التقيته لأول مرة في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي وكان ذلك في محطة قطار مدينة خاركوف الأوكرانية البديعة والتي تزدان صيفا ويزدان نساؤها الحسناوات الفارهات حتى تكاد لا تمييز بينهن وبين ورد وأزهار الحدائق الغناء المنتشرة في أرجاء مدينة العمال والطلبة كما كان يحلو لأهلها أن يطلقوا عليها في ذاك الزمان الخصيب المترع بالجمال، كنت في وداع أحد الإخوة الذي انتقل للدارسة في مدينة أخرى وقد وصل هو- من أحدثكم عنه- لتوه قادما من الوطن للدراسة أيضا ، صافحته ضمن آخرين فلمست من فوري تمييزه شاب مربوع القامة داكن السمرة سمح المحيّا، في حركته توتر وقلق، تقاطيع وجهه خليط من الصرامة والشراسة، تفضحه انفعالاته إذا تحدث، وتصدمك جرأته في انتهاك المحظورات، ولا تملك إلا أن تعجب بتفرده وتحترم طريقته في التعاطي مع الحياة ولو اختلفت معه في القناعات. تألفت والقادم الجديد ابن مدينة "الكوة" الوادعة دون عناء وصحبته لقضاء تلك الليلة ولقد كانت بحق ليلة بألف ليلة ما لبث فيها ابن النيل الأبيض المشاكس أن أبحر بي في عوالم وفضاءات مشتهاة لامسنا فيها ألق الأديب الفذ محمد عبد الحي وارتشفنا سلاف المبدع النور عثمان أبكر ومن ثم غصنا عميقا حتى تمايز الخيط الأبيض من الأسود في مكنونات الفكر الوجودي بيد أن كل ذاك كان "كوم" واختلاج أنفاس ضيفي وحماسه وانبهاره وهو يطرق أبواب "سنار" عايدا كان "كوما" آخر، كوم من العسجد والعقيق والزبرجد يكاد ثناء برقه يخطف الأبصار أمتعني الفتى الأسمر وأدهشني بمعالجاته لذاك النص الفارهة حد الزلزلة وتركني صريع الانشداه نعم فلقصيدة محمد عبد الحي الملحمية "العودة إلى سنار " عوالم وطلاسم مستعصمة لا يتثنى فك أسرارها إلا لذوي الزائغة الفطنة من الرجال وضيفي لحسن الحظ منهم. (أفتحوا ,حراس سنار أفتحوا للعائد أبواب المدينة - بدوي أنت ؟ - لا - من بلاد الزنج ؟ - لا أنا منكم . تائه عاد يغني بلسان ويصلي بلسان , من بحار نائيات لم تنر في صمتها الأخضر أحلام الموانئ كافرا ! تهت سنينا وسنينا مستعيرا لي لسانا وعيونا !!! أنا منكم جرحكم جرحي قوسي قوسكم وثني مجد الأرض وصوفيا ضرير مجد الرؤيا ونيران الإله أفتحوا الليلة للعائد أبواب المدينة) الروائي المبدع عباس عبود تسكنه الأسطورة وتأسره بيد أن الواقع ينزعه انتزاعا غير رحيم من أحضانها الدافئة فتلمس في أعماله الروائية والمسرحية تأرجحا إبداعيا مبهرا يمازج بين نكهة غارسيا ماركيز وجورج أمادو مستخلصا مذاق وجودي خاص ينطمس فيه الواقع وتغيم الأسطورة ليتشكل عالم عبود خلقا فريد يحتضن ويشاكس في نفس الوقت الاثنتين معا وينزع نزوعا جادا ليقارب أجواء وطقوس الراحل المقيم الأديب الطيب صالح ذات الترميز العالي والإدهاش اللامتناهي. تأخذك أعمال عبود الروائية لعوالم مجهولة ليقطع أنفاسك عدوا خلف الحقائق الممسكة بهدب المستحيل والمتدثرة بأخيلة سحرية تقودك لوادي الحيرة والأسئلة العصية على الإجابات الجازمة عوالم تطارد فيها التفسيرات التساؤلات الملحة علها تتنزل على الواقع وترتاح من نصب البحث المضني عن المطلق بعيد عن النسبية المتأرجحة، في محاولة "سيزيفية" للتحرر من وهم الاستنتاجات الغارقة في العبثية وفي غمرة التوغل الموحش فيما وراء المحسوس يصدمك الواقع فجأة بأدق تفاصيله ويفقدك الاتزان ...يتركك كبندول الساعة تتأرجح بين المنطق ولا منطق بين الحقيقة والخيال بين الأسطورة المترفعة في سطوتها والواقع البائس في انكساره المريع بحيث تحس بدبيب الفكرة تتسرب لدواخلك كسلاف يندلق في لحظة نشوة ليطفئ ظمئ صحاري الغفلة وينير النفق المظلم في النفس بقنديل يكاد زيته يضئ وإن لم تمسسه نار. تصيبك روايات عباس عبود وأعماله المسرحية بألقها وانسياب أحداثها بخدر لطيف يهيمن على الحواس ويجبرك على الانقياد المبصر مشدوهًا بجماليات البنية النصية والتراكيب اللغوية في بساطتها المحببة التي تطوع الأسطورة الغارقة في لجة الماضي السحيق وتنفض عنها غبار وركام الأمد، تعيد لها البريق وتطرحها أمامك واقعا ماثلا يسعى بين السطور ليتناغم بإعجاز فذ مع اليومي المعاش في أدق وأرق لحظات حميمية ، دفق إبداعي تشاكس فيه الفكرة الأخرى وتخذ بخناقها حد الحرابة وتتداخل فيه الألوان والرؤى مولدة قوس قزح يخطف الألباب ويستفز العقل بإعلانه الجهور التعري الفاضح بلا تسويف من محيط ومخيط ثوابت النسبية وإطار الأيدولوجيا الفج ، فاردا جناحيه للريح ومستمدا ثبات قناعاته القطعية من ذاك التشاكس بلا ابتذال للخيال ولا اختزال للمحسوس في تناغم مدوزن مشوبٍ بقلق الخلق الجديد. عباس علي عبود روائي وقاص سوداني غزير الإنتاج من إصدارته الروائية (طقوس الرحيل – مرافئ السراب- أساطير الأنهار – السارية) بالإضافة لمجموعة قصصية بعنوان " صهيل الفجر الغامض" وعدة مسرحيات وكتابات شعرية، صدرت له مؤخرا في القاهرة رواية "قبسُ من مدارات الحنين" فابن "الكوة" القابعة في هدوء واتزان على ضفاف الأبيض استصلح أرضه وشذب وارف شجيرات العطاء خلال ارتحاله الصبور في عوالم الإبداع الشائكة فأتت أكلها عدة مرات ولا تزال بكر تطرح ثمار يانعة طيبة المذاق وكاملة الدسم. تيسير حسن إدريس 2/05/2012م تيسير ادريس [[email protected]]