الصحافة السودانية أكثر من مائة عام من الملاحقة الامنية من المستعمر إلي حكومات العسكر. بقلم: ابراهيم علي ابراهيم [email protected] تماثل الصحافة السودانية في دورات حياتها التي أمتدت لأكثر من قرن " زهرة الشمس " في إحتفاءها بالحياة , مع الفارق في أن الصحافة تتنفس وتحيا وتذدهر في ظل الديمقراطية وتخبو بغيابها . ومن المفارقات ان الصحافة السودانية نشأت في ظل وجود المستعمر الانكليزي في العام 1903م , وكان مطلوبا منها ممالئة حكومة ونظم المستعمر .. ورغم ذلك .. , وبعد أن أشتد عودها بدت مشاكسة , فأخذت حكومة الحاكم العام تضييق عليها الخناق وتتعسف في محاسبتها تارة بالإيقاف وأخري بمعاقبة محرريها بالسجن والطرد والملاحقة .. تماما كما يفعل النظام الحاكم اليوم . بدأت الصحافة العام 1903م بغازيتة السودان , ومن ثم حققت قفزة نوعية في الاحتراف علي أيدي مجموعة من السوريين : " فارس نمر ويعقوب صروف وشاهين مكاريوس " وهي ذات المجموعة التي اصدرت المقطم والمقتطف في القاهرة قبل ذلك ببضعة سنوات , واسموا صحيفتهم ( السودان ) وتواصل صدورها قرابة عشرين عاما , وتمكنت من أدا رسالتها علي الصعيد السياسي والاجتماعي والثقافي وخلقت مناخا من الحيوية في المجتمع .. , رغم ممالئتها – أحيانا – للمستعمر وسياساته , إلا أنها ظلت تدعو للنهوض الاجتماعي والعلم والمعرفة . ومن ثم حققت الصحافة قفزات سريعة علي أيدي الرعيل الاول من الوطنيين , فصدرت صحف : حضارة السودان , الرائد , أمدرمان , الاضواء والفجر وغيرها , وفي مراحل لاحقة ظهرت صحف أكثر تطورا في مجالات التخصص والتبويب والاخراج من بينها السودان الجديد والرأي العام والصحافة والايام . ويظل المدخل لإزدهار الصحافة علي الدوام الاستقرار السياسي وتوفر الحريات العامة وهذا ما لا يمكن تحقيقة إلا عبر الديمقراطية وتحقيق فصل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية , لتتبوأ الصحافة موقعها كسلطة رابعة , تراقب وتنتقد وتحلل و تعمل وتحاسب .. وتحاسب وفقا للدستور والقانون . لقد دأبت البيانات الاولي للإنقلابات العسكرية في بلادنا علي الاعلان عن إغلاق الصحف ومصادرتها بعد إغلاق دور الاحزاب ( بالشمع الاحمر ) مباشرة .. , وكأن الصحافة هي السبب في كل ما يكال من تهم للحكومات السابقة في البيانات العسكرية المعهودة والمكررة والتي سأمتها الاجيال .. وتعاقب الصحافة علي جرم – إن كان هناك جرم في في النظم الديمقراطية وتحقيق الحريات – لم ترتكبة .. ولذا يجب أن تغيب عن المشهد السياسي .. , ومن ثم تتم الاستعاضة عن الصحافة الحقيقية , بصحافة رخيصة .. تابعة للدكتاتوريات .. تسبح بحمدها ..وتتغاضي عن الجرائم التي ترتكب في حق الشعب .. , وتغض الطرف عن الفساد .. ولا تلتزم الحياد .. وهو جوهر الرسالة الصحفية . وهكذا تخسر الصحافة السودانية عشرات السنين كان يفترض فيها أن تحقق نقلات عديدة من التطور.. , يخسر ملاكها رؤوس أموالهم ويتشرد أبناها في المنافي – وللجيل الرابع .. الذي بدأ يتسرب الآن .. أو هو يبحث عن طريق للهرب من البلاد .. ولم تعد الصحافة مهنة جازبة في ظل هذه الظروف التي تفتقد فيها أجيال الصحفيين الحريات والمكانة اللائقة بهم وبأسرهم , أسوة برصفائهم في المهن الاخري , فضلا عن غياب التدريب عدم توفر الاجهزة المساعدة في ظل التطورات التكنلوجية والتقنية التي أدخلت علي الصحافة والتي تيسر لها أداء رسالتها المقدسة . والسودان كدولة قارة وبطبيعة تكوينه وتركيبته الاثنية والثقافية والدينية .. هو البلد الاستثناء .. فهذا التنوع لا غني له عن الديمقراطية والتعددية واحترام المجموعات السكانية بعضها البعض .. وإلا تمزق علي النحو الذي يحدث الآن .. هذا غض النظر عن الديمقراطية التي صارت اليوم بديلا للإيديولوجيات .. بعد حلت مكانها الديمقراطية وحقوق الانسان , وفي ظل التطور العلمي الهائل والذي جرف معه العلوم الانسانية .. والتي تحتاج – في العالم الاول – إلي مراجعات , ناهيك عن عالمنا الغارق في رحم التاريخ والخرافات والاساطير .. حديث الارقام : طالعت في أوراق الارشيف مؤشرات دالة علي الارتباط الوثيق بين الصحافة والديمقراطية فقد ذكر أحصاء أن حجم التوزيع تصاعد بعد سقوط الديكتاتورية الثانية (69 – 1985م) ليصل إلي (600) الف نسخة في اليوم عام 1985م , بينما كان قبل ذلك يوزع بضعة الالاف , حينما كانت مملوكة للدولة بكل أساطيلها وأمكاناتها المادية والبشرية .. , وكان يشرف عليها الاتحاد الاشتراكي السوداني ( المنحل ) .. , ومن ثم تراجع التوزيع بعد إنقلاب الجبهة الاسلامية في الثلاثين من يونيو عام 1989م ليصل إلي ( 160 ) الف نسخة وهو رقم آخذ في التراجع بعد الاحباط الذي أصاب الناس جرا ء إفشال إتفاقية السلام وفصل الجنوب .. والمخاطر التي تحيق بالبلاد .. , وأضيف عليها مؤخرا جملة من الممارسات التي تواجه الصحفيين من ملاحقة وتشريد وتعذيب وملاحقات كان آخرها ما لحق بالاستاذ فيصل محمد صالح .. والذي يواجه تهم غريبة مثل الخيانة العظمي .. لأنه أنتقد الخطاب العنصري لرأس الدولة عمر البشير الذي وجهه لأشقاءنا في الجنوب .. , وهي رسالة لكل الصحفيين ..وليست موجهه لشخص فيصل فقط . والاكثر طرافة أن تناولت صحف يوم ( 27 مايو 2012 ) نبأ احتجاب أربع صحف يومية عن الصدور لعدم توفر ورق الطباعة . فتأمل !! . * لقد دفعت أجيال متلاحقة من الصحفيين ضريبة وطنية عالية خلال الخمسة عقود الماضية بسبب تسلط الانظمة العسكرية .؟. ملاحقة وأعتقالات ومنافي ومنافي .. , ما أن تبث المارشات العسكرية عبر الاجهزة .. , حتي يحزم البعض حقائبة .. وتظل البقية ملاحقة بالتعسف والاضطهاد ومقص الرقيب والتجويع .. , ( وحتي في ظل النظام الديمقراطي الاخير عاني الصحفيون من أصحاب رؤوس الاموال من ملاك الصحف وأستبدادهم بالرأي ومحاولاتهم لإخضاع الصحفيين لتوجهاتهم الايديولوجية .. أو محاولة الاتجار بهم .. , بما يتعارض ورسالة الصحافة المقدسة .. , فكانت في نقابة الصحفيين في شارع المك نمر .. شجرة .. تسمي شجرة الحرية .. يجلس فيها كل بضعة أشهر رهط من الصحفيين - الشرفاء - يتناولون وجبة الفول المدعوم من ميزانية النقابة .. لتسد جوعتهم .. , وكان في اول الاجرءات التي قام بها أبناء الجبهة الاسلامية عقب أنقلابهم .. أن قطعت تلك الشجرة ( دون جريرة ترتكبها .. وتم تحويل مبني النقابة للدفاع الشعبي . فرص السودان الضائعة : في أعقاب سريان أتفاقية السلام بين النظام والحركة الشعبية في التاسع من يوليو عام 2005م تفاءل الناس خيرا , وأعلن جهاز الامن والمخابرات رفع الرقابة عن الصحف , بعد ستة عشر عاما من كبت الحريات ..وعودة الجهاز لدوره في جمع المعلومات وتحليلها والحفاظ علي أمن وسلامة الوطن .. لا النظام .. , ولكن هذا التفاؤل لم يدم طويلا .. وسرعان ماعاد الجهاز لممارسة عاداته المرزولة في بث عيونه ومراقبته ومصادرة الصحف .. حتي أن أحد رؤساء التحرير ذكر لنا أن رقيبا في رتبة ملازم وهو أصغر من أصغر بناته و أبناءه يقوم بانتزاع مقالاته ويرمي بها في سلة المهملات .. !! وعاد الجهاز يرسل موجهاته وتحذيراته .. أقرأ أحدي رسائله لرؤساء تحرير الصحف : نود أن نذكركم بالآتي : 1 - عدم تناول أي أخبار أو معلومات تتعلق بالأمن الوطني , أو الأجهزة الأمنية إلا بعد الرجوع مسبقا لهذا الطرف قبل وقت كاف 2 - عدم نشر أي أخبار أو تعليقات أو أعمدة أو كاريكاتيرات أو أي مواد في قالب آخر تتعلق بالأجهزة الامنية خصوصا : أ- الاعتقالات والاستدعاءات , إطلاق السراح .. الخ .. ب - أي حديث عن تاريخ الاجهزة وعملها , ومثال لذلك مقال ( البدرون ) وما يتعلق به . ج - التصريحات المنسوبة لمصادر مسئولة . 3 – كل ما سبق نذكركم به لأننا رصدنا جملة من ( التناولات ) .. !! الضارة بالأمن الوطني والمخالفة لروح ونص القانون . إن الاتصال والتنسيق المسبق يوضح الخط الفاصل بين ما هو مسموح وما هو ضار بأمننا الوطني والأجهزة التي تحرسه . ............... ............... هذا واحد من الخطابات التي ترسل ( سرا ) لرؤساء تحرير الصحف .. وهي تكبل عمل الصحافة وتجعلها تعيش في حقل ألغام , والاخطر من هذا تصبح في داخل كل صحيفة سلسلة من إجراءات بدءا من الرقابة الذاتية ( في القلم الصحفي) أو المحرر الذي يسعي للحفاظ علي وظيفته أو دوره ورسالته المهنية , ومرورا برقابة رؤساء الاقسام ومدراء ورؤساء التحرير .. إنتهاءا بمقص ( البصاص) و( الملازم ) الذي يلازم الصحيفة حتي المطبعة ويحق له أن يصدر- فرمانا - بإيقافها بعد أن تكون جاهزة للتوزيع .. ففي الوقت القليل الذي تمتعت فيه الصحافة بهامش الحريات .. بعد أتفاقية السلام عام 2005م , تمكنت الصحافة - علي سبيل المثال لا الحصر- من كشف بؤر الفساد في النظام .. , ودفعت النظام للأعتراف بالجرائم التي أرتكبت في حق عشرات الالاف من المفصولين تعسفيا الذين تشردوا وأسرهم .. فضلا عن المجازر والابادة التي لحقت بالمواطنين سوا في الجنوب أو دارفور .. وغيرها من قضايا .. كل هذا وغيره كان يفترض علي نظام يسعي لتحقيق وأستدامة السلام أن يمضي علي ذات النسق الذي مضت عليه حكومة جنوب أفريقيا بعد أنتها حكم الابارتيد .. , أن تمضي للأعتراف بما أرتكب وتعمل علي تعويض المواطنين معنويا وماديا .. من خلال الاعتذار وفتح أبواب التسامح والتصافي من أجل مستقبل الاجيال وبنا وطن معافي من القهر والتسط والتعذيب والقتل بسبب الاختلاف في الرأي .. , وحتي يصبح الحوار الديمقراطي هو البديل للأجيال الجديدة عن حمل السلاح والاحتراب بين أبنا الوطن الواحد . ولكن متي تخلي النظام عن ( شهواته ) في الاستفراد بالسلطة والثروة .. ومتي كان يحترم الرأي الآخر .. ومباديء الاسلام : ( وأمرهم شوري ) .. وليس ( بيوت الاشباح ) . !! مشاكل المهنة : تواجه الصحافة جملة من الصعوبات التقنية والفنية التي تحد من أنطلاقتها في مجال التحديث والتطور , فعلاوة علي أرتفاع التكاليف الجمركية في مدخلات الانتاج والتي تصل إلي نسبة 40 % , ( ويحضرني في أمر أرتفاع كلفة الجمارك أن أمرأة من الصين تعمل في مجال التجارة بين البلدين سألوها عن رأيها في السودان فقالت : " سودان كلو كويس .. لكن جمارك ما كويس ".. ) !! كذلك تفتقر الصحافة إلي القاعدة الأقتصادية القوية أسوة بصحافة دول الجوار التي تييسر لها الدولة سبل النجاح مثل خفض الضرائب والجمارك , وأصلا في الكثير من دول العالم وخاصة العالم الاول فإن الدولة لا تفرض ضرائب أو جمارك علي مدخلات الانتاج ( المعرفي والثقافي ) مثل المواد المكتبية والمطابع والورق والاحبار والاسبيرات وغيرها إلي جانب مواد النظافة . فالثقافة والمعرفة والنظافة حق لكل مواطن وتعود بالنفع علي الحكومات والنظم . كذلك تواجه الصحف مشاكل ضعف الكم الاعلاني وتحييز أجهزة الدولة لمنح الاعلانات لصحف بعينها في ظل النظم الشمولية كما هو حادث اليوم في بلادنا . بالأضافة لضعف التوزيع . فضلا عن الهجرة التي تأكل من الجسم الصحفي , وضعف التدريب , وعدم توفر الحياة الكريمة للصحفيين وأسرهم . وآخر ( الابداعات ) من أنتهاكات تمارس في حق الصحافة , فقد درجت العديد من الصحف الخاصة والممولة من النظام , علي عدجم منح الصحفيين رواتبهم وأستحقاقاتهم المادية , وحتي نيابة الصحافة ( القائمة مكاتبها في شارع السيد عبد الرحمن ) تتكدس لديها القضايا ولا تقتص حقا لصحفي .. , فهي في أمن وأمان مادام رئيس القضاء يت تعينه بواسطة الجنرال البشير .. !! كان المؤمل في أعقاب سريان أتفاقية السلام وبدأ الفترة الانتقالية , أن تحدث متغيرات تطال تنظيم المهنة عبر إتخاذ جملة من الإجراءات مثل إستعادة النقابة الشرعية وإجراء إنتخابات ( نظيفة ) وتكوين مجلس للصحافة والمطبوعات يتوافق مع التحول الديمقراطي .. علي أنقاض المجلس المسخ الذي يتم تعيينه بفرمان من السلطان .. وأعتماد ميثاق شرف صحفي .. والغاء قانون الصحافة .. وأن يتم إقرار مبدأ محاسبة الصحفيين مثلهم مثل أي مواطن .. وفقا للقانون الجنائي في حال أرتكابهم أخطاء أو جرائم . ولكن المؤسف ان أجراءات أكثر ( همجية وبربرية ) عاد النظام مؤخرا لإتخاذها في حق الصحفيين والمدونين في الانترنيت , والتي كان آخرها تلفيق إتهام التخابر مع دولة أجنبية في حق الزميل الكبير فيصل محمد صالح الذي عرف بنزاهته واستقامته وإمكاناته العلمية والثقافية والاخلاقية ... !! وكذلك في حق الاستاذه المناضلة نجلا سيد أحمد .. والتي ظلت تتعرض للأعتقال منذ بداية إنقلاب الجبهة .. ويعجب المرء لبسالتها حينما تحدثت عبر ( فيديو – سودانيز أونلاين 26 مايو 2012م ) فقالت إنها مستعدة حتي للتضحية بحياتها من أجل الوقوف مع المواطنين الذين يتعرضون للقصف والتشريد والسجون والتعذيب .. !! وفي ظل صمت الكثير من الصحفيين .. وممالئتهم للنظام الفاسد المستبد . ويبقي تطور الصحافة السودانية رهين بالمتغيرات السياسية , وتحقيق نظام ديمقراطي ( حقيقي ) ومستقر وأعمال مباديء فصل السلطات وتوفير الظروف الملائمة للعمل الصحفي بعيدا عن التشريد والملاحقة وسياسة التجويع والإذلال والطرد من البلاد , لأن هذه الممارسات جربت من قبل ودفعت أربعة أجيال من الصحفيين ثمنها غاليا . ( وأسألوا الاستاذ الكبير وأحد رواد الصحافة محمود بابكر أطال الله عمره ومتعه بالصحة والعافية .. ومكتبه قائم حتي اليوم في مبني صحيفة الخرطوم .. فهو من ألجيل الاول الذي واجه هذه الممارسات وعرف المنفي عند قدوم الدكتاتورية الاولي . له التحية والتقدير والتحية للشرفاء من الصحفيين .