إن قيام انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة وذات فرص متكافئة، دليل على المعنى الحقيقي لمفهوم الدولة الحديثة ذات المؤسسات وسيادة مفاهيم الحرية والعدالة وحقوق الانسان والتسامح واحترام الآخر، وبالمقابل قيام انتخابات صورية دليل على المعني الحقيقي للدولة الشمولية وسيادة مفاهيم القمع والقهر واحتكار الرأي والظلم وانتهاك حقوق الانسان وإلغاء الآخر، وهذا ما حدث أخيراً من قبل نظام المؤتمر الوطني، وكذلك ما يحدث في اغلب دول العالم الثالث. لقد قدر لي وأنا في عمر الثالثة عشرة أن أعايش حمى الحملة الانتخابية التي أجريت أبان الحكومة الانتقالية «سوار الذهب- الجزولي دفع الله» والتي تم تشكيلها بعد ثورة رجب- أبريل التي أطاحت بالنظام العسكري الشمولي آنذاك بقيادة جعفر نميري له الرحمة والمغفرة. لقد كانت انتخابات بالمعنى الحقيقي، حيث أن كل الاحزاب كانت متساوية الفرص، ولا يوجد حزب معين يسيطر على مقاليد الامور أو مستحوذ على موارد الدولة كما هو حادث الآن، وكانت هناك حكومة قومية انتقالية تشرف عليها. وكانت الحملات الانتخابية للأحزاب في تلك الانتخابات على أوجها، وكانت تجرى على مختلف وسائل الاعلام والدعاية، وكانت أكثرها تشويقاً الندوات واللقاءات السياسية والدعاية التي تبث من خلال السيارات المتجولة بالأحياء السكنية، وتدعو المواطنين المناصرين للحزب المعين لحضور ندوة أو لقاء سياسي، أو أحياناً يتم من خلالها طرح بعض السمات العامة للبرامج الانتخابية للأحزاب، وذلك بغرض كسب مزيد من المؤيدين وكذلك مزيد من التنويرللمناصرين، وكذلك من سمات تلك الانتخابات الشعارات والملصقات التي تملأ الاماكن العامة، ولا توجد فكرة تمزيق الملصقات والشعارات التي اصبحت ثقافة تميز بها نظام الانقاذ التي انتشرت بكثرة وبصورة همجية وبربرية في الجامعات، وكانت واحدة من أسباب العنف والعنف المضاد في الجامعات بين التنظيمات المعارضة من جهة وتنظيمات طلاب نظام الانقاذ من جهة أخرى. لقد كنت مبهوراً جداً بتلك الحملات الانتخابية وبالشباب القائمين عليها، وكنت أمني نفسي أن أكون مشاركاً فيها، ولقد بثت فيَّ الحماس وحب أن أكون منتمياً، وأن أدلي بصوتي لأساهم في بناء نظام حكم ديمقراطي رشيد في ظل دولة مؤسسات حقيقية تحترم حقوق الانسان، وتساوي الفرص وتحقق التنمية المستدامة لكل ارجاء الوطن الواحد. وكان قانونياً وقتها لا يمككني أن أصوت في تلك الانتخابات، حيث انني لم اصل السن القانونية، لكن بإمكاني فعل ذلك في الدورة القادمة بعد اربع سنوات حسب قانون الانتخابات، وهذا ما يحدث على سبيل المثال في كل من أمريكا وبريطانيا، ولكن هيهات، فقد اغتالت الجبهة الاسلامية القومية حلمي الجميل بقيامها بعملية غدر حيث قامت في يوم 30 يونيو 1989م والناس نيام بسرقة الحكم عن طريق انقلاب عسكري في نهايات ايام الدورة الاولى للحكومة المنتخبة التي اجريت في 1986م. لقد كانت الحكومة المنتخبة آنذاك حكومة مفوضة من الشعب ومن أجل الشعب، وليست حكومة أمر الهي تحكم وتأمر باسم الدين كما يفعل نظام الانقاذ والدين منها براء. ولكن كانت هناك حسب رأيي ثلاث عقبات رئيسية «داخلية وخارجية» على سبيل المثال كانت تواجه تلك الحكومة المنتخبة، وكانت تعوقها عن تنفيذ كثير من مشاريعها وبرامجها (Projects and Programs) مما اثر سلباً على المنافع (Benefits) التي كان بالامكان تحقيقها لصالح الشعب، وتلك العقبات هي: 1/ داخلياً كانت الجبهة الإسلامية القومية تمثل خميرة عكننة للحكومة، بالرغم من أنها حققت مكاسب مقدرة في تلك الانتخابات مقارنة بالانتخابات التي اجريت قبلها بعد الاطاحة بنظام عبود، وكان من المقدر ان تأتي الجبهة الاسلامية الى سدة الحكم بتفويض من الشعب أو على الاقل سيكون لها تمثيل واسع في البرلمان، حيث ان الاتجاه العام لمسيرة الانتخابات يشير الى تزايد تأييدها داخل قطاعات الشعب خاصة الحديثة منها. ولكن يبدو ان استراتيجية الحزب العقائدي كانت كسائر الاحزاب العقائدية الاخرى التي تستعجل بلوغ السلطة، ولا تؤمن بالديمقراطية سبيلا للحكم، فقد عملت الجبهة الاسلامية القومية على تقويض تلك الحكومة بشدة، إلى ان تمكنت من الاستيلاء عليها عن طريق انقلاب عسكري. 2/ اقليمياً ثانياً كانت هناك دول اقليمية غير راضية بالوضع الجديد في السودان، حيث ان ذلك يشكل تهديدا لنظمها الداخلية، وكانت تخشي ان تنتفض شعوبها وتطالب بالنموذج الديمقراطي الذي حدث في السودان، لذلك كانت بعضها تدعم حركة التمرد لاضعاف موقف الحكومة المنتخبة، وبعضها غض الطرف عن القيام بالمبادرات السياسية والاقتصادية الكفيلة بنزع فتيل الازمة بين الحكومة والحركة الشعبية لتحرير السودان. 3/ دولياً كانت تلك الحكومة «حكومة السيد الصادق المهدي» ليست على وفاق أو علاقة صافية مع الادارة الامريكية (USA Administration)، حيث أنها لم تكن تنفذ أجندة أو تحقق مصالح الادارة الامريكية في المنطقة، وذلك لأن الحكومة أو رئيس وزرائها محاسب أمام ناخبيه، وكذلك امام اعضاء البرلمان المنتخبين من عموم الشعب السوداني، ولكن يمكن لأية حكومة شمولية «حكومة فرد أو حزب» ان تنفذ او تحقق اجندة الادارة الامريكية، وذلك لأن اتخاذ القرار في هذا الخصوص فردي يتخذ من قبل الطاغية او الجهة الواحدة، ولا توجد محاسبة كما هو في النظام الديمقراطي، ويمكن لذلك النظام «الشمولي» الذي ينفذ اجندة الادارة الامريكية أن يحقق من جراء ذلك مكاسب اقتصادية وأمنية وعسكرية جيدة. وحسب رأيي فإن الادارة الامريكية في علاقاتها وخاصة مع دول العالم الثالث أو المتطورة (Third world or the developing countries) تكون علاقتها جيدة مع الدول التي تنفذ اجندتها ومطالبها بغض النظر عما إذا كانت تلك الدول ديمقراطية او شمولية، وهذا ما يفسر العلاقة القوية بين كثير من دول المنطقة وخاصة الشمولية منها التي تنفذ اجندة الادارة الامريكية، والعلاقة المتوترة بينها والدول التي لا تنفذ اجندتها من جهة ثانية. وحسب رأيي ومتابعتي فإن الادارة الامريكية ترى أن نظام الانقاذ الحالي في المنطقة هو الاصلح لها من أي نظام ديمقراطي آخر، وذلك لأن ما حققه هذا النظام للإدارة الامريكية لا يمكن أن يتحقق في ظل حكومة ديمقراطية. وتوجد هناك أسباب كثيرة أخرى مثل المجاعات في الشرق والغرب والنهب المسلح والديون وعجز الميزان التجاري والتناحر بين الاحزاب والائتلافات، حيث ان الحزب الفائز «حزب الأمة القومي» لم يحصل على الاغلبية الديناميكية التي تؤهله لتشكيل حكومته وتنفيذ برنامجه منفرداً، وغيرها من المشكلات الاخرى، ولكنها تظل مشكلات معروفة تعالج بشفافية (Transparency) وبالدراسة والتمحيص والاولوية (Priorities) وكذلك بمزيد من ممارسة الديمقراطية. إن الانتخابات التي اجريت أخيراً لم يكن الغرض منها بتاتاً أن تأتي بحكومة ديمقراطية تمثل ارادة الشعب، لأنه اذا كانت تلك قناعة الانقاذ لما قامت بإنقلابها المشؤوم ذلك، وكما ذكرت آنفاً فإن الأحزاب العقائدية لا تؤمن بالديمقراطية سبيلا للحكم الرشيد، وحتى اذا شاركت فيها فإنه يكون تكتيكا منها، وما تلبث ان تنقلب عليها أو تحولها الى شمولية اذا افترضنا انها فازت بها من خلال انتخابات حرة ونزيهة. إذن ما هو الغرض من إجراء الانتخابات الحالية؟! فكما هو معلوم فإن نظام الانقاذ قد وقع اتفاقية السلام الشامل (CPA) مع الحركة الشعبية لتحرير السودان في يناير 2005م بكينيا في ضاحية نيفاشا، وكانت الاتفاقية ثنائية بينهما فقط دون مشاركة القوى السياسية الاخرى الفاعلة في الساحة «الامة، الاتحادي، ... الخ»، فالمؤتمر الوطني كان يمثل نظام الحكم القائم آنذاك والحركة الشعبية كانت تقاتل وقتها ضمن قوات التجمع الوطني الديمقراطي بأسمرا، وكان من المفترض أن يذهب التجمع بكامله لمفاوضة حكومة الجبهة الإسلامية القومية واحداث التحول الديمقراطي، ولكن التقت إرادة كل من الجبهة والحركة، وتم تجاهل بقية قوى التجمع. والحركة ترى أنها من الأفضل لها مرحلياً أن تتفق مع الجبهة حيث بإمكانها أن تحقق مكاسب قد لا تتحقق في الأجل القريب مع التجمع، ومن أهم تلك المصالح الانفصال مع أنه مضمن ومتفق عليه في اتفاق القضايا المصيرية بإسمرا، وكانت حكومة الجبهة ترى بأن الحركة هي الحلقة الاقوى في التجمع، وفي حال اتفاقها معها سوف لا يكون هناك تهديد كبير من قبل القوى الاخرى، وبإمكانها فصل الجنوب والانفراد بحكم الشمال وتطبيق النموذج الاسلامي الذي تنادي به، وكانت استراتيجية الجبهة عندما استولت على السلطة هي القضاء على ما تسميه الاحزاب الطائفية، وتقصد بذلك الامة والاتحادي ومعهم الحزب العقائدي الفاعل الحزب الشيوعي السوداني. وكان من أهم بنود اتفاقية نيفاشا: 1/ قيام انتخابات في العام الرابع من الفترة الانتقالية الثانية. 2/ إجراء الاستفتاء الخاص بتقرير المصير بعد الانتهاء من الانتخابات. لذلك فإن قيام هذه الانتخابات كان شرطاً أساسياً من شروط اتفاقية السلام الموقعة بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان، وكان لا بد للمؤتمر الوطني من الايفاء بهذا الالتزام الذي طوق حول رقبته، وكان ليس مهماً موضوع مشاركة الاحزاب من عدمه او موضوع نزاهتها وحريتها وجديتها، وكان لا بد من أن يفوز حزبان فقط، وهما الشريكان حتى يتمكنا من تكملة بقية مشوارهما، فعلينا أن نتخيل أو إذا افترضنا ان هذه الانتخابات كانت حرة ونزيهة، وحصل ان فاز حزب غير المؤتمر الوطني في الشمال وآخر غير الحركة الشعبية لتحرير السودان في الجنوب، ماذا كان سيحصل وماذا كان سيكون مصير اتفاقية السلام؟ وبالتأكيد فوز أية قوى أخرى غير ثنائي اتفاقية السلام كان سيحدث نقطة تحول في مسيرة الحياة السياسية السودانية بكامل جوانبها، ولكن كان لا بد من إجراء انتخابات صورية لتحقيق اهداف الطرفين، وحتى المجتمع الدولي وأخص هنا الجهات الراعية للاتفاقية ما كانت ستسمح بغير ذلك. لذلك فإن المهم من الانتخابات ليس اجراء انتخابات حرة ونزيهة حسب المعايير الدولية المعروفة، ولكن المهم كان ان هناك التزاما بين الطرفين لا بد من الالتزام به وهو الاستفتاء، ولا جدوى من الحديث عن مدى نزاهتها وحريتها، بقدر ما هو مطلوب أكثر كشف الاجندة الخفية لكلا الطرفين، وكيفية توجيه دفة سفينة الحياة السياسية الى المرافئ التي تحقق مصلحة الوطن والمواطن، وليس مصلحة قوى بعينها. لقد كانت نظرة الأحزاب التي قاطعت الانتخابات نظرة ثاقبة، وكنت اتوقع ان تقاطع الاحزاب هذه المهزلة من مراحلها الأولى دون المراحل المتقدمة، حيث انه لا يمكن أن تُقام انتخابات حرة ونزيهة في ظل حكومة شمولية يسيطر عليها حزب واحد، ويستحوذ ويسيطر على جميع موارد الدولة. إن قيام حكومة قومية انتقالية لو كان المؤتمر الوطني جاداً في موضوع الانتخابات، هي السبيل الوحيد الذي كان يمكن من خلاله للأحزاب أن تشارك مطمئنة، ويضمن قيام انتخابات حرة ونزيهة، لأنه من خلال الحكومة القومية يمكن: 1/ تكوين مفوضية انتخابات محايدة ومؤهلة مهنياً واكاديمياً. 2/ تكافؤ الفرص بين جميع القوى السياسية. 3/ التوزيع العادل للموارد المتاحة للقوى السياسية. 4/ ضمان حرية التعبئة السياسية في الحركة والتعبير والتجمع والدعاية والإعلان. 5/ قضاء مستقل ونزيه يمكن أن تلجأ اليه كل الاطراف دون خوف من التسويف أو الانحياز. ولكن دون تكوين حكومة قومية تظل الانتخابات صورية ونتائجها معروفة مسبقاً، ومثلها مثل كل الانتخابات الصورية التي تجرى في ظل الانظمة الشمولية. وتظل حكومة المؤتمر الوطني غير جادة في موضوع التحول الديموقراطي، وتريد فقط كسب الوقت لتحقيق مصالحها الحزبية الضيقة. في الختام انهي هذا المقال بعدة اسئلة هي في حاجة لإجابات بعمق ودراسة مستفيضة من جميع القوى الفاعلة في المجتمع، والمحبة للخير والوطن، حتى يمكننا أن نرسو على بر الأمان: 1/ ما هو موقف القوى السياسية والمدنية بعد الاستفتاء إذا ما ظهرت النتيجة لصالح الانفصال؟ 2/ ما هو مصير إخواننا الجنوبيين في الشمال ومصير الشماليين في الجنوب اذا تحقق الانفصال؟ 3/ ما هي حدود الترسيم بين الجنوب والشمال في حال تحقق الانفصال؟ 4/ ما هو مصير وشكل العلاقة بين الدولتين الجديدتين؟ 5/ ماذا سيكون شكل الحكم في الشمال، ومن سيكون الحليف المشاكس الجديد للمؤتمر الوطني في الدولة الجديدة؟ 6/ هل ستطالب أقاليم أخرى بنفس المصير؟ 7/ هل كان بالإمكان أن يتم هذا الانفصال في ظل حكومة ديمقراطية وبطريقة حضارية ومن داخل البرلمان؟ 8/ ما هو السبب الذي يجعل المؤتمر الوطني ينفرد بهذه المسؤولية التاريخية، ويرفض نصائح كل القوى السياسية، وهل هو قادر على تحمل هذه المسؤولية؟