كعادتها دائما تطل مقدمة البرامج اللامعة بقناة الشروق ( سلمي سيد ) وبإعداد أكثر روعة وبجهد توثيقي واضح الملامح تقوم به الرائعة رشا إبراهيم ولعدة سنوات خلت في معظم برامج الحوارات الفنية الرماضنية وغيرها والتي تهتم بالتوثيق للأغنية السودانية . وها نحن الآن نتابع وبإستمتاع شديد الحوارات المتعددة المشارب في المسيرة الفنية للأستاذ الموسيقار ( إبن مديتنا ) محمد الأمين ، وقد كان للحضور الجميل من الأستاذ الشاعر الصحفي العريق فضل الله محمد كضيف علي الحلقات التي يتناول فيها مسيرته مع أبو الأمين ، نكهة خاصة ، علما بأن الأستاذ فضل الله وحسب صلتي اللصيقة به لا يميل كثيرا إلي الظهور الفضائي أو الإذاعي أو حتي تناول مشروعات أغنياته وقصائده الأكتوبرية النضالية كواحد من الطلاب مفجري إنتفاضة أكتوبر بالجامعة في 1964ن وقد أعتقل منذ اليوم الأول للإنتفاضة ولم يخرج من السجن الحربي إلا بعد بيان تنحي الرئيس إبراهيم عبود ، فرجع إلي ودمدني وفي الطريق جاء النشيد الأكتوبري الخالد ( أكتوبر واحد وعشرين .. يا صحو الشعب الجبار ). وقدأنني قد شهدنا الآن معظم حلقاتهما مع سلمي ومحمد الأمين ، فتداعت الذكريات تتري ، ذكريات ودمدني وبركات وفناني الجزيرة والنشأة والحراك الثقافي والفني الضخم الذي كانت تذخر به المدينة التي أنجبت عملاق الأغنية السودانية إبراهيم الكاشف وغيره ، والقائمة تطول . وقد تحدث الإثنان ( محمد وفضل الله ) عن أيتها كانت الأولي في الظهور والإنتشار ، هل هي أغنية الحب والظروف المشهورة تحت عنوان قلنا ما ممكن تسافر أم أغنية بعد الشر عليك ؟ وللمفارقة فإنهما رجحا الكفة الخاطئة في الأسبقية ، وقد قمت باإتصال هاتفيا من خارج البلاد في ذات المساء بالأستاذ فضل الله للتحية أولا وللثناء علي الحلقات، وبالتالي فقد قمت بإقناع فضل الله أن إجابتيهما كانت خطأ من ناحية التسلسل الزمني ، وقد رأيته قد إقتنع بعد أن سردت له معايشتي للأغنيتين فضحك الأستاذ وأردف قائلا : إنت مهتم بالتوثيق ، وكلامك صااااح . حديثي مع الأستاذ فضل الله حول تسلسل ظهور الأغنيتين إستندت فيه إلي ذكريات الصبا الباكر لي بودمدني ، وقد كانت ولا زالت هناك علاقات تاريخية حميمة ما بيننا أهلي والأستاذين ، وكان قوام تلك العلاقة أخي الراحل الكبير الفنان حسن الباشا الذي ترأس إتحاد فناني الجزيرة حتي وفاته في مايو 1997م ، وبالتالي فإنني كنت شاهداً علي العصر لمعظم أو كل مسيرة الأستاذين العظيمين وغيرهما بالطبع . ودليلي علي ذلك أن أغنية الحب والظروف كنا نرددها عقب ثورة أكتوبر بشهور قليلة أي خلال العام 1965م وقد كنا وقتها في السنة الرابعة والنهائية بالمدرسة الوسطي ، أما أغنية بعد الشر ، وهي التي قام بتلحينها الأستاذ محمد الأمين فكانت في العام 1967م تحديداً بعد أن أصيب بكسر في قدمه ، وقد عاد علي إثرها من العاصمة إلي ودمدني حتي شفائه تماما حيث كنت قد سجلت له زيارة برفقة أخي الأكبر الراحل حسن الباشا بمنزلهم في حي ود أزرق بودمدني وقد كنت وقتها في منتصف المرحلة الثانوية بمدرسة ودمدني الثانوية . كما أن ظهور نشيد ( المباديء ) المشهور بشهر عشرة حبابو عشرة ، قد أتي لاحقا في عيد ثورة أكتوبر 1967م حيث سبقه بعام كامل أي في عيد أكتوبر 1966م نشيد الإنطلاقة وبالتالي فإن محمد الأمين وفضل الله قد ترددا في ذات الحلقة عن أيهما الأقدم من الآخر وإنتهيا علي أن المباديء سبقت الإنطلاقة ، و لكن العكس هو الصحيح . ونشيد الإنطلاقة هذا من حيث المحتوي يعتبر من أقوي الأناشيد السودانية علي إطلاقها لما فيه من مفردات تعبيرية ثورية عميقة وذات مضامين قوية وقد كان باللغة الفصحي ، وحتي اللحن كانت فيه جرعات عالية من الحماسة ( المجد للآلاف تهدر في الشوارع كالسيول .... يدق زاحفها قلاع الكبت ... والظلم الطويل ) إلخ . كان أداء محمد الأمين لأغنية الحب والظروف في الحلقة هذه متفوقا فيه علي نفسه ، فبرغم أن الأغنية يتعدي عمرها السبعة وأربعين عاما وقد كان فضل الله وقتها في السنة الثانية بكلية القانون بجامعة الخرطوم ، إلأ أنني قد لمست فيها تجديدا في الأداء من أبو الأمين لم أعهده فيه من قبل ، كما أنه من الملاحظ أن مفردات النص كانت تحتوي علي لونية جديدة من التعبير لم يكن متوفراُ في أغنيات تلك المرحلة ، خاصة وأن معظم أشعار فضل الله محمد تجد فيها الأريحية في المعاني ، حيث تعطيك إنطباعاً بأنه يغزل في كلمات ونسة عاطفية جديدة وليست شعراً ( الغريب الساعة جنبك ... تبدو أكثر من دقيقة ، والدقيقة وإنت مافي ... مُرة ما بنقدر نطيقها ) وهكذا . شكرا سلمي ورشا وألف شكر لأبو الأمين وأبو وائل ، ومتعكما الله بنعمة العافية والسعادة بعد أن قمتما سويا بأكبر عملية تحول في مسار الأغنية السودانية نصاً ولحنا ... وإلي اللقاء ،،،،،،