المتابع لمواقع التواصل الاجتماعي يدرك حجم الانحطاط الذي يسم الخطاب السياسي الموجه ضد نظام الخرطوم ، الأمر الذي قد يعرقل مسيرة العمل السياسي المعارض. فبجانب السب والشتم الشخصي نجد البعض يهاجم "الحركة الإسلامية" ، و"الجبهة الإسلامية" و"الجلابة" وقبائل بعينها كالجعليين والشايقية والدناقلة. هذا ناهيك عن أن الهجوم كثيرا ما يوجه إلى الأشخاص أو المؤسسات أو القبائل عيناً وليس إلى السلوك الممقوت الصادر من ذلك الشخص أو تلك الجهة. سنتناول في هذا المقال أهمية الارتقاء بالخطاب السياسي ودوره في تسريع معدل نضج الثورة السودانية. فالخطاب الحماسي المتهور قد يخطئ الخصم غير المنضبط بأخلاقيات وقيم معينة، شأنه شأن السلاح المعبأ في يد شخص أهبل ، الذي ربما أباد به رفقاءه قبل أن يلقى عدوه. يطلق الخطاب أحياناً فيكون فيه بعض الصدق إلا أنه لا يكون دقيقا بما فيه الكفاية وبالتالي عدم الدقة هذا قد يرسل إشارات سالبة للصديق قبل العدو. فالقول مثلا بأن "الحركة الإسلامية" مجملا هي المسئولة عن كل ما يجري في السودان اليوم قد يكون صحيحا تعميما ولكنه غير دقيق، بل يعتبر حديثا متطرفاً أحياناً. ذلك لأن مبدأ الاستيلاء على السلطة بالقوة لم يكن مجمعا عليه حتى داخل تنظيم الجبهة الإسلامية نفسها ناهيك عن التنظيمات الإسلامية الأخرى التي اتخذت موقفا ضد الجبهة الإسلامية مبكرا مثل الشيخ الصدق عبد الله عبد الماجد والحبر يوسف وجعفر شيخ إدريس وغيرهما. وأما تنظيم الإخوان المسلمين الأم في مصر فلا تؤمن أصلا بالعنف وسيلة للاستيلاء على السلطة ، بل هو أكثر من عاني من عنف الدولة على مدى ثمانين عاما ، مما أدى لانشقاقات متتالية في صفوفه ولكن ظل الكيان متماسكا إلى أن وصلت إلى السلطة اليوم في انتخابات ديمقراطية حرة شهد على نزاهتها العالم كله. هذا بالإضافة إلى أن الدكتور الترابي نفسه الذي يشار إليه بأنه "عراب النظام" هو ومؤتمره الشعبي من دفع ثمن معارضته للنظام سجناً وتنكيلا وتشريداً لأفراد تنظيمه ، ويشكل اليوم عنصرا لا غنى عنه في نسيج المعارضة السودانية. ويمكن القول كذلك أن هناك مئات الآلاف من أعضاء الحركة الإسلامية في شتى أنحاء السودان الذين ربما أصابهم الاحباط لما جرى ويجري في ناظريهم ولكن أشواقهم إلى القيم والمبادئ التي آمنوا بها لا زالت متقدة. فهؤلاء جميعاً جزء لا يتجزأ من الشعب السوداني المسلم في غالبه والمعتدل في تدينه ، ولا يمكن تجاوزهم في أي معادلات مقبلة في الساحة السودانية. وعلى مستوى مفكري الحركة الإسلامية الذين صدحوا بآرائهم الناقدة لتجربة الإنقاذ منذ منتصف التسعينيات نجد عبد الوهاب الأفندي والتجاني عبد القادر ثم لاحقاً الطيب زين العابدين وأمثالهم كثر. ومن هنا فإن توجيه الهجوم إلى "الحركة الإسلامية" بهذا التعميم قد يطال هؤلاء ويرسل إشارات سالبة بأن القادم ضدهم وسيقصيهم بهذا المعنى. قد يقول قائل بأن المقصود في الهجوم هو الحكومة وليست الحركة الإسلامية ، ولكن كان من الأفضل توخي الدقة في الخطاب ، وتحديد المقصود وهي "الإنقاذ" أو "المؤتمر الوطني" باعتبارهما الممثلين الرسميين للنظام القائم. فكون الإنقاذ أساءت تطبيق المبادئ التي كانت تنادي بها الحركة الإسلامية لا يعني بالضرورة أن القواعد الشعبية التي كانت متحمسة للمشروع قد تخلت عنه! بل الدكتور الترابي نفسه تراجع عن مواقفه التي سبق أن اختلف معه حولها إخوانه من قبل ، والخاصة بالتعاون مع العسكر والاستيلاء على السلطة بالقوة. وهو اليوم من أشرس معارضي النظام. وبنفس القدر فكثير من الحركات المسلحة في حاجة لضبط خطابها السياسي والكف عن الهجوم على "الجعلية" و"الشايقية" و"الدناقلة" أو ما يسمى عموما ب"الجلابة" أو بصورة أعم "أهل البحر". فقد يكون صحيحا أن من يسيطرون على مقاليد الأمور في البلاد ينحدرون من القبائل المذكورة، ولكن ليس دقيقاً القول بأن هذه القبائل هي راضية ومستفيدة فعلا من النظام القائم. وقد يقول قائل بأن التوظيف أصبح على أساس قبلي وأن الصفقات الحكومية تمُنح على اساس قبلي وأن التنمية الاقتصادية موجهة إلى مناطق "مثلث حمدي". بل البعض يرى أن سياسة المؤتمر الوطني تجسيد ل"الكتاب الأسود" بطريقة غير مسبوقة. هذا كله قد يكون صحيحاً ولكن الدقة تقتضي القول بان أهل شمال السودان كغيرهم من مناطق الهامش السوداني تكالبت عليهم المصائب ، التهميش من جهة وقساوة الطبيعة من جهة أخرى، مما اضطرهم للهجرة إلى مختلف ولايات السودان وبالتالي انطبق عليهم ما انطبق على أغلب الشعب السوداني من ضنك وظلم. وأما الذين استفادوا من سياسة الاقصاء التي مارستها الحكومة فهم قلة لا يقاس عليها. فالحركات المسلحة في حاجة لطمأنة أهل الشمال أن القادم ليس ضدهم أو سيقصيهم. هذا الاحساس قد يكون حافزاً لأهل الشمال على التمسك بما هو قائم بالرغم من سوئه. أحسب أن التحدي الذي ينتظر النخب السودانية في الفترة القادمة أكبر من النظام القائم ، الذي هو آيل للسقوط لا محالة ، لأنه ببساطة لا يساوي من القوة والجبروت عُشر نظامي بن علي ومبارك. وبالرغم من أن النظام ضعيف إلا أن القدرة على إسقاطه رهين بالسلوك الحضاري للمعارضة وقدرتها على إقناع قطاعات عريضة من الشعب أنها لن تكون إقصائية ، بحيث لا تتشتت الجهود في الحرب الكلامية بما يرسل إشارات سالبة إلى هذه القطاعات بأن البديل المرتقب لا يرتقي لمستوى التحدي. التحدي الأكبر يكمن في إمكانية علاج الفتق الذ أحدثه النظام الحالي في نسيج المجتمع السوداني بكل خلفياته. ولئن إنحط النظام في خطابه السياسي واستخدم عبارات من قبيل "شذاذ الآفاق" أو "لحس الكوع" أو حتى "العبيد" بطريقة مبطنة فإن انحطاط المعارضة لهذا المستوى يرسل إشارات للمواطن السوداني مفادها أن لا فرق بين الفريقين. أحسب أن ضبط الخطاب السياسي أمر سهل إذا التفتنا إلى ما حولنا من بلدان الربيع العربي ، حيث نجد أن الشباب ومختلف القوى السياسية بكل تناقضاتها وخلفياتها ، بل وأخطائها ضد بعضها البعض ، قد تضافرت والتفت حول أهداف محددة. وقد أثبتت تجربة الثورة التونسية والمصرية واليمنية أن الصراع القديم والعقيم بين التيارات الإسلامية من جهة والتيارات الليبرالية والاشتراكية والقومية من جهة أخرى كان صراعا مفتعلاً ، كانت تزكيه دوائر رأسمالية إمبريالية جشعة تقتات من وراء هذه التناقضات. كان ذلك جليا وامتد على مدار الستينيات والسبعينيات وحتى ثمانيات القرن الماضي مع انهيار الاتحاد السوفيتي ، علماً بأن هذا الانهيار كان من أبرز أسبابه الجهاد الأفغاني المدعوم أمركيا ، ولم يتبين أصحاب الشأن إلا بعد انسحاب بن لادن من المعسكر الأمريكي وتكوين جبهته المناهضة للهيمنة الأمريكية على العالم الإسلامي. غير أن الربيع العربي أحدث تقارباً واضحا بين التيارات السياسية بكل خلفياتها ، عندما وجدت هذه التيارات نفسها في خندق واحد تقاتل من أجل نفس الأهداف ومتفقة حتى على الوسائل. فالدولة "المدنية" والعدالة الاجتماعية والمساواة وحكم القانون والتداول السلمي للسلطة كلها أصبحت من الأهداف المتفق عليها. يرى الإسلاميون أن تحقيق هذه الأهداف ممكن باتخاذ الإسلام مرجعاً ، فيما تتخذ التيارات اليسارية والليبرالية والقومية مرجعيات مختلفة. إذن مساحة الخلاف ضاقت أكثر مما كان متوقعاً. ولم يكن هذا التقارب ممكنا لولا الإخفاقات والتجاوزات التي ارتكبتها الأطراف ضد بعضها البعض ، فجاء الربيع العربي وكان مداً شعبيا جارفا متجاوزا الانتماءات الحزبية والدينية مما أجبر التنظيمات السياسية على تناسي خلافاتها والالتفاف حول الأهداف الجامعة. لذلك لم يكن مستغرباً التفاف حركة النهضة الإسلامية في تونس حول المنصف المرزوقي المعروف بيساريته وتتويجه رئيساً للجمهورية ، والتفاف التيارات اليسارية والقومية والليبرالية حول محمد مرسي مرشح الإخوان المسلمين وتتويجه رئيساً لمصر. انضباط الخطاب السياسي يشمل أيضا خفض أصوات الأحزاب السياسية المعروفة بما في ذلك المؤتمر الشعبي ، لاسيما في هذا الوقت بالذات ، ويقتضي خفض صوت السلاح من الحركات المسلحة. ذلك لأن ارتفاع صوت الأحزاب يعيد إلى الذاكرة الجماعية أحداث التجربة الحزبية الأخيرة وهي تجربة غير جاذبة على الأقل. كما أن تسخين ساحة الحرب من قبل الحركات المسلحة يطيل من عمر النظام نظراً لقدرة الأخيرة على استغلال مثل هذه الأحداث في التعبئة الشعبية كما حدث مؤخرا في أحداث الهجليج. إنه من الحكمة البالغة ترك الشارع يفجر طاقاته ويعيد توحيد صفوفه على أسس جامعة مما سيمكنه من فرض إرادته على الأحزاب السياسية كما هو الحال في بلدان الربيع العربي ، مما سيسهم في إنضاج التجربة الديمقراطية القادمة والتي ستؤسس لتجربة ديمقراطية فريدة. مسالة ضبط الخطاب السياسي للتيارات السياسية والحركات المسلحة إذن ضرورة قصوى ليس من اجل توحيد الجهود لإزالة النظام القائم فحسب ، بل من ضرورات مرحلة ما بعد حكومة المؤتمر الوطني ، وهي المرحلة التي تتطلب اصطفافا وطنيا غير مسبوق من أجل تجاوز أخطاء الفترات الحزبية السابقة أولا ، وبلورة الرؤى حول السودان "الجديد" الذي يشعر فيه المواطن بالعدل والمساواة وحكم القانون ثانيا ، المرحلة التي سيكون فيها السودان جزءً أصيلا من مجتمعه الإقليمي والدولي ، المرحلة التي يكون فيها السودان مؤثراً على جواره الإقليمي لا بشعارات الوعيد والتهديد ، بل بعطائه وخيره.