كثير من الناس والمسئولون بخاصة تخوفون –وقد يرفضون- النقد والمناصحة ،لأنّهما ليستا في أساس تربيتنا ، و موروثاتنا الثقافية ، و ممارساتنا الحضارية ، ظناً منهم أنّ ذلك يفتح ابوابا للفُرقة والتشويش ، والخلل والاضطراب ، وإذا وافقوا على ذلك -وعلى مضض-أرادوهما وفق شروطهم ،ورؤيتهم، فالأُمة التي يخشى حكامها ومسؤولوها وبعض أفرادها من نتائج الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمناصحة والنقد ؛ أُمة غير جديرة بأمانة المسؤولية ، وأعباء الرسالة الخاتمة ، وشرف الانتماء إليها . إنّ عمليات المراجعة وإعادة النظر في السياسات والرؤى ، والأهداف والوسائل ، وفق المستجدات ،ومعرفة الواقع هو الذي يُجنِّبنا الخطأ والتجمُّد على وسائل عتيقة ، ويفتح صدورنا وأبوابنا وعقولنا على عمليات المناصحة ، والنقد ، بل تربية أنفسنا لتلافي كثير من المشكلات ، وسد كثير من الثغرات ثم الاستفادة من طاقات الأمة كلها ، حتى يشعر كل فرد بأهميته ودوره ، ومسؤوليته في النصح والتوجيه ، والتخطيط والمشاركة مع الالتزام بضوابط الأمر بالمعروف والنهي عن المُنكر . إنّ الحرص على المحافظة على الصورة الشكلية للإمة هو الذي يُعمِّق هاجس الخوف من النقد والمناصحة ويدعو إلى مصادرة الرأي الآخر ، وقلب الوسائل إلى غايات ، وقد كان هذا التخوُّف في بعض المجتمعات الإسلامية هو السبب في ظهور صور التسلُّط الفردي نتيجة لغياب سُلَم الأولويات ، وتحجيم الكليات وتعظيم الجزئيات ، وهذا بدوره يؤدي إلى تمحور الفكر حول شخصيات لا تعالج قضايا الأمة إلا من خلال آرائهم وتصوراتهم ولا ينظر إلى الأمور إلا بمنظارهم ، وعندما تستفحل الأخطاء لغياب المناصحة والنقد والرأي المؤسسي تبرز المبررات ، وتُعلل الأخطاء ، وتُغيِّب آليات المحاسبة والمساءلة والنظر في أسباب الإخفاق والقصور ، كل ذلك لأنّ المشروعية مركّزة على الوسائل دون الغايات والرأي الواحد لا رأي الجماعة ، والأشخاص لا المؤسسات ...................... إنّنا في حاجة لقراءة جديدة متأنية لأهدافنا ،ومنهجنيتا ،وسلوكنا وقناعاتنا الآنية والمستقبلية بعيداً عن الإحساس الطاغي بالأنا والاستهانة بالآخر ،والنزعة الفرعونية. إنّ الإسلام هو الذي يحكم سلوك الناس ، وليس سلوك الناس وآراؤهم هو الإسلام والمنهج والمعيار الذي يطبَّق على الآخرين ، ومثلنا الأعلى الذي لا يؤخذ إلا منه ، ولا يُقتدى إلا به ، ولا يُهتدى إلا بقوله وسلوكه ؛ هو نبينامحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم- إمامنا وقدوتنا وقائدنا ودليلنا . الخوف من النقد والمناصحة والتصويب للأخطاء والتقويم للأعمال ، انعكاس لطبيعة تربيتنا التي تجعل ربّ الأسرة متفرِّداً بالرأي والكلمة الأخيرة ، وزعيم الحزب هوالمعصوم رأيه،الملهمة كلمته،النافذة بصيرته، والمجتمع يبارك حجب صوت النقد والتجريح ، وهذه العلّة أصابت مجتمعنا بكثير من الأمراض الاجتماعية مما أدى إلى غياب هذه القِيم؛قيم النقد والمناصحة،وقبول الآخر واحترام كلمته ، وشيوع كلمات المدح والإطراء والتقليل للأخطاء ، وتبرير الإخفاقات ، وعدم إصلاح الأخطاء على المستوى العام لأنّ المجتمع لم يُربَ على ممارسة الرقابة الشرعية المتمثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . إنّ الإغضاء عن الأخطاء وغياب فريضة الشورى والمناصحة وحجب الأمة عن معرفة الأسباب ، والجذور المرتبطة بالأخطاء ثم معالجتها أشبه بالألغام التي تفجِّر الأعمال الصحيحة وتزيد من تكرار الأخطاء وتفاقمها . مبدأالنقد والتقويم للأفراد-حكاما ومحكومين- كما نعلم جميعاً من المبادئ التي أصِّلت في تراثنا الإسلامي ومارسها بدقة وتجرُّد وموضوعية علماء الحديث الذين وضعوا أصول "علم الجرح والتعديل " ونقد الحديث من حيث المتن والسند ، وهي مبادئ أصَّلها الخلفاء الراشدون ومارسوها في اختيار عمالهم وولاتهم ، وما كان يُترك في السلطة عامل حامت حوله شُبهة فساد أوثراء ،أو والٍ اتهم بسوءسلوكه وعدم أمانته ، و خوفه من الله ، وعدم إيثاره جانب الحق مع مجاملته و محاباته و تمييزه بين الناس ، ولم يسلم كثير من رواة الحديث الذين عُرفوا بالإخلاص والتقوى وحُسن العبادة من رفض أحاديثهم لما عُرف عنهم مع صلاحهم من الغفلة والعجز عن الضبط الصحيح ، كما مارس المسلمون هذا المنهج والتزموا به في حياتهم بحيث لو ظل متوازناً ومتوارثاً في تربيتنا ومناهجنا وسلوكنا لابتعدنا عن كثير من المزالق والأخطاء وكان صوابنا غالباً ونهجنا سليماً . Dr Abbas Mahjoob [[email protected]]