شمّرت اليوم لأبكيك يا خليل. جادلتني نفسي سبعة أيام. لم أتيقن إلا الليلة أنك ذهبت مع سابقيك في رحلة لا يؤوب منها الذاهبون. أعلم لو كان في البكاء غناء لكفاك الذين بكوك دماً من رجال ونساء،،، ولكن ليس لنا سوى ماء العيون نغسل به أحزان القلب ونطفئ به حريق الحشا. أسبوع بتمامه منذ أن هتف الناعي في أذني مكروباً: طال الموت صفيّك خليل! كذّبت الناعي. قلت لا يرحل مثل خليل دون أن تبلغني منه إشارة. أصخت السمع لقلبي،،، فسمعت نشيج الباكين حول سريرك. فكذّبت أذني،،، وكذّبت الباكين حولك. ثم دنوت وهتفت باسمك،،، فلم يأتني غير صدى الصمت من جسد مسجّى، فكذّبت سمعي. ثم دنوت ولمست عروق يديك،، لا وجيب،،، فكذبت حسّي. واليوم بلغتني الإشارة منك يا خليل،،، ولما أتاني اليقين،،، طفر الدمع من قلبي دماً،،، وأجهشت روحي بالبكاء. كنت فيما مضى، كلما رأيت أياديك البيضاء تمتد عن يمين وعن شمال، قلت "الله لا جاب يوم شكرك يا خليل".،،، وهأنذا أعيش لفجيعتي لأشهد يوم شكرك. التقيته لأول مرة في أول التسعينات من القرن الماضي. ولا أزعم أنني صادقته منذ أول يوم، فلم يكن خليل من أولئك الذين تبني معهم صداقة في ليلة، أو تسبر غورهم من لقاء أو لقاءين، فقد كان عميقاً كبحر، لا تبدي صفحة وجهه إلا أقل القليل مما في باطنه من لآلئ وكنوز. وحين تعرفه عن قرب يتكشّف لك عن رجل مفرط الذكاء، متعدد الاهتمامات، واسع العلم والإحاطة بعصره، صديق يبذل روحه لأصدقائه، وقلب عظيم العاطفة وبالغ الرحابة في إنسانيته. أتعبه فرط ذكائه وتعدد مواهبه واهتماماته، فجعل مشوار حياته جملة من المشاريع التي هي قيد التنفيذ. يبدأ بمشروع مندفعاً ومثابراً إلى أن يبلغ قريباً من مرحلة الإثمار، ثم يقفز لآخر فينفق فيه من طاقاته الهائلة. وقبل أن يكمله يبدأ جديداً لا يكتمل أبداً. حتى مشاريعه التجارية الخاصة يختارها برؤية وبصيرة ويبلغ بها القمة ثم ينصرف عنها وراء قضاياه ومشاريعه المستجدة. ولو تفرغ بجزء قليل من قدراته وفكره وجهده لكان من أثرى الأثرياء، ولكن الثراء المادي لم يكن ضمن أولوياته، فقد كان على الدوام في عجلة من أمره ليضع بصماته على مساحات أوسع من مجالي الحياة. لكن ساحة العمل النوبي ظلت دائماً مشروع حياته الذي أوقف له جلّ عنايته وإسهامه الفاعل طوال سنوات نضجه. لم يبخل بجهد ولا مال في سبيل النهضة بالنوبة أرضاً وبشراً. لم يسمع بقضية نوبية إلا سبق الجميع في التصدي لها والاستماتة في المنافحة عنها. أما قضية السدود (وسد كجبار بصفة أخص) فقد اتخذها قضيته الشخصية والثيرمومتر الذي كان يقيس من خلاله أصدقاء النوبة المخلصين وخصومها الذين يسعون لإغراق ترابها ومحو تراثها وتمزيق شعبها. تمثّل مفتاح شخصيته وأبرز سمات منهجه في انحيازه للاستنارة الفكرية ونفوره من القوالب التقليدية وسعيه الدؤوب للانتصار لمشاريع التحرر والتقدم والتجديد، وكما لو كانت مواقفه ردة فعل عكسية لسنوات عيشه الطويلة كمواطنً في بلد خليجي محافظ غارق في الاحتفاء بالتقاليد والتمسك بالموروث. يقرأ بنهم في كل وقت وفي كافة الميادين والمجالات، في السياسة والفن والدين والاقتصاد والتاريخ والأدب. ويسهر حتى الفجر ينقب ويبحث في شبكة الإنترنت ويكتب في المنتديات، ويشارك في الندوات، ويجادل في المنابر. ويرهق مساجليه ومحاوريه بقدرته الفذة في الدفاع عن مواقفه، وألمعيته في كشف الخروق في دفاعات الخصوم، ومثابرته على البحث المستفيض والإحاطة بجوانب قضيته. من كان يكتفي بسماعه يتحدث بحماسة مفرطة، أو يقرأ له من بعد وهو يكتب مدافعاً بعنف أو ناقداً بحدة جارحة أو مهاجماً بشراسة لا تهادن، لم يكن يعرفه على حقيقته. بالاقتراب منه والجلوس إليه كان يتجلى ما وراء تلك الحماسة المفرطة والحدة البالغة من عاطفة إنسانية جمة وحب للناس، كل الناس، أنصاره وخصومه، وسمو عن الضغائن والصغائر لا مثيل له. لم ينس خليل أحداً من أصدقائه، ولا قضية من قضايا أهله النوبيين، ولا مطلباً من مطالب وطنه الأم، ولكنه في خضم مشاغله نسي نفسه التي بين جنبيه، صحته، واحتياجات حياته، وانشغل عن الارتباط بزوجة تعتني به وتنجب له ذرية تخلفه، وتغافل عن داء السكري الذي كان ينخر في نواحي جسده، حتى تمدّد الداء وأتلف أعضاءه عضوا عضوا، ويوم صاح القضاء أمسك الداء الخبيث بشرايين قلبه فأسلم قبل الأوان روحه لبارئه. كان يوم الخميس الماضي بمدينة الرياض مهرجاناً للتعريف بخليل، وساحة محكمة مفتوحة شهودها الجمهور العريض الذي هرع للإدلاء بالشهادة لصالحة، ومنبراً للاحتفاء بمنجزاته وتقديم الشهادات الموثقة بتميزه وتفرده. كان يكفي لمن لم يعرف خليل خلال حياته أن يقف على المشهد العظيم وينظر في وجوه الباكين عليه. لم يوفر أحد من الناس من ألوان الطيف يوم الخميس دمعاً لراحل بعد خليل. رحلت إذن يا فارس نوباتيا،،، يا لشماتة عساكر التتار الذين أجليتهم وراء الحدود. أفلت يا نجمة "بوهين" المتفردة،،، فأي نجوم المجرات تضيء بعدك سماء كوش! رأيت بعينيّ الحزن يمشي في بلداتنا من حد عنيبة وتوماس وأدندان إلى بدين ومشّو والغدّار. كيف لا تبكي النوبة سيدها وفارسها وحارس تاريخها وقيّم هيكلها! لكم أنت نبيل في موتك يا خليل ،،، كما كنت نبيلاً في محياك! قالوا أنك حين أتاك المنادي لم تبتئس كما الناس،،، ولم تشغل بقدرك أحداً من أهل بيتك،،، خرجت تستقبل الموت أمام الدار كما كنت تلتقي ضيوفك. واخترت- كما يفعل الفرسان المغاوير- ساعة حتفك و أرض منيتك. لم تحنث في يمينك،،، ولم تتخلّف عن موعدك،،، سبقتنا- كما نذرت- إلى دار البقاء نحن أبناء جيلك،،، كما كنت سابقنا دوماً في سوح المعالي في محياك. لا حول ولا قوة إلا بالله. رضينا بقضائك ربّنا،،، وعذنا بك في مصابنا،،، واستودعنا ملاذك الفائض بالرحمات شقيقنا خليل.