بسم الله الرحمن الرحيم قبل نحو شهرين ودعت والدة زوجتي " نسيبتي" إلي مثواها الأخير ، وقد وجدت نفسي نازلا إلي القبر أتلقي الجثمان وأودعه اللحد ممسكا من جهة القدمين . وبطريقة ميكانيكية ، كان لابد أن أضع قدمي اليسرى العارية علي تربة اللحد الرطبة فانطبعت آثار قدمي حيث أقف. ولما أنهينا ترقيد المتوفاة هممت بالصعود من القبر لاستكمال الدفن ومواراتها الثري، رأيت آثار قدمي هناك فخطر لي خاطر سريع أن أمحو ذلك الأثر ، ربما رهبة أو خوف من الموت ولكني شعرت براحة عجيبة أن يظل هناك ، فالموت لاحقنا ، عاجلا أم آجلا أو كما يقال ، هم السابقون ونحن اللاحقون. الموت فعل قائم وأمر وجودي ، مستمر في كل لحظة لأي كائن حي وهو النهاية الحتمية لقصة الحياة بكل مباهجها ومآسيها ورغم العلم بكل هذا ، تري بعضنا ينفر لمجرد التفكير فيه ، بل ويفر منه بكل السبل حتى لمجرد أن يجول بخاطره . ليس هذا فحسب ، بل أن منا من يعتقد أنه لن يموت أبدا ، كما حدثني صديق وزميل اسأله عن أخبار صديق آخر لنا ، فقال أنه يزعم أنه لن يموت!!. إن صدق مقولة : تتعدد الأسباب والموت واحدا ترفع عنا حرج طرح أسئلة كثيرة عن الأسباب والمبررات التي تجعلنا نهاب الموت ، فالموت شي والقتل شي آخر ، مع أن كلاهما يفضي إلي نفس النتيجة التي هي الموت . فالقتل شهادة في سبيل الله وهو أفضل الموت والموت بالطاعون، أو بمرض البطن، أو غرقاً، أو في هدم، أو حرق، أو مرض ذات الجنب، أو السل أو موت المرأة في نفاسها يدخل صاحبه في زمرة الشهداء. شكل الموت قد يكون في بعض الأحيان مقيتا وبشعا ، بل أن للموت رائحة لا تطاق تصدر من الجثة المتحللة . ذكر لي صديق يداوم علي حضور الجنائز كسبا للأجر أنهم حضروا جنازة وبمجرد الانتهاء من مراسم الدفن واستعداد المشيعين للانصراف جيء بجنازتين أخريين ، قيل أنهما لتاجرين مواشي قتلا غدرا من قبل متمردين بأحراش جنوب النيل الأزرق. لم يستطع الحضور تحمل الرائحة في البداية فتشتتوا في أنحاء المقبرة، إلا أنهم أجبروا في النهاية علي مواصلة الصلاة علي الجنازتين وسارع أهلهما إلى دفنهما كما هما. عجبا لهذا الموت ، فأنت تشم منه رائحة " الحنوط " الطيبة من جهة ، ثم تشم رائحة " الجيف" الكريهة من جهة أخري مع أن الموت في الأصل واحدا!!. طوق النجاة الوحيد لما هو آت بعد الموت هو أن يكون آخر الكلام : لا إله إلا الله أو أن يموت علي عمل صالح أو شهيدا في سبيل الله أو شهيدا ضمن الشهداء الآخرين . وأتعس الموتي المشرك والمنتحر والساخط علي أمر الله واليائس من رحمته والغافل عن كل ذلك . قال تعالي " هو الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا" الملك/الآية. إذن ، نحن خلقنا في الحياة الدنيا كي نتنافس علي العمل الصالح وأول الأعمال الصالحة هو إخلاص العبودية لله تعالي والباقي هو أعمال دنيوية بحتة، محسوبة لنا أو علينا ، فالتاجر الحذق الذي يعلم معني الحساب يسعي جهادا كي يستخلص منه الربح ويحرص علي ألا تبور تجارته ، فما بالك بتاجر آخر يبحث عن حسنات من عمل صالح وكلمة طيبة ويتجنب سيئات مذمومة ، كلها من المهلكات ، كالغضب والحقد والحسد والبخل وحب المال والرياء والجاه والغرور وآفة اللسان فهذه كلها بضاعة بائرة ، إلا أنها رائجة ، نتداولها الآن بيننا ولا نفكر أبدا في تبعاتها وآثارها المدمرة علي الفرد وعلي المجتمع ، ذلك لأننا لا نحسن الحساب جيدا وغالبا ما نموت هكذا ... دون أن ندري أن أساس الموت والحياة قائم علي الحساب. إذا كانت الحياة الدنيا " لعب ولهو" فإن مشكلتنا هنا ، في السودان ، أننا لا نحسن قواعد اللعب ونصر دائما علي أن تكون كل القواعد " دافوري " فيلجأ بعضنا بالحسب والنسب كي يكسب بها " مزية " غير مشروعة أصلا ، يتسلط بها علي رقاب الآخرين . وواقع الحال يقول، ناهيك عن رأي الشرع والدين ، أنه لو كان في ذلك خيرا لما كنا وصلنا إلي ما وصلنا إليه الآن ، من ترد مريع في القيم والأخلاق ، نتج عنه تدمير جل الأدوات الرئيسة لقيادة الحياة بشكل صحيح علي هذه الأرض. وكما أن لكل داء دواء ، فإن دواء ذلك لا يتأتي إلا بالتخلي تماما عن سلوك أهل " الجاهلية " الأولي والانصياع التام لما أمر به الله عز وجل من إقامة للعدل وبسط للقانون وتطبيقه علي الجميع دون أي استثناء ورد الحريات المستلبة قسرا من الناس لأن ذلك يعيق الغاية التي خلقوا من أجلها أصلا . يظن الطغاة عادة أنهم يتحكمون في مصائر البشر، فيسيطرون علي أدوات القوة والبطش كي يرهبوا بها الناس ، تماما كما قال فرعون: أنا أحي وأميت أو كمثل صاحب الجنتين لما أعجبه ملكه ، فظن أنها لن تبيد أبدا وأنكر قيام الساعة ، ثم تمادي وتمني علي الله الأماني أن يجد خيرا مما يملك . أن تبسيط الحياة وتذليل الصعاب وحلحلة مشاكل الناس ورعاية مصالحهم وخدمتهم عي أكمل وجه هو من صميم عمل الحكومة ... أي حكومة . كما أن الشغل الشاغل لأي برلمان أو تجمع شعبي هو جلب حقوق الشعب وحماية مكتساباته وتقويم أداء السلطة التنفيذية ، والخروج عن هذا النهج لا يعني إلا الدخول إلي عالم التسلط والظلم والاستبداد وبالتالي تعقيد حياة الناس ومعايشهم وهذا لا يحتاج إلي براهن أو دليل ، فالشواهد تتحدث عن نفسها بينما يسجل التاريخ كل يوم صفحات مزرية من الفشل والاخفاق. حري بنا إذن أن نعش ونصطحب الموت معنا فهو الرادع الناجع لضبط الشهوات وهو الذي سيوصد مصراع الدنيا في وجوهنا ويتركنا في ظلمة ووحشة القبر، بغير أنيس ولا ونيس ، إلا من عمل صالح مرصود. الدمازين في :01/06/2012م. محمد عبد المجيد أمين(عمر براق )