جاء في الأثر أن الرسول الله صلى الله عليه وسلم بينما كان يتوضأ للصلاة رأى ثوراً هائج خرج من جحر صغير وحاول مراراً العودة من حيث خرج فلم يستطع ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا جبريل عليه السلام ، ما هذا يا جبريل ؟ فقال إنما هي الكلمة ينطق بها الرجل ويحاول من بعد أن يسترجعها فلا يقدر . الحكمة المستقاة هنا هي أن الكلمة مسئولية وأن الإنسان يجب أن يوزن حديثه بالفسطاط قبل أن يلق بالكلام على عواهنه ، فكلمة واحدة يمكن أن تشعل حرباً أو تستدرج احتجاجاً عنيفاً أو تفرق بين المرء وزوجه أو تخرج الإنسان من خانة الإيمان إلى مزالق الكفر والعياذ بالله . إن الذين يلجئون إلى التعبير عن آرائهم بالاتكاء على أسلوب التجريح والعنف اللفظي أو الجنوح إلى الإساءات الشخصية ... الخ ، هؤلاء فضلاً عن أنهم لا يقدمون بذلك مادة ذات قيمة أضافية يمكن أن تفيد المتلقي ، أيضاً يعبرون في نفس الوقت عن حالة ضمور فكري وحساسية ثقافية لا تؤهلهم لتناول قضايا عامة تحتاج إلى زاد معرفي وحجية تترفع عن الانزلاق غير الموضوعي . لا غرو في أن السياسة وكذا الاقتصاد هما من المسائل التي تخضع لاجتهاد البشر والإسلام نفسه يقول بذلك وإن كانت تعاليمه تلزم البشر أن يستصحبوا في اجتهادهم فرائض سياسية واقتصادية تأتي على رأسها الحرية والشورى والعدالة والمساواة على مستوى الحكم والزكاة والتكافل ونبذ الربا على المستوى الاقتصادي . ومن هنا يصبح المدخل لتناول كل هذه القضايا في إطار تقبل الرأي والرأي الآخر والسماح بهامش الاختلاف أمراً لا مجال البتة لإنكاره أو الالتفاف عليه ، بل يجب تأييده والتعامل معه بالإيجاب لا بالسباب . وأي جنوح لترك الأخذ بالأسباب والتنقيب فيها بالتشبث بالسماء هو هروب من الواقع وتنصل عن تحمل مسئولية الفشل في إدارته على النحو المطلوب . أما أن يمضي هذا المسلك إلى أبعد من ذلك فيضيف إلى التمنع والترفع عن نقد الذات حجراً على حرية الآخرين في أن يروا غير ما يري فهذا لعمري هو الأغرب والأكثر إدهاشا ووجه الغرابة أن أصحاب هذا المسلك يعبرون عن فوقية استعلائية لا تتناسب مع مفهوم الشراك الوطنية التي يدعونها ناهيك عن التمسح بالسماء وكأن السماء عندما تمطر ببركاتها لا تمطر إلا فوق رؤوسهم . هؤلاء يريدون تسويق ( بضاعتهم ) وحسب، وعلى الآخر أن يشتري والسلام دون أن يجرؤ على التساؤل عن جودة تلك ( البضاعة ) أو صلاحيتها أو ثمنها. فالمنطق هنا احتكاري بحت أشبه بالسوق الاحتكاري الذي يقوم على منتج (بكسر التاء ) واحد لسلعة محددة وطلب كثيف مرتجي . وفي حالة هؤلاء فإن ( الحقيقة المزعومة ) تصبح هي ( السلعة المحتكرة ) التي يراد تسويقها دون أن تخضع لمعايير تنافسية أو تفضيلية أو نقدية ( بل تلبس لباس القدسية الذي يوفر لأصحابها من المسوغات الدينية اللازمة لزجر ودحر كل من تسول له نفسه الاعتراض حتى وإن لم يشب هذا الاعتراض أي شائبة انحراف نحو إعمال أسلحة ضرار أو إضرار ومكتفياً فقط بالوسائل السلمية المعروفة .