احتفلت أنجولا الأسبوع الماضي بالذكرى العاشرة لتوقيع اتفاق السلام بين الحركة الشعبية لتحرير أنجولا والاتحاد الوطني لاستقلال أنجولا المعروف اختصاراً باسم "يونيتا". جاء الاتفاق ليضع حداً لحرب أهلية استمرت منذ استقلال البلاد في عام 1975 وحتى عام 2002. أدت الحرب الطويلة لنتائج مأساوية ثمثلت في فقدان مئات الآلاف من الأرواح نتيجة للقتال والمجاعة ، وتشريد الملايين من النازحين واللاجئين بالاضافة إلى تعطيل مشاريع التنمية في البلاد ومعاناة الغالبية العظمى من الشعب الأنجولي بسبب الآثار الاقتصادية للحرب. من ناحية أخرى ، كانت الحرب الأنجولية ميداناً للمواجهة بين القوى العظمى في السنوات الأخيرة من الحرب الباردة خلال السبعينات والثمانينات من القرن الماضي حيث وقفت الولاياتالمتحدةوجنوب أفريقيا وبعض الدول الأفريقية إلى جانب يونيتا وحليفتها الصغرى الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا ، بينما وقف الاتحاد السوفيتي وكوبا وعدد آخر من الدول الأفريقية إلى جانب الحركة الشعبية. أدت الحرب الأهلية في أنجولا لانشقاق واضح داخل منظمة الوحدة الافريقية في ذلك الوقت حيث جاءت نتيجة التصويت حول عضوية أنجولا بالمنظمة في مطلع عام 1976 مناصفة بين المؤيدين والمعارضين لحكومة الحركة الشعبية ، وقد كان السودان من ضمن الدول التي وقفت إلى جانب الحركة الشعبية وزعيمها عندئذ أغستينو نيتو. ويعود موقف السودان لسببين أساسيين هما أن الحكومات السودانية المتعاقبة كانت تقف بقوة إلى جانب تحرير أنجولا ، وكانت حكومة الرئيس نميري بالرغم من علاقاتها الوثيقة مع الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت لا ترغب في الوقوف مع الجانب الذي تدعمه الحكومة العنصرية في جنوب أفريقيا. وكان موقف نميري من الأوضاع في أنجولا مكان أخذ ورد مع السفير الأمريكي بالخرطوم خاصة وأن نميري نفسه كان يفصح دائماً عن مواقف متشددة تجاه القطب الآخر في الحرب الباردة ، وكانت الولاياتالمتحدة تأمل في كسب نميري لجانبها وتبني حجتها التي تقول أن التدخل الكوبي والسوفيتي في الشئون الأنجولية لا يخدم المصالح الأفريقية. تسلم الرئيس أدواردو دوسانتوس الحكم في أنجولا بعد وفاة الزعيم التاريخي للحركة الشعبية أغستينو نيتو في سبتمبر 1979 ، وظل يحكم البلاد بقبضة حديدية حتى عام 1992 عندما أجيز، على ضوء "اتفاق لوساكا" ، دستور جديد يسمح بقيام نظام متعدد الأحزاب وإجريت أول انتخابات عامة تحت ظل الدستور الجديد في ذلك العام. عجز الرئيس دوسانتوس عن إحراز فوز حاسم في الانتخابات حيث حصل على 49% من الأصوات بينما حصل غريمه سافمبي على 40%. كان من المفترض أن تجري جولة حاسمة لتحديد الفائز ، غير أن هذه الجولة لم تتم وأعلن دوسانتوس نفسه رئيساً للبلاد فعادت حركة يونيتا لحمل السلاح ضد الحكومة وقتل زعيمها في إحدى المعارك بين الجانبين في عام 2002. بعد عدة أسابيع من وفاة جوناس سافمبي تم توقيع اتفاق السلام الذي أنهى حرباً أهلية استمرت لما يقارب الثلاثة عقود ، وهو الاتفاق الذي احتفلت أنجولا بذكراه الأسبوع الماضي. استطاعت أنجولا خلال السنوات العشر الماضية تحقيق معدلات نمو عالية ، وتقول تقارير البنك الدولي أنها من المتوقع أن تحقق هذا العام نسبة نمو تبلغ 12% تقريباً. وقد استطاعت البلاد خلال هذه الفترة وبسبب أجواء السلام التي سادت فيها استقطاب الكثير من الاستثمار الاجنبي خاصة في مجال استغلال ثروات البلاد من النفط ، وتعتبر أنجولا حالياً ثاني أكبر منتج للنفط في أفريقيا جنوب الصحراء. والزائر للعاصمة لواندا يلحظ بوضوح آثار النهضة العمرانية التي تنتظم البلاد ، كما أن موارد هائلة تم استثمارها في البنية التحتية. وقد تمكنت أنجولا من استغلال قوتها الاقتصادية للحصول على موقع إقليمي ودولي تغبطها عليه الكثير من الدول ، فالرئيس دوسانتوس يرأس هذا العام مثلا مجموعة الجنوب الأفريقي للتنمية (ساداك) ومنظومة الدول الناطقة بالبرتغالية. بل إن أنجولا تقدم حالياً معونات للدولة الاستعماري السابقة "البرتغال" لمساعدتها في الخروج من محنتها الاقتصادية بسبب أزمة اليورو. وعلى المستوى الإقليمي تعتبر أنجولا زعيمة للمستعمرات البرتغالية السابقة في أفريقيا وكانت حتى الأسبوع الماضي مثلاً تحتفظ بقوة من مائتي جندي في غينيا بيساو وتقدم الدعم العسكري الفني لحكومتها في محاولة فاشلة لتجاوز محنة هذه الدولة الصغيرة التي تتمثل في تدخل العسكر المتكرر في شئون الحكم. قام الجيش في غينيا بيساو نهاية الأسبوع بانقلاب عسكري جديد أطاح بالحكومة بعد يومين فقط من إعلان وزير خارجية أنجولا أن بلاده ستسحب قواتها بسبب المعارضة التي يبديها البعض في غينيا بيساو لوجودها. غير أن حكومة أنجولا وبالرغم من النجاحات الاقتصادية والسياسية التي حققتها لا تسلم من الانتقاد بواسطة نشطاء حقوق الإنسان في أوربا وأحزاب المعارضة بالداخل. ولعل استمرار الرئيس دوسانتوس في الحكم لأكثر من ثلاثين عاماً يمثل نقطة الضعف التي ينفذ منها منتقدوه ومعارضوه. يرى الكثير من المراقبين أن استمرار الرئيس في الحكم طوال هذه المدة أدى لظهور مراكز للقوى تستغل نفوذها للحصول على العديد من الامتيازات ، ويشير هؤلاء بصفة خاصة لأفراد عائلة الرئيس المقربين والذين يتهمون بالفساد المالي والإداري. ويقول المعارضون أن الديمقراطية في أنجولا لا تتجاوز الطبقة السطحية للنظام وهم يشيرون لتجاوزات خطيرة وقعت خلال انتخابات عام 2008 التي خرجت منها الحركة الشعبية ظافرة بالحصول على 82% من مقاعد البرلمان. ويتخوف بعض المراقبين من أن الانتخابات العامة المتوقع إجراؤها نهاية هذا العام قد تتميز بالعنف وتدفع بالبلاد نحو الحرب الأهلية مرة أخرى ، ويشيرون للمفارقات الكبيرة بين الصفوة المستفيدة من طفرة النفط في البلاد والطبقات الكادحة التي لا زالت تعاني من الفقر والتهميش. يرى الكثير من المعارضين كذلك أن الحكومة لا ترغب في إشراك الآخرين في هموم البلاد وأنها تتبع سياسة استقصائية واضحة. ويشير هؤلاء إلى أن كل رموز الدولة في الوقت الحاضر هي من صنع الحركة الشعبية فالعلم والسلام الجمهوري هما الرمزان اللذان كانت الحركة تستعملهما على أيام النضال ضد الاستعمار البرتغالي. ويمضون للقول بأن التاريخ الأنجولي نفسه تعاد صياغته من وجهة نظر الحركة الشعبية وهم يرون في ذلك محاولة من الحركة للاستمرار في الحكم لأطول فترة ممكنة وعدم إتاحة الفرصة للاحزاب المعارضة بالمشاركة. ويقول هؤلاء أن البلاد تعاني من الفساد والمحسوبية وعدم احترام القانون والتسلط خاصة من جانب رئيس الجمهورية ، ويشيرون إلى حالات بعينها اختفت فيها مبالغ طائلة من خزينة الحكومة دون تفسير واضح. أما منظمات حقوق الإنسان في أوربا فإنها تصدر العديد من التقارير التي تشير للحالة المزرية التي يعيشها المواطن الأنجولي العادي بالرغم من الزيادة الكبيرة في عائدات النفط ، ويقول هؤلاء أن أكثر من ثلثي سكان البلاد يعيشون تحت خط الفقر ولا يتجاوز الدخل اليومي للمواطن الدولارين في اليوم. ويدعمون حججهم بالتقارير الصادرة عن وكالات الأممالمتحدة المختلفة ، حيث أورد تقرير التنمية البشرية للعام الماضي أن أنجولا تحتل الموقع 148 من بين 187 دولة تتوفر بشأنها الاحصائيات. ولا يسلم من انتقاد هذه المنظمات حتى الحكومات الأوربية نفسها فقد قوبلت بالكثير من الامتعاض والنقد تصريحات للسفير البريطاني في لواندا أشاد فيها بسجل أنجولا في مجال حقوق الإنسان وأشار فيها للدور الكبير الذي تلعبه مفوضية حقوق الإنسان في الحكومة الأنجولية ومواقف الحكومة الأنجولية المشرفة في مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة. انتقدت منظمات حقوق الإنسان البريطانية تصريحات السفير واتهمت الحكومة البريطانية بمداهنة نظام الحركة الشعبية حماية لمصالح الشركات البريطانية العاملة في مجال النفط وغيره من الاستثمارات. لا شك أن الحركة الشعبية في أنجولا بالرغم من توجهاتها الاشتراكية اليسارية أو ربما بسبب هذه التوجهات لم تعرف كيف تستفيد من الموارد المادية التي أتاحتها لها الطفرة النفطية لتحقيق التنمية المتوازنة في البلاد. ولا نشك في أن الفترة الطويلة التي قضتها الحركة الشعبية بصفة عامة والرئيس دوسانتوس بصفة خاصة في الحكم كانت وراء هذه الغفلة. فالاستمرار في الحكم لفترات طويلة دون تحد حقيقي من جانب معارضة راشدة يقود عادة لظهور مراكز للنفوذ تسعى لتأكيد استمرار نظام الحكم الذي تعيش في كنفه بالرغم من أن الكثير من التجارب قد أثبتت أن ذلك لا يعود إلا بنتائج عكسية قد تؤدي في النهاية لفقدان مراكز القوى لمواقعها أو زوال الحكم نفسه. Mahjoub Basha [[email protected]]