نسبة لما تراءى لي من تشابه ووشائج قربى قوية تجمعها مع عدد من الألفاظ المتداولة في عربية أهل السودان ، فضلا عن أن بعضاً من تلك المفردات الشحرية ، من شأنها أن تنبه إلى بعض الجوانب المتعلقة بمعاني ومدلولات بعض ألفاظ العربية الفصحى ذاتها ، وسيلاحظ القارئ الكريم أننا لم نركز على هذه الجزئية الأخيرة كثيرا. وقد أحببت أن أعرض لهذه المقابلات اللغوية هاهنا ، وأن أشرك معي القراء الكرام فيها تعميماً للفائدة: يُقال في الشحرية " أُصْ " بهمزة مضمومة بعدها هاء ساكنة ، وهي فعل أمر بمعنى " أسكتْ ". قلتُ: ما أشبهه بفعل الأمر في العامية السودانية " هُسْ " بهاء مضمومة بعدها سين ساكنة بمعنى " أسكت " أيضا. فالهاء والهمزة ، والصاد والسين مخارجها متقاربة. ورب معترض يقول: إن " أُصْ " الشحرية قريبة من " صَهْ " الفصحى بنفس المعنى. ولكن قرب " أُصْ " من " هُسْ " السودانية وزناً ومعنى أليق وأوثق في رأينا. " أحْتسفْ " بهمزة في أوله وحاء وفاء ساكنتين ، مفردة شحرية في مقام الفعل الماضي بمعنى " تأسف " في العربية الفصحى. وفي العامية السودانية يأتي الفعل " حسف " بمعنى " أسف ". وقد أورد العلامة عون الشريف قاسم في كتابه " قاموس اللهجة العامية في السودان " حول هذه المادة ما يلي: " حسف (س) في لسان بعضهم (ف.س) أسف. قال العبدلابي: " ما بحسف على روحي ومعاي جهلي (صغر سني) "... أ.ه من صفحة 278 من كتابه ، وقد اعتمدت على الطبعة الثانية الصادرة في عام 1985 عن المكتب المصري الحديث بالقاهرة. هذا ، وفي بعض اللهجات العربية في غرب السودان ، وكذلك في عربية تشاد " الحسيفة " كأنها تعني الضغينة التي تكون في الصدر. كلمة " أحلَتْ " الشحرية بهمزة مفتوحة ، وحاء مشددة بعدها لام ثم تاء ساكنة، معناها (مدينة) بالعربية. ومن الواضح أن هذه اللفظة قريبة من المفردة السودانية ( الحِلّة ) ، بحاء مكسورة بعدها لام مشددة مفتوحة ، بمعنى: القرية ، وهو استخدام فصيح أيضا ، غير أنه يكاد يكون مهجورا من قبل سائر اللهجات العربية المعاصرة ، فيما عدا العامية السودانية التي تسمى القرية " حلة ". مفردة " بسيريت " الشحرية معناها " التمرة " بالفصحى. قلتُ: كلمة " بَسْر " بفتح الباء وسكون السين في العربية الفصحى تدل على مرحلة من مراحل نضج التمر ، وتدرج نموه. فيقال مثلاً" زهو ، وبلح ، وبسر ، ورطب ، وتمر وهلم جرا. وليست " بسيريت " الشحرية ببعيدة في تقديرنا عن " بسر " العربية. مفردة " بُطُلْ " الشحرية بباء وطاء مضمومتين بعدها لام ساكنة ، قيل إنها تقابلها كلمة " ردى " الفصيحة التي لم يضبطها المؤلف بالشكل. فهل هي ( رَدَى ) براء ودال مفتوحتين بعدهما ألف مقصورة بمعنى ( موت أو هلاك ) ، أم أنها " رديء " بالياء عليها نبرة في آخرها بمعنى سيء؟ إذ لو كان المقصود هو الصفة " رديء " ، فإنه يجوز لنا أن نفترض أن " بُطُلْ " الشحرية ، وكلمة " بَطّال " بباء مفتوحة وطاء مشددة ، بمعنى " سيء ورديء " كما في العامية السودانية ، وكذلك في بعض العاميات العربية المعاصرة الأخرى مثل المصرية ، من أصل واحد. مفردة " بُقْل " الشحرية ، بباء مضمومة بعدها قاف ساكنة بمعنى " نبات " ، نرجح أنها ذات صلة كبيرة جدا بكلمة " بَقْل " الفصيحة بفتح الباء وسكون القاف بمعنى أنواع معينة من النباتات. فكأن العربية الفصحى قد حصرت دلالة هذا اللفظ. الفعل العامي الشحري " جُلُد " بضم الجيم واللام ، ويقابله " ضرب بالعصى " في العربية الفصحى كما جاء في الكتاب ، يبدو وجوده وتداوله في هذه اللغة القديمة ذا دلالة خاصة. فإذا بدا من الجائز والمشروع جداً المقابلة بينه وبين الفعل " جَلَد " العامي السوداني بمعنى " ضرب " وهو استخدام فصيح أيضا ، وكذلك التعبير الفصيح " تجالدوا بالسيوف " ، الذي زعم بعضهم أنه مأخوذ من اللاتينية Gladiator أي المجالد بالسيف ، المأخوذ بدوره من الاسم اللاتيني Gladius الذي معناه " السيف "، فإن وجوده الذي يبدو أصيلا وقديما في هذه اللهجة القديمة ، يدل على أن هذا الجذر " ج. ل . د " أصيل في السامية القديمة بصفة عامة. المفردة الشحرية " حَفْ " التي فسرها المؤلف بأنها تعني " الأرض الجافة " في العربية الفصحى ، لعلها تذكرنا بالصفة التي ترد في كثير من العاميات العربية " حاف " بمعنى: ناشف أو جاف ، والتي تجيء في مثل عبارة " عيش حاف " ، بمعنى ناشف ، او بلا إدام. الفعل الشحري " خُترْ " بخاء مضمومة وراء ساكنة ، يقابله في العربية الفصحى بحسب قول المؤلف: : " نزل إلى المدينة ". قلتُ: وفي عربية أهل السودان القديمة وخصوصا في البوادي والأرياف ، يُستخدم الفعل: " خَتَرْ " وكذلك " خَطَر " بمعنى: سافر مطلقا. الفعل الشحري " حَترُشْ " بحاء مفتوحة وراء مضمومة وشين ساكنة بمعنى " تخبّل " من الخبل أو الخبال ، يقابله في العامية السودانية قولهم " هَتْرَشْ " بالهاء عوضاً عن الحاء في أوله ، بمعنى" أصيب بخبل أو اضطراب أو لوثة. كلمة " خَمجْ " الشحرية ، بخاء مفتوحة ، وجيم ساكنة بمعنى: الماء العكر في الفصحى ، كما جاء في كتاب الشيخ المسهلي ، مطابق تماماً لما يعرف بالخمج في العامية السودانية لفظاً ومعنى. فالخمج عند السودانيين ، هو اضطراب واختلاط الأشياء والأمور سواء كانت حسية أو معنوية. وبالطبع فإن الماء الذي ( يُخمج ) بالطين والتراب ونحوه من شأنه أن يتعكر لا محالة. اللفظة الشحرية ( دفار ) ، بمعنى: إدفع الفصيحة ، هي صنو الفعل العامي السوداني: " أدفر " بمعنى: ( إدفع ) ذاتها ، بلا ريب. الفعل الشحري " ِرزَع " براء مجرورة ، تليها زاي مفتوحة ، معناه: " هزّه بالقوة " كما قال المؤلف. ولعل الفعل الشحري رزَع هذا يذكرنا بالفعل العامي السوداني ( رَزَعْ ) بمعنى: صفق بقوة أيضاً ، ومنه قولهم: " رزع الباب " ، أي: أغلقه بعنف. وكذلك منه فعل الأمر الذي يأتي في معرض الزجر والتعنيف " اترِزعْ " بمعنى: اجلس يا هذا ولا كرامة لك. الفعل الشحري " زُرُق " بزاي وراء مضمومتين بعدهما قاف ساكنة ، ومعناه كما قال المؤلف: أطلق الرمح وما شابهه ، نجده في تقديرنا في الفعل العامي السوداني " زَرَقْ " بفتح الزاي والراء ، بمعنى: قذف الرمح أو السهم أو " السفروك " نحو العدو أو الطريدة. ومنه قول الحاردلو كما جاء عند عون الشريف في صفحة 494 : والليلة العلي متل الزرَقْ ما صاد.. أي الذي رمى بسهمه فأخطأ.. أ.ه المفردة الشحرية " زَهَاب " بفتح الزاي والهاء ، بمعنى: " جاهزة " في العربية الفصحى ، موجود لفظاً ومعنى في العامية السودانية ، وخصوصا في لغة ألأرياف والبوادي في قولهم " زاهب " بمعنى جاهز أو ناجز.. ومنه قولهم " القروش زاهبات " يعني: حاضرات أو جاهزات. وفي كردفان لا يندر أن تسمع أحدهم وهو يهيب بزواره إذا ما أصروا على الذهاب بقوله: " ها ناس أرجوا أو أحضروا الزاهبة دي " أي: انتظروا معنا الطعام الذي حان إناه. ولم أر العلامة عون قد أثبت هذه المادة ، فلعلها قد ندت عنه. الفعل الشحري ( شَفَا ) بشين وفاء مفتوحتين ، قال المؤلف إن معناه هو: " صنع أواني من السعف " ... قلتُ: الفعل شَفَا... أو شفى يشفَى على وزن ( يشقى ) ، موجود في العامية السودانية ، ومعناه: استخدم " الإشفى " في صنع شيء ما كطبق من الخوص ، أو مقطف أو نحوه. فالنساء في السودان كنّ وما يزال بعضهن يشفين الأطباق ويضفرن "البروش". فكأن العربية الفصحى المحفوظة في المعاجم قد احتفظت فقط باسم الأداة وهي " الإشفى " ، وأهملت استخدام الفعل " شفى " الذي احتفظت به الشحرية ، بمثل احتفاظ العامية السودانية به ، وتداوله فيها بذات اللفظ والمعنى. مفردة ( ضجم ) الشحرية بمعى " شدق " الفصيحة ، هي في تقديرنا مقلوب كلمة " جُضُم " السودانية بضم الجيم والميم ، وبذات المعنى مع اختلاف طفيف في ترتيب ذات الحروف. وشد ما أثار دهشتي من خلال هذه المقارنات ، أنني وجدت في هذا الكتاب أن اللغة الشحرية تطلق على المولود غير الشرعي اسم " فرخ " بالخاء المنقوطة ، وهو لعمري ذات الاسم الذي تطلقه عليه عربية أهل السودان ، وإن كانت تطلقه أيضا على الواحد من العبيد والأرقاء. وظني أنه كان في الأساس يطلق على اللقطاء و الذين يولدون لغير رشدة من صغار هؤلاء ، ثم تُوسع فيه. الفعل الشحري " قعص " بمعنى: انكمش على نفسه ، نرجح أن يكون ذا صلة قربى بالفعل " حَقَصْ " في العامية السودانية مع قلب وابدال لا يبعده عنه في الدلالة العمومية. فعند عون الشريف: " حقص (س) أصابه الصرع وهو الحقصة " أ.ه.. وفي كردفان وربما في غيرها يقال" ضهرو محقوص أو منحقص " بمعنى مقوس وملتو من عاهة أو ألم عارض ، وهذا يفيد ذاته معنى الانكماش على النفس التي فُسرت بها " قعص " الشحرية. وأخيراً ، المفردة الشحرية: " قَهَب " بمعنى: " المقيل أو القيلولة " في الفصيح ، كأنها تخرج من مشكاة واحدة مع المفردة العامية السودانية " قَهَبونة " الشائعة خصوصا في الوسط بنواحي الجزيرة والبطانة ، وهي تعني. شدة الحر ، أو ريح السموم. وبما أن وقت الظهيرة أو القيلولة هي مظنة انبعاث ريح السموم ، فقد ساغ لنا أن نفترض انتماء هاتين اللفظتين المتقاربتين لفظاً ودلالة إلى أثل لغوي واحد ، والله أعلم.