بسم الله الرحمن الرحيم كلِمةُ السّفير جمَال مُحمَّد إبراهيم، في تأبين الحردلو في رحيل السمح والزين. . أبو جلابية وتوب الحُضور البَهيّ في هذا المساءِ الحزيْن، السلامُ عليكم ورحمة الله، أجل، هذهِ أمسيةٌ مُجللة بالحزنِ، ولكن مَنْ رحلَ وقد تداعينا لتأبينه الليلة ، حاضرٌ بيننا بروحهِ المُبدعةِ، وبسخاءِ قصائده التي سكنتْ وستسكن وجدانَ أبناءِ السُّودان، ما بقيَ هذا الوطن فينا وإنْ تداعتْ بعضُ أطرافهِ، شامخاً وإن أضعفتْ النزاعات تماسكه واتحاده. هذهِ أمسيةُ الرّاحلِ الشّاعرِ السّفير سيدأحمد الحردلو شامي. . كيفَ نَحكي عن الرَّاحل وسيرتُهُ الإبداعية ماثلةٌ في قصائدِهِ، وسيرتُهُ الدبلوماسيّةُ يعرفها الناسُ خارجَ السُّودان وداخله، ثمَّ لا نحكي عَن مُعاناتهِ، أوْ لا نلتفتُ إلى مَظلوميته ؟ نَعرفُ جميعُنا أنّهُ رَحلَ مُرهقاً بعذاباتِ البدَنِ وبجراحاتِ النّفسِ، وجراحاتُ النفسِ أفدحُ أثرا. أسألكُم أيّها الحُضور الكريم : كيفَ - وقد رحلَ إلى رِحابِ الله - نتجاوزُ عَن ذكرِ مراراته وجلّها بفعلِ فاعلٍ، فلا نقفُ وقفةَ مُتعاطفٍ يَستخلص مِنها العبَرَ والدّروس، وَنمضي عَجلين، نستذكر أفضالهُ ومكرماتهِ وحُسنَ سَجاياهُ، وجميلَ سيرتِهِ في الدبلوماسيّة وإبداعاتهِ في ساحةِ الشِّعرِ العربيّ، الفصيح منهُ والعامّي الشعبي. .؟ لا تَعجِمَ الدبلوماسيّ إلا الشدائد ، ولا تُصقِلَ قُدراتِ الإبداعِ عنده إلا المُعاناة. أنظر كيفَ واجَهَ الرّاحلُ وهوَ في أوَّل سنواته في الدبلوماسية يُدير الإعلامَ في سفارتِنا في لندن، بعضَ مِحنِ السياسة، إذْ بعدَ إنقلابِ عام 1971، جيء بالرّاحلِ مِن لندن إلى الخرطوم، على وجهِ السّرعةِ للتحقيق معه، ثمّ زجّ به فورَ وصولهِ في الحراساتِ بحجّةِ أنّهُ ساعدَ في الإعلامِ عن قيادةِ الإنقلابيين وقد كانوا في لندن، وفشلَ الإنقلابُ قبلَ وصولهم إلى الخرطوم . لمْ ترَ وزارتُهُ وقتذاك، ما حققَ الرّاحلُ مِن اختراقاتٍ في السّاحةِ الإعلاميةِ العصيّةِ في لندن، ولا سمعوا بإبداعهِ يفتحَ آفاقاً للأدبِ السوداني وللشِّعر السّوداني في زمانٍ لا يرى فيهِ كثيرون مِن حولنا في العالمِ العربي، أنّ في السودان شعراً عربياً، وقبلَ ذلك لساناً عربياً يمكن أن يكونَ مُبينا. أيُّها الحُضور الكريم ، دعوني أمرّ سريْعاً على هذهِ المُنغصاتِ التي واجهها الرَّاحلُ الحردلو في مسيرهِ الدبلوماسيّ، ولكن لا يفوتني أن أحكي كيفَ - وهو السفيرُ الناجحُ في اليمن- لم يفلتَ مِن أسيافِ الإحالةِ للصالحِ العام قبلَ انقضاءِ عام 1989. كانَ يعُدّ العدّة ويرتّب للقدوم إلى الخرطوم ليتسلّم أوراقَ إعتمادهِ سفيراً للسُّودان مُرشّحاً لجمهورية رومانيا، وذلكَ قبلَ أنْ تتحلّل وتتفتت بلدان أوروبا الشرقية، وقد صار حالها مثلَ حالنا الآن، نكظم أسىً على انفصالٍ صاغتهُ أيدينا. قالَ الرَّاحل الحردلو يودّع صنعاء بعد أنْ قضى أعواماً فيها: "أنتم الناس أيها اليمانون"، ولمّا عرفوا أنهُ لم يعُد سفيراً، وأنهُ أحيلَ للصالحِ العام بلا أدنى مبرراتٍ أو محاسبةٍ أو إدانة، كرَّمهُ "اليمانون" بأنْ فتحوا أبواب بلادهم وقبلها صدورهم، فأقام عزيزاً فيها، مواطناً يمنياً بهويةٍ دبلوماسية يمنية، وكثيرون من أهلنا هناك هم سفراء في بلدهم اليمن وإن لمْ يحملوا جوازات سفرٍ يمانية. حينَ طرأتْ ظروفٌ وهو في صنعاء، وغادرتْ أسرتُهُ إلى الخرطوم، تفتّق ذهنُ المنغّصين وصُنّاع المتاعبِ عَن فكرةٍ لمعاقبةِ السفيرِ اللائذِ باليمن، إذ منعوا أسرتَهُ مِن الخروجِ عبر المطارات السودانية والعودة إلى صنعاء، وعاملوهم معاملة المُجرمين المُلاحقين الفارين من البلاد. ما أفلحوا في السّفرِ إلا بعد وساطات. تلك بداية إيلامِ الجُرحِ القديم . تكالبتْ على الرّاحل العللُ وأمراضُ الجَسدِ وتعرَّض بعدَها لمِحَنٍ واختباراتٍ كثيرة. تلكَ أيامٌ عصيبة، تبيّنَ للرَّاحلِ فيها مَنْ رعى الودّ ومَن جافاه. مَن وقفَ معهُ ومَنْ جلسَ وأعطاهُ ظهرَه، فيما الإحباطُ العامُ يُزيدَ من العِللِ ويُضعِفَ البدنَ . برغمِ الإحَن والمِحَن، ما رفع الرّاحل لساناً يلجم من لاكوا سيرته بغيرِ حقٍ، وَمَن ظلموه ورموه بباطلٍ وهُم لا يعرفونَهُ. أحزنهُ وهوَ بعلّتِهِ في سكنهِ في قلبِ الخرطوم، أنَّها صارتْ عاصمةً للثقافةِ عام 2005 ، ومَا تذكّر مُنظمو تلك المِهرجانات، شاعراً إسمُهُ سيدأحمد الحردلو تعرفهُ مهرجانات الشِّعر في العراقِ وفي لبنانَ وفي القاهرةِ ، ولم تعرفهُ الخرطوم. ذلك جرحٌ مُمِضٌّ ولكنَّ الرَّاحلَ كتبَ مقالاً رصيناً بعد انقضاءِ عام الثقافةِ، قال فيه بصوتٍ عالٍ: إنّي أنا الشاعر، فسكتَ مُنظمو مِهرجانات عاصمة الثقافة، وحاروا جوابا. أيُّها الحُضور الحزين، في كلِّ ذلك الإجهادِ، وفي كلِّ تلك المِحَنِ ، لا تفتُر روحُ الشّعر عن محبّة الوطن. تعرفون قصائده الرصينة باللغةِ العربيةِ منذ صدور ديوانه الشعري الأول في عام 1960 وقت أن كان النشر عزيزاً جدا، وتعرفون بعد ذلك قصائده التي اقترب فيها إلى وجدان الناس وقلب الوطن : "طبل العز ضرب" – "سودانية يا أعظم ناس" – "تقولي لي شنو؟" – "بلدي يا حبّوب"، والأخيرة صارتْ، بعد أن مَوْسقها الرَّاحل مُحمد وردي، صِنوَ النشيدِ الوطنيِّ تحفظها الأجيالُ، جيلاً بعد جيل . . أيُّها الحُضور البَهْيّ ، ليسَ كُلّ السفراءِ شُعراءَ وَلا كُل الشعراءِ سفراءَ ، لكن سيد أحمد الحردلو شامي ، كان يَحمل أوراقَ اعتمادهِ مِن بَعضِ قوافيهِ ، فكانَ سفيراً إلى وجدان شعبه، إذ منهُ استلهمَ الوفاءَ والشِّعرَ وحُبَّ الوَطنِ . افتحوا حقيبتَهُ الدّبلوماسيّة لن تجدوا إلا . . جلابية وتوب . . نَمْ هانئاً أيُّها الرَّاحل العظيم، فأنتَ مُقيمٌ في وِجدانِ شعبٍ أحبّكَ، ووَطنٍ سكن جوانحك، تقبلك اللهُ مع الشهداء والصَّالحين وحسُنَ أولئك رفيقا.. والسلام عليكم ورحمة الله،،،