قرأت حوارا مثيرا، نشرته صحيفة (الرأي العام)، مع الأستاذ عبد الرحيم حمدي، وزير المالية السابق، والذي طبق في عهده سياسات إقتصادية غيرت مجرى الواقع السوداني سياسيا، وإقتصاديا، وإجتماعيا، وتجاريا، إلخ. إذا توافرنا على دراسات أكاديمية عن تأثير هذه السياسات على المشاكل الناجمة الآن في المركز والهامش فلا محالة أننا سنحصل عبرها على خلاصة أن وزير الخرانة السابق يتحمل، ضمن حمولات الآخرين، بعضا من هذه المآسي التي واجهت غالبية الأسر السودانية من تمزق، وموت، ومرض، وهجرات. فالصورة الماثلة في مرافق الحياة السودانية توطنت منذ تلك الوصفات والتطبيقات الإقتصادية على فقدان الدعم الحكومي في الصحة والتعليم والأمن. فالمستشفيات لم تكن لتقوى، في ظل تقليص الدعم، على الحفاظ على واجبها في تقديم العلاج والشفاء للمواطنين، والمدارس الحكومية، ونسبة لإهمال أولويتها في بنود الميزانية العامة، أصبحت لا تقوى على الإستمرار بوضعها الذي وجدته الانقاذ حتى، أما الأمن فلا يقوى على إنجازه من إبتلع الإيجار والسوق مرتبه، وبالتالي ظل يطفق في البحث عن مصادر عمل أخرى تقارب التحولات التي أحدثتها سياسية تحرير الإقتصاد. في ذلك الحوار جابه الاستاذ كمال حسن بخيت، رئيس تحرير الصحيفة، الاستاذ حمدي بالسؤال "سيمضي الجنوب لوحده أم معه جبال النوبة؟" فرد الوزير السابق بقوله: "لا أعلم، حسب الخيارات، ودارفور لست متفائلاً بأنها ستستمر." أجاب الاستاذ حمدي على ذلك السؤال، ولكنه لم يسع لربط إجابته بالأسباب المنطقية التي جعلته لا يعلم نتيجة الحرث السياسي الذي شارك فيه هو ورصفاء من تنظيمه الذي وجد السودان موحدا، ولكن بعد عقدين مرين من الزمان خرج علينا، وهو أحد النافذين في محاولات ذلك التجريب الإسلاموي، بحقيقة تعطيله حاسة التوقع عن المصير الذي سيؤول إليه الوضع المؤلم! ومع ذلك، يحمد للاستاذ حمدي أولا صراحته هذه، مهما كانت إصابتها للمقربين منه، والمعارضين له بالضجر والتشاؤم والتعجب. والمدعاة لهذا الحمد والثناء هو أن (المحرر الإقتصادي) ليس من أولئك النفر الذين أخفوا حقيقة أنهم دبروا أمر مستقبل أبناءهم بمشاريع زراعية تبلغ آلاف الفدادين، أو عززوه بشركات عابرة للقارات، والجارات والثأرات الآيدلوجية، إذ حسب هذه الشركات أن تستثمر في بلاد يموت من بردها الحيتان، أو في بلاد صار فيها الحيوان إلها مقدسا. ويحمد له ثانيا أنه أقر على أنه لا يعاني أو يشكوا من شظف العيش مثل مجايليه، وإنما همه السعى لتأمين ليس قوت أبناءه فقط وإنما أحفاده أيضا. يسعى أمير بيت المال السابق لهذه الأماني الرحبة بتوقعات أن ذلك البنك المفترض سوف يقيل عثرات فلذات الكبد وفلذات فلذات الكبد حين يواجهون من بعد غيابه عن (الدنيا أم قدود) وعثاء التقلبات السودانية التي حطت بوضعية ما يسمى ب(الرأسمالية الوطنية) وعلت من شأن الرأسمالية الجديدة التي يقف على قمتها جوكية جدد يستثمرون في البصل والمريخ وسن الفيل. ويحمد له ثالثا أنه أعطى آباء السودان نموذجا في كيفية تحقيق الوفاء والعرفان للأبناء والأحفاد معا بالشكل الذي تتمناه كل أم. ورابعا يحمد لأبن الحركة الإسلامية البار الذي سعى للمساهمة في تحريره من ربقة (الإنفاق الحكومي) أنه أعلمنا أن مديري البنك المركزي كانوا عادلين حيال مواطنهم، ما يدعونا هذا المثال الإسلامي لتمديد فرص وحقوق المواطنة لكل فرد مسلم يهم، بغير كفر، على رزق أبناء وأحفاد له للدرجة التي يؤمن لهم مسارهم الحياتي ببنك، وليس بكنتين في طرف الحلة. ويحمد لرئيس تحرير صحيفة الميثاق السابق خامسا أنه كان كريما في تمليك المعلومة لزملاء له هجر صالات إسداء التعليمات الصحفية لهم، وهو الذي طلق مهنة الصحافة لكون أن سوق الأوراق المالية أنجع في المجاهدة، بل ربما ظن آن (خلو رجله) من مكاتب مهنتنا التي تصيب بالفقر أن سوق (أوراق المال) أصدق أنباء من سوق (أوراق الصحف)، أو أن أعظم رفقة في الزمان إنما هي في خزانة الدولار وليس خزانة المقالات، التي كان يراكمها منافحا بها أيام صحوة الحلم الإسلامي في شبابه. وبعد الحمد لله الذي جعل في أمة السودان من ينبههم إلى أن تجربة الإقتصاد الإسلامي التي طبقت لم تثن وزيرا سابقا وخبيرا إقتصاديا، تستضيفه إجهزة الإعلام بمختلف رسالاتها، من الإعتراف على رؤوس الأشهاد أن "الشمال سينتهي إلى أنه يدير بيروقراطية عسكرية ومدنية هائلة جداً بلا موارد، والميزانية ستكون كارثة، والدراسات أجريناها قبل الأزمة الاقتصادية العالمية وقدمنا نتائجها للحكومة، البترول معظمه سيمضي على الجنوب إذا وقع إنفصال..." لقد جاء الوزير بفكرة محوره السياسي/الإستراتيجي ليدق آخر مسمار في نعش صدقية الحركة الإسلامية. أما الآن فإن أحلامه تنحسر في محور أسرته، وما أعظمها من خيبة أمل تند من بين سطور حوار الرأي العام معه. قال الاستاذ حمدي في ورقته تلك "إن الجسم الجيو سياسي في المنطقة الشمالية محور دنقلا سنار كردفان اكثر تجانسا، وهو يحمل فكرة السودان العربي الاسلامي بصورة عملية من الممالك الاسلامية قبل مئات السنين ولهذا يسهل تشكيل تحالف سياسي عربي اسلامي يستوعبه، وهو ايضا الحزء الذي حمل السودان منذ العهد التركي الاستعماري الاستقلال .. وظل يصرف عليه حتي في غير وجود البترول، ولهذا فإنه حتي اذا انفصل عنه الاخرون) ان لم يكن سياسيا، فاقتصاديا عن طريق سحب موارد كبيرة تكون لديه إمكانية الاستمرار كدولة فاعلة" من الناحية التاريخية فإن الورقة التي قدمها حمدي لم تكن أمينة أكاديميا فالجسم الجيو سياسي الذي قصده تجاوز دارفور لدواع يعرفها هو، وإذا كان فكر قليلا لوجد أن الثورة المهدية التي شكلت أول تجانس للبقاع الجغرافية ومهدت لبذر (السودان العريض) قامت على نضالات الدارفوريين في تعاونهم مع المكون الديني في الوسط، ولعل ذلك التجانس في أهداف الثورة هو (الوحيد) الذي مهد بالأصولية لتقوية "عزة السودانيين ونصرة أنفسهم ومواجهة العهد التركي الإستعماري"، فضلا عن ذلك فإن الممالك الإسلامية التي قامت في دارفور كانت سابقة للسلطنة الزرقاء! فكيف إذن تقوم قائمة للمحور الحمدوي ومرجعيته التاريخانية التي قال إنها (حملت السودان منذ العهد التركي الاستعماري) تنبني على عدم معرفة، أو ما مايسمى بالغش الثقافي؟! من الناحية الإستراتيجية فإنك واجد في ما قاله الوزير السابق في المقتبس عاليه ينقض جوهر الفكرة الاستراتيجية الإسلاموية في أصلها، بل ويفرغ مضامين الإسلام، ويحسرها في النطاق السياسي البراغماتي. إذ كلنا يعلم أن أدبيات الحركة الإسلامية ظلت تؤكد على الدوام أنها خارجة عن الضيق الأقليمي على إعتبار أنها حركة تنحو للعالمية ل"تبلغ مقاصد الشرع" وهذا هو ما ظل الإسلاميون ينادون به حتى آهر يوم من ما سميت بالمفاصلة. إنهم من خلال ذلك النداء ربحوا بإستقطاب بعض أبناء السودان عبر وعاء سياسي ديناميكي قصدوا به نشر وتجديد رسالة الإسلام في السودان، كما عبروا في صحفهم وكتبهم، وأنهم عبر هذه الحركية السياسية قالوا لنا ولعضويتهم إن جهادهم يتجاوز العصبية والطائفية التي تحشر المؤمنين في النطاق العشائري أو الجغرافي. وإذا قاربنا دور الحركات الإسلاموية في المنطقة لوجدنا أنها تسعى أيضا لتجاوز الإنحسار المناطقي والقبائلي، بل وأنها تنحو للتوحد مع الحركات المماثلة في مناطق من العالم لتأكيد ما تسميه بإشاعة المفاهيم الإسلامية عالميا. إذاً كيف جاز للاستاذ حمدي أن يتخلى عن هذه الأحلام التوسعية الإسلاموية، ويتقلص بأحلامه عند تخوم أسرته، وليس تخوم إسلاميي السودان بعد هذا التجريب الصعب في عموم وخصوص المجتمع السوداني المتضام جغرافيا، والمتجاوز نسبيا للعشائرية والقبلية قبل مثول الإنقاذ؟ يقول الاستاذ حمدي مدافعا عن فكرة محوره"تلك استراتيجية انتخابية إذ طلب مني المؤتمر الوطني أن أضع استراتيجية انتخابية مبنية على الاستثمار الخارجي، كيف نستغل الاستثمار الخارجي لكسب الانتخابات". إن الفصل التكتيكي الذي يمارسه الاستاذ حمدي هنا بين الآني والإستراتيجي لقيادة الجماعة الإسلاموية لشاطئ أمان ينم عن فشل حقيقي لسلطة الإسلاميين في الإستثمار في الهوامش التي يسأل الله عنها السلطان لا بد، مهما كان ما في هذه الهوامش ما يؤكد على أنها غير مخولة (تاريخيا وعربيا وإسلاميا) لإعتبار التضمن الإسلامي في المحور التنموي المذكور. وإذا كانت إسترتيجية حمدي تستبطن أمرا براغماتيا/ناسوتيا أكثر من كونه أخلاقيا/لاهوتيا في الدعوة للتركيز على هذا المحور خلافا لما هو مفترض من محاور أخرى، فإن السؤال الاساسي هو ما هي (حدود إنجاز عدل الشرع، أو إبراء ذمة الموظف حكوميا لوضع الاستراتيجيا الخدمية) في التفريق بين تنمويات تبذل لمسلمين في قطر واحد دون آخرين بدافع حصد أصواتهم بعض (مصالح) ناسوتية مفروغة من مضامين لاهوتية؟. في جانب من الحوار سأل المحرر حمدي عن ماهية الحل؟ فتراه يرد بقوله: "لا اعرف، لو كنت أعرف لقلت لك، الحل أن يطرح الناس أفكارهم، ويحاول الناس أن يتفقوا عليها، انا أعتقد أن السودان يمكن أن يستمر كاتحاد اقتصادي، وتحدثنا عن اللامركزية، لكننا مضينا نحو مركزية اكبر بسبب أن الموارد مركزة هنا، طيب انت تريد أن تمنح الناس كل حقوقهم السياسية، لابد أن تمنحهم كل حقوقهم الاقتصادية، والفكرة التي يمكن ان يجتمع عليها الناس هي وجود مصلحة اقتصادية وحدة، كاتحاد جمركي، وجنسية واحدة، وإذا انفصل الجنوب يمكن أن نوقع اتفاقية للحريات الأربع وحرية العمل، وللجميع مصلحة في أن يستمر إطار اقتصادي اسمه السودان، أن نتجر مع بعضنا وأن يحدث تمازج، وحدث ذلك في الاتحاد السوفيتي فصلوه بهدوء ثم عادوا وتكتلوا اقتصادياً لأن في ذلك مصلحتهم.." إذا تجاوزنا هذا الإضطراب في الرؤى الإقتصادية لمن يصفه رئيس تحرير الصحيفة المستضيفة للحوار ب"الإقتصادي العالمي"، وإذا تجاوزنا كذلك التناقض البائن بين تعبير (لا أعرف، لو كنت أعرف لقلت لك) وإستطراد فيه ب(انا أعتقد أن السودان يمكن أن يستمر كاتحاد اقتصادي)، فإننا لا يمكن أن نتجاوز الكيفية التي خولت لهذا (الإقتصادي الموصوف بالمرموق أحيانا) التنبؤ بكل هذه الروشتات الإقتصادية غير المتضمنة لأية أسس تجمعها مع حقيقة أن (الإسلام هو الحل) لعبارة "لا أعرف" التي إفتتح بها الوزير السابق الإجابة على السؤال. فالسيد الوزير السابق وفي معرض توهانه في مثل هذه (الهلاميات) التي أورثت بلادنا هذا الدمار ووضعت ناسجيها، في سودان اليوم، كخبراء، ومفكرين، وإستراتيجيين، ينسى في بدء إجابته الإستعانة ب(دستورنا القرآن الكريم) والذي يلجأ إليه (أخوانه) من القادة ويقولون بشموله حلول لكل مصاعب البسيطة. ألم يكن أمام العارف بالله، وهو المستنير المسؤول سابقا عن الصحيفة الرسمية للحركة الإسلامية، أن يستدعي أدبيات حزبه التي تتهوم بعبارات إنشائية لا تغني ولا تسمن من جوع، ولكنها خادمة مطيعة لإستراتيجية إسلاموية حركية مثل عبارة الحاكمية لله، ونعم الذي هو المستعان في فك ضوائق تنظيم الحركة الاسلامية أثناء فترات الإنتخابات، أو أثناء عدم العلم بالحلول الإقتصادية حينما يسأل السائل الحادب عن طريق ينير القراء العباد بما سيكون عليه وضعهم الإقتصادي؟ والحمد لله، كذلك، الذي جعل الاستاذ حمدي يعلمنا أن اللامركزية لم تزل تكشر عن أنيابها، إذ تراه يقول "مضينا نحو مركزية اكبر بسبب أن الموارد مركزة هنا"!. والسؤال هو: إلى أين قادنا مفهوم (تقليل الظل الإداري) وبسط الحقوق لأهلها، ثم ما هي قيمة زيادة الولايات لترضي العشائر والقبليات ما دام أن (سلطنات وسلطات) المركزية، كما يؤكد الاقتصادي النافذ، من الواقفات بالمرصاد لكل أبناء الولايات السودانية في إستغلال مواردهم، وحكم أنفسهم سياسيا وإقتصاديا؟ إن الحل الذي إستعصى على "الإقتصادي العالمي" واضح ولا يحتاج إلى خبير إقتصادي. وإذا أردنا أن نتفكر حوله لوجدنا أن طبيعة السياسة الهوجاء والمفتقرة للخبرة هي التي قادت البلد ومنظري الإسلام السياسي إلى هذا البوار في التفكير الماضوي، والآني، والاستراتيجي. فالاستاذ حمدي ربما يعرف سبب (البلاء والإبتلاء والإبتلاع) ولكنه يتظاهر أمامنا بأنه لا يدري أن منهج السياسة الذي يمارس في وطنه وسبب له الخوف على مصائر أبنائه وأحفاده هو أس كل هذا (البواء بالخسران). أوليس من الممكن البحث عن حلول داخل هذا الفشل السياسي بدلا عن طرح أفكار سوقية لجلب إستثمارات آسيا الملحدة والموحدة؟!. لعل السيد الوزير السابق يدري أن أولى شروط المستقبل الوريف والذي قد ينعم فيه فلذات كبده بالوضع الإقتصادي الذي قد يصل إلى درجة الرفاه أن يسبق الخبراء الاقتصاديين بالدعوة إلى ضرورة وجود نظام ديمقراطي لا يفرغ الخدمة المدنية من الكفاءات الإدارية التي تدير الشأن الإقتصادي على قدم المساواة في إدارتها لشؤون العمل والإنتاج. هو النظام الذي يأتي بالكفاءات السياسية التي تتيح للإقتصاديين التفكير الحر حول المدارس الاقتصادية التي تحدد حول ما إذا كانت الخصخصة لمرفق ما واجبة أم لا. هو النظام الذي يقوم على قاعدة تحقيق المواطنة الحقة ويقوم أيضا على ركائز المحاسبة ومحاربة جيوب الفساد المستشرية داخل الجسم الحكومي وخارجه. هو النظام الذي يحقن الدماء السودانية المهدرة ويحقق التنمية المتوازنة المجلبة للاستقرار في الريف والمدن والمحافظة على الكفاءات دون هجرتها. أوليس هو النظام الديمقراطي الذي ينبني على سياسات إقتصادية مدروسة لتشجيع المنتجين الصناعيين، والزراعيين، ويقيم المعاملات التجارية للدولة، وللقطاع الخاص على هدى من شفافية وإخلاص وتجرد، إلخ. هل كان شاقا على (الإقتصادي العالمي) أن يصدع ببعض هذه الحقائق ويضيف إليها بخبرته الاقتصادية والسياسية المدعاة. طوبى للفقراء المسلمين، والمسيحيين، وأبناء السبيل، وبعض الغارمين عليها، والذين لا يساويهم بنك السودان في حقوق المواطنة، ويمنحهم ترخيصا لتأمين مثلث أوضاع أبنائهم وأحفادهم!