عندما تتحدث أو تقرأ لبعض المغتربين السودانيين تشعر بأن الإنقاذ ليس لها "وجيع" . الكل غير راض عنها. ولكن حينما تحين ساعة الجد والفرز الواقعي بعيدا عن السفسطات الكلامية تكتشف بأن الأمور ليست بتلك البساطة. ما زالت الإنقاذ تستحوز وتستجيب لأفكار وتطلعات الكثيرين هنا. الذي دعاني إلى كتابة هذا الراي هي الدراسة التي قام بها المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات وموضوع البحث هو " مشروع قياس الرأي العربي" . هذه الدراسة تحدثت بوضوح عن تأييد كبير لسياسات الحكومة السودانية ( قبل فورة هجليج) من قبل العينة أو الشرائح التي تم استطلاعها. وسوف نناقش لاحقا مدلولات هذا الأمر. أود التنبيه بداية الى أهمية علم الإحصاء ، الذي احسبه قد تقدم كثيرا في السنين الماضية فيما يتعلق " بقياس الرأي" والسبب في رأيي هو دخوله بشكل كبير كمادة تجارية تستثمر في استكشاف ميول المستهلكين وترويج البضائع فأصبح بذلك عاملا مهما في النجاح التجاري. هذا النجاح راكم أمام علم الإحصاء كما هائلا من البيانات التي يمكن أن تحلل بكل يسر ثم يعاد تشذيبها مرة أخرى لكي تتلائم مع الواقع. ولم يقتصر الأمر على موضوع الحملات التجارية للبضائع بل تعداه كما هو معروف منذ فترة الى الحملات الإنتخابية التي أصبحت بدورها "سلعة" تصمم لها البرامج التي تنطلق من توجهات وميول الناخبين. لا أود الإطالة هنا فيما بات معروفا سلفا للكثيرين ولكني أشير إشارة عابرة الى أن "الكيزان" كانوا ، ولا زالوا، من أكثر الفعاليات السودانية اهتماما بموضوع قياس الرأي . أذكر فيما كنا طلبة في الجامعة في سبعينات القرن الماضي وكانت المعركة على أشدها بين النميري والكيزان كنا لا نستمتع إلا بشهر أو شهرين من الدراسة ثم تغلق الجامعة ابوابها لأسباب سياسية. في إحدى المرات كنت أمزح مع أحد زملائي الكيزان فذكرت له مداعبا بأن الإجازة خير وراحة من المذاكرة والإمتحانات.لكنه ابدى تبرمه..ذكر لي بأن التنظيم كان يطلب منهم بيانات عن كل الموجودين بقريتهم أو مناطق سكناهم وتصنيفهم حسب ميولهم السياسية ...الخ مما ينقص عليه متعة الاجازة المرتقبة. لاشك عندي من أن البيانات التي تمت مراكمتها في تلك الفترة قد ساعدت كثيرا في النجاح الإنتخابي "الباهر" الذي حققته الجبهة القومية الإسلامية في الإنتخابات التي أعقبت إنتفاضة أبريل 1985 (على الرغم من أن قادتها كانوا قد خرجوا مطأطي الرأس خجلا من مشاركتهم نميري الحكم حتى آخر شهر من عمر نظامه( بالعودة إلى موضوعنا ، فقد أظهر مركز قياسات الرأي للمركز العربي للدراسات بعض النتائج التي تبدو غريبة في ظاهرها ، فمنها على سبيل المثال : 85% راضون عن حياتهم (أكثر من 53% راضون جدا( 60% راضون عن وضهم المعيشي (مقابل 16% فقط غير راضين( 60% راضون عن مستوى الأمان في سكنهم 56% راضون عن الوضع السياسي في الدولة. لعل هذه النتائج "الصادمة" لا تجد القبول أو قل لا تجد الرضا لدى الكثيرين مثلي . والحل الأسهل أمامي هو الإدعاء بأنها نتائج منحازة أو على أقل تقدير غير دقيقة. وفي هذا إصرار وعناد مفاهيمي غير مبرر ، وهو بالتالي يضع حامله فريسة للبرغماتية والتأويلات الشخصية.فإذا اردت أن أكون منصفا فلا بد لي من التسلح بمعرفة خبايا علم الإحصاء كي أنتقد المنهجية التي بنيت عليها الدراسة.ولكن لسوء حظي فأنا لاأملك منها شروى نقير. لكنني فكرت في تجربة شيئ آخر وهو العمل ضد الإرادة الشخصية و"هوى النفس" والتسليم بصحة تلك القراءات ، فهل لهذا التسليم إنعكاسات واقعية ؟ فإذا سلمنا جدلا بصحة تلك المعلومات هل نتمكن من تفسير بعض الظواهر التي كنا نراها مستعصية على افهامنا؟ السؤال المهم في نظري كيف تسنى لحزب ضعيف سياسيا أن يعمر لأكثر من 23 عاما في الحكم ؟... ربما قال قائل وما علاقة طول المكوث في الحكم بتأييد الحكام؟. أقول بأن العلاقة أكثر من وثيقة . لدي قناعة شخصية بأنه إذا ما تراكم عدم الرضا السياسي بتفاصيله الاقتصادية والسياسية والاجتماعية فلا شيء يحول دون إنتصار الإرادة الشعبية المعارضة مهما بلغت قوة قبضة النظام الأمنية وتضخمت آلته العسكرية.الشواهد التاريخية كثيرة ، على سبيل المثال ماركوس في الفلبين ، الشاه في إيران ، سوهارتو في اندونيسيا ،دول شرق أوربا ، وأخيرا دول "الربيع العربي". كلها تجارب تعزز من الفرضية السابقة بان القوة العسكرية والأمنية ليست عاملا حاسما في الصراع على السلطة . فقط رضا وتنظيم الجماهير الشعبية هو العامل الحاسم في هذا الصراع. ربما يتساءل البعض ، هل تجد فعلا رضا شعبيا على ممارسات سلطة الإنقاذ؟ وأقول بأن الرضا ربما لا يظهر في شكل إيجابي صارخ ولكنه يتجلى بعض الأحيان في السكوت (أو التردد) .والسكوت هو نوع من الرضا أو قد يكون نوع من الوقوف على الحافة تتجاذب الإرادة الشعبية فيه عدة متنازعات تكون الغلبة في نهايتها لمن يستثمر هذا السكوت بذكاء. وفي الغالب الأعم النظام الذي يمسك بناصية الإعلام والإقتصاد والدولة وغيرها يمسك "بكروت" مهمة في هذا الصراع . والجانب المهم الآخر هو مدى قوة المعارضة وإمكاناتها في كشف ودحض دعاوى وممارسات الأنظمة والممارسة العملية الفاعلة والإيجابية في معارضة النظام. وهذا بالضبط ما نفتقده في منظماتنا الحزبية والجماهيرية. بالمقابل دعنا نلقي قليلا من الضوء على ممارسات الإنقاذ السياسية والاقتصادية منذ أن تربعت على دست الحكم في 1989. ففي الأيام الأولى للإنقلاب أخذ الجنود المدججون بالسلاح أماكنهم أمام المتاجر وأجبروا التجار على بيع ما لديهم من بضائع بالأسعار التي فرضوها بالرغم من أن كثيرا من التجار كان قد ابتاع تلك البضائع بأسعار السوق الحر التي كانت سائدة في تلك الفترة مما اشاع خسائر كبيرة في وسطهم وأدى الى إنعدام السلع الأساسية كالدقيق والشاي والسكر والفحم ...الخ لكن الإنقاذ كان همها الأول في تلك الفترة هو كسب التعاطف وبناء قاعدة متينة من التعاطف الجماهيري والظهور أمام الناس بأنها مع " المصتضعفين في الأرض" و "إحنا جينا من بيوت الحفر" كما جاء في خطاب البشير في سلاح المظلات في الأسبوع الأول للانقلاب (وكان يقصد بالحفر سكنى عائلاتهم في تلك الفترة بمنطقة كوبر التي كانت تكثر في شوارعها الحفر والمطبات). ثم كان الإستثمار المبطن للتناقض الكبير بين وضعية الأرياف والمدينة وتركيز الدعاية الإعلامية ضد المدينة وقاطنيها والدفع بالتمثيل القبلي والمناطقي الواضح للمناصب التنفيذية والإدارية مع إشهار سلاح الصالح العام الذي تأذي منه بصفة خاصة أبناء المدن.كنت قد إستشهدت في مقال سابق لي بأنه يندر أن تجد ،في المدينة، إما أخيك أو جارك أو قريبك أو إبن حيك إلا وقد مسه سوط الصالح العام. آلاف العائلات تكبدت الذل والمهانة والمسغبة في صمت وصبر بعد أن فقد عائلها مورد رزقه الوحيد. هذا المجهود الذي كان يبدو في ظاهره إعادة ترتيب للخدمة المدنية التي كانت لدرجة كبيرة حكرا على الوجوه المدينية لكنه في التخطيط البعيد (وكما ظهر جليا الآن) لم يكن إلا تهيئة للتمكين أو إعادة رسم الطبقات الإجتماعية لصالح منسوبي الحزب الحاكم. فهذا الإجراء الذي كان ظاهره عدل إجتماعي خدع الكثيرين وكسب بذلك تأييد مجموعات كبيرة كانت قد تضررت من هيمنة أبناء المدن على الوظائف والأراضي ...الخ. لا أعني هنا التأييد الشعبي العفوي للبسطاء ولكن هذا الفرز قد إستحوز على إعجاب كثير من المثقفين بما فيهم من كان يعتمد الماركسية منهجا للتحليل السياسي . ثم جاء بعد ذلك دور تفعيل الحرب ضد الحركة الشعبية وزيادة نعراتها وتجييش البسطاء بالإرهاب تارة وبإستدرار العواطف الدينية والنعرات الوطنية والقبلية تارة أخرى. الغريب في الأمر بأنهم بدأوا مشوارهم في السلطة بدعاوى السلام والمفاوضات مع قرنق وكانوا يصرحون بدون مواربة بأن لا مانع لديهم من تفعيل حق الانفصال إذا ما دعا الأمر لأنهم ومنذ أمد بعيد كانوا يرون في السياسيين الجنوبيين عائقا أمام مشاريعهم التي كانت تستند في شقها الدعائي والأيديولوجي على النعرة الدينية و"تحكيم شرع الله". لكن فيما يبدو فقد وجدوا أن الحرب يمكن أن توفر لهم سندا شعبيا ووجودا إعلاميا جماهيريا كبيرا يسهل عليهم إيجاد المبررات على إخفاقاتهم الاقتصادية. فحينما لا تتوفر السلع الأساسية تكون الشماعة "هي الحرب التي يشنها علينا الكفار ودول الإستكبار والإمبريالية وأعوانها المحليين". كانت فترة أيضا ناجحة من حيث الإستقطابات الجماهيرية سخر فيها التنظيم كل طاقاته المادية والبشرية إعلاميا (كان للمهندس الطيب مصطفى دورا كبيرا في هذا الجانب).كما كانت هي ايضا فرصة طيبة لأعضاء التنظيم لإسعاد أنفسهم بما لذ وطاب من الوظائف العليا في الدولة (التي أصبحت حكرا عليهم) وبكل المكاسب الدنيوية التجارية والإقتصادية التي وفرها لهم "فقه" التمكين فكان ، بالضرورة ، لزاما عليهم العض بالنواجذ على هذه المكتسبات وعلى النظام الذي وفرها والدفاع عنه سلما أو حربا . هذا الزخم والحراك الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الكبير ساعد النظام على البقاء بالرغم من الصعوبات الإقتصادية التي كانت تواجهه إلى أن توج هذا الصبر بإستخراج البترول الذي ضخ عوائد وفوائض مالية مقدرة للخزينة العامة مما اشاع روحا من الثقة والإرتياح النفسي الأمر الذي ساعد القيادة على القبول بمقترح نيفاشا للسلام. ولكن التنظيم الذي جبل على أن يكون كل شيئ "للتمكين" لم يقبل "الفطام " ومشاركة الآخرين له الكعكة التي "جاءت على جثث الشهداء و...الخ ". ثم بدأت صراعات مناطق النفوذ داخل التنظيم تكتسب أهمية كبيرة و"الكنكشة" على المكاسب صارت أقوى مما ساعد كثيرا على تقويض الاتفاق الهش (نيفاشا) الذي كان يفترض أن يقوم على "الوحدة الجاذبة". تلتها بعد ذلك النتيجة "المأساة" المعروفة بانفصال الجنوب. ما يهم هنا هو تجلي البداية الحقيقة لتردي الأوضاع الاقتصادية ، التي لم يتمكن النظام من "غتغتتها" ، بذهاب الريع البترولي الكبير والهاوية الاقتصادية التي يتدحرج عليها بقوة . لكن "الخواجة دائما ما يرجع إلى أوراقه القديمة" كي يعيدها سيرتها الأولى . دورة تبدأ بالحروب والدعايات الإعلامية المكثفة الممزوجة بالدعاوى الدينية والقبلية والعنصرية حتى يفجر الله لهم مرة أخرى بترولا أو مددا آخرا يعينهم على تصريف شئونهم . هي دائرة خبيثة تقع على "شفا جرف هار" يريدها النظام أن تظل هكذا ، والمتضرر هو الشعب السوداني الذي يدفع الفواتير في كل الأحوال مزيدا من الاضطرابات السياسية وعسكرتها وسوءا في الأحوال الاقتصادية ليس من المرجح التعافي منه في القريب العاجل . ليست هنالك حلولا سحرية يمكن أن تعيد الأمور الى نصابها . لكن يجب السعي الحثيث الى نزع فتيل المبادرة العملية من يد الحكم وعدم ترك الملعب الجماهيري خاليا له يعبث فيه كيفما يشاء . فهو المستفيد الأول والأخير من حالة الإرباك الحالي التي عملت على تحييد قطاعات كبيرة من السكان والأحزاب السياسية فأصبحت خارج الفاعلية والحراك السياسي . يجب قلب الطاولة على الساحر وعكس مفعول السحر الذي يمارسه كي يذوق وبال عاقبة امره خسرا .