استوقفتني ظاهرة جديدة على المجتمع السوداني خلال زيارتي الأخيرة إلى السودان، وهي أن ارتياد صلاة الجمعة عند بعض السودانيين أصبح عادة أكثر منها عبادة، فهم لا يغشون الصلاة إلا في خواتيمها في كثير من الأحايين. وأن فهم إمام صلاة الجمعة لضرورات إفهام الدين بالتذكرة والموعظة الحسنة، ولمقتضيات التدين، بالمثاقفة والمعلومة، ومدارسة واقع الحال، فيه كثير غياب في خطبة الجمعة، فهي إما خطبة جامدة تدعو إلى غشيان النعاس عند كثرة من المصلين، أو بمثابة نشرة سياسية إخبارية كأنها صحيفة يومية تضجر الناس المأمومين. والأدهى من كل ذلك، أن فهم بعض الأئمة فيه قصور لمقتضيات التدين في خطبة الجمعة، يسبقه مفهوم المأموم المتقدم في تدارك معاني التذكير، ومتطلبات استيعاب فهم مزاوجة الدين بالدنيا في غير ازدياد أو نقصان، بفهم أن صلاة الجمعة هي مراجعة ذاتية، ومحاسبة شخصية للمؤمن لتأكيد إيمانه، وتجديد تدينه، بالاستغفار عن ذنوب الأسبوع الذي مضى، والعزم والاستعداد للاستقامة ديناً وتديناً في مقتبل الأيام. ومما يؤكد ما ذهبت إليه تنطع أحد أئمة مساجد الخرطوم بحري في فهمه لصلاة الجمعة وشعائرها، إذ إنه قام بطرد المطرب الغنائي جمال فرفور من الصفوف الأمامية خلال أداء صلاة الجمعة في الأسبوع قبل الماضي، بحجة أنه فاسق لا ينبغي له أن يتصدر الصفوف الأمامية لأداء الصلاة، ودفعه إلى الالتزام بالصلاة في الصفوف الخلفية. والصفوف الخلفية لم تكن في يوم من الأيام للفساق والعاصين والمفسدين، بل هي للمتأخرين حضوراً إلى الصلاة، وفضل بعض العلماء أن يلتزمها الصغار تأدباً وتربيةً، بينما فيها خلاف كبير بين الفقهاء القدامى والمحدثين بالنسبة للنساء، على الرغم من أن الصلاة خلف الإمام أفضل، وأحياناً تكون الصلاة في الصفوف الخلفية أفضل من أن يشق المصلي المتأخر الصفوف مزاحماً للوصول إلى الصفوف الأمامية. وأحسب أنه من الضروري أن نبسط القول في هذه العُجالة عن حكم صلاة الجمعة وفضلها تأصيلاً قبل حديثنا عن حادثة طرد إمام أحد مساجد الخرطوم بحري للمطرب الغنائي جمال فرفور من الصفوف الأمامية خلال صلاة الجمعة قبل الماضية. فصلاة الجمعة واجبة وهي من آكد فروض الإسلام، وفرضها ثابت بالكتاب والسنة والإجماع. وأدلتها من القرآن: قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ". وقال ابن قدامة: فأمر بالسعي، ومقتضى الأمر الوجوب، ولا يجب السعي إلا إلى واجب، ونهى عن البيع، لئلا يشتغل به عنها، فلو لم تكن واجبة لما نهى عن البيع من أجلها. وقال القرطبي: "فرض الله تعالى الجمعة على كل مسلم، ردَّا على من يقول: إنها فرض على الكفاية. وأدلتها من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "لينتهين أقوام عن وَدْعِهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم، ثم ليكونن من الغافلين". وقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك ثلاث جُمع تهاوناً بها طبع الله على قلبه". وقوله صلى الله عليه وسلم: "رواح الجمعة واجب على كل محتلم". ومن الإجماع: حكى ابن المنذر الإجماع على أنها فرض عين. أما فضل مَنْ أتى الجمعة: ففي صحيح البخاري عن سلمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجل يوم الجمعة ويتطهر ما استطاع من طُهر، ويدَّهن من دُهنه أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج، فلا يفرق بين اثنين، ثم يُصلي ما كتب له، ثم يُنصت إذا تكلم الإمام، إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى". وروى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن سلمان قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم": أتدري ما يوم الجمعة؟ قلت: هو اليوم الذي جمع الله فيه أباكم آدم. قال: "ولكني أدري ما يوم الجمعة، لا يتطهر الرجل فيحسن طهوره، ثم يأتي الجمعة فينصت حتى يقضي الإمام صلاته، إلا كانت كفارة لما بينه وبين الجمعة المُقبلة ما اجتنبت المَقتلة". وعن أوس بن أوس الثقفي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من غسَّل يوم الجمعة، واغتسل، ثم بكر وابتكر، ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام فاستمع، ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنته، أجر صيامها وقيامها". من هنا يتضح لنا جلياً أنه لا خلاف بين العلماء أن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع، وأن صلاة الجمعة واجبة ينبغي السعي إليها لذكر الله تعالى، فلا غرابة أن استجاب جمال فرور لنداء الله بالإتيان إلى صلاة الجمعة، فواجه هذا الموقف العصيب بطرده من الصفوف الأمامية من قبل إمام ذلك المسجد. وأحسب أنه من غير الموفق، أن ينتقد البعض استجابته لأمر الإمام والتراجع إلى الصفوف الخلفية، وتساءل بعضهم عن سكوت المصلين لهذا الاعتداء الصارخ من قبل الإمام لأحد المصلين. راقني الفهم المتقدم للمأموم المطرود بأن أذعن لأمر الإمام، وهو كاره لهذا الإذعان، ولكنه لم يرد أن يحدث بلبلة وسط المصلين بالاحتجاج على هذا السلوك الغريب من إمام الجمعة في مسجد من مساجد الله، متناسياً هذا الإمام قول الله تعالى:"وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا". وأن هذا المأموم سواء أكان يدري أم لا يدري فقد أنزل على حاله في ذلك الموقف العصيب، قاعدة فقهية مهمة، وهي "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح". فقد وقعت على هذا المغني المفسدة بطرده من الصفوف الأمامية لصلاة الجمعة واتهامه بالفسق، والمصلحة كانت تكمن في أن يدفع عن نفسه هذا الاتهام الجائر، برفض الطرد وعدم الإذعان لأمر هذا الإمام، ولكني أحسب أنه علم أن ذلك سيجلب الضرر الأكبر بإشعال الفتنة في المسجد، لأنه بلا أدنى ريب، سيجد مَنْ يناصره في رفضه، وسيصر الإمام على طلبه وسيجد مَنْ يشايعه في رأيه الشاذ هذا. فهكذا تنقلب صلاة الجمعة تلك، من اعتبارها مدخلاً مهماً من مداخل الخشوع والصلة بين العبد وربه إلى هرجلة وفتنة في بيت من بيوت الله تعالى، وفي يوم من أيام الله المباركات، وفي ساعة من ساعات استجابة الله لدعاء العبد المستجيب له والمؤمن به، لقول الله تعالى: "وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ". وأحسب أن المأموم تدارس في نفسه في تلك اللحظة العصيبة هذا الأمر وأدرك بفطرة المؤمن السليمة، أنه إذا تعارضت مفسدة مع مصلحة، فالأولى أن لا ينشغل بتحقيق المصلحة وهي الثأر لكرامته المجروحة، ولتدينه المخدوش بتهمة الفسق، فاتجه بكلياته إلى إزالة المفسدة أو الضرر المتمثل في إثارة الفتنة بالرفض والاحتجاج التي هي أولى من جلب المنفعة المتمثلة في نفي الفسق عنه. أخلص إلى أن هذه الحادثة تؤكد أن الوسطية غائبة عن بعض مساجدنا، وإلا أين نحن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا رأيتم الرجل يرتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان"، فليس علينا أن نشق قلب الرجل لنعرف مدى صدقية إيمانه. أما تهمة الفسق إن كان مردها انشغاله بالغناء، علينا استصحاب أقوال الفقهاء الذين دافعوا عن الموسيقى والغناء، منهم قول ابن عربي: ".. وليس الغناء بحرام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سمعه في بيته وبيت غيره، وقد وقف عليه في حياته.."، وقول الفقيه الأديب ابن عبد ربه: ".. وقد يتوصل بالألحان الحسان إلى خير الدنيا والآخرة، فمن ذلك أنها تبعث على مكارم الأخلاق من اصطناع المعروف وصلة الأرحام والذب عن الأعراض والتجاوز عن الذنوب..". والمعروف أنه كما اعتمد المانعون للغناء على بعض الآراء الفقهية، كذلك اعتمد المبيحون له على بعض الآراء الفقهية، فإلى جانب ابن حزم الأندلسي، وأبي الفضل المقدسيّ اللذين دافعا بقوةٍ عن السماع، يرى هؤلاء أن الشافعي لم يقل بالتحريم، وإنما هو ضد الإكثار منه، كما يرون أن كثيراً من آراء الفقهاء لا تفيد التحريم بإطلاقه. ومذهب أحمد ومالك أقرب إلى الكراهية منهما للتحريم، فهما كالشافعي أقرب إلى التوسط، بل وأباح الشافعي سماع الحداء والرجز وإنشاد الشعر، وقراءة القرآن بالترنّم حدرًا وتحزيناً، ومن هؤلاء ابن حجر العسقلاني، والماوردي، وابن قدامة الحنبلي، ونسب إلى بعض الحنابلة الإباحة. ومن الذين يبيحون بوضوح كامل الغناء على غرار ابن حزم والمقدسيّ، الإمام أبو حامد الغزالي، وأبو الطيب الطبري، والشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ، ومن المحدثين كثيرون بشروط. وفي ذلك يقول الشيخ أحمد بن قاسم الغامدي الرئيس السابق لفرع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في منطقة مكةالمكرمة ".. عدم تحريم الموسيقى ليس قولاً جديداً، بل هو مذهب كبار العلماء، ولكن إقصاء بقية الآراء والاعتماد على رأي واحد فقط هو ما جعل الناس يعتقدون أنني أقول قولاً غريباً". وأحسب أنه بهذه الآراء الفقهية قديماً وحديثاً، يمكن إخراج المطرب الغنائي جمال فرفور من زمرة الفاسقين بتهمة الفسق التي طرده بسببها إمام ذلك المسجد من الصفوف الأمامية إلى الصفوف الخلفية. وعليه من الضروري أيضاً إدانة سلوك هذا الإمام الغريب، حتى لا تشيع مثل هذه الظاهرة في مساجدنا، وينفر الكثيرون من الصفوف الأمامية لأداء صلاة الجمعة، خشية الوقوع في ابتلاء مثل الذي أُبتلي به ذاك المغني. ولنعمل جميعاً كيلا تكون صلاة الجمعة في السودان، يسود فيها قصور فهم الإمام ويتقدم مفهوم المأموم، بل ينبغي أن يتكامل فهم الإمام والمأموم تديناً من خلال أداء هذا الواجب الديني المهم. ولنستذكر في هذا الخصوص قال الله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ. فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُون. وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ". وقول الشاعر أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبيء: وَمَن يَجِدُ الطَريقَ إِلى المَعالي فَلا يَذَرُ المَطِيَّ بِلا سَنام وَلَم أَرَ في عُيوبِ الناسِ شَيئًا كَنَقصِ القادِرينَ عَلى التَمام Imam Imam [[email protected]]