ذهلتُ (مرة أخرى) حين حملت وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية نبأ المذبحة التي تمت في أورورا قرب مدينة دنفر في ولاية كلورادو الأمريكية. تسلل شاب أمريكي في الرابعة والعشرين من عمره داخل دار للسينما من باب خلفي عند منتصف الليل، ملثم من قمة رأسه الذي يغطيه أيضا قناع واقٍ من الغاز، إلى أخمص قدمه، يرتدي سترة واقية من الرصاص، وساتر للحلق ومناطق أخرى، وقفازات وأحذية خاصة. بدأ الشاب هجومه بإلقاء قنبلة مسيلة للدموع داخل دار السينما، ثم بدأ في إطلاق الرصاص عشوائيا على جمهور السينما فقتل إثنا عشر منهم وأصاب نحو ستين بجروح، بعضهم في حالة صحية خطرة. وقد اكتشفت الشرطة لاخقا أن الشاب اشترى مؤخرا أربع قطع سلاح مختلفة ونحو ستة آلاف رصاصة! مثلما يحدث كل مرة، أول ما طاف بخاطري هو فكرة أتردد في ذكرها لما قد يبدو فيها من غياب للحساسية وتقدير للمشاعر، ولكن ما حيلتي وقد علمتنا التجارب المماثلة أن ننحو هذا النحو في رد فعلنا؟ أول ما خطر بذهني حين ذكرت التقارير الصحفية أن الجاني أبيض اللون: الحمد لله أن الجاني ليس عربيا ولا مسلما ولا أسودا ولا لاتينيا- باختصار، ليس من العالم الثالث ذو الألوان. إذ لو كان فيه شبهة لون، لفتحت علينا وسائل الإعلام الأمريكية (وفي مُقدمتها فوكس نيوز) نيرانها واتهاماتها وتحليلات خبرائها عن الأرهاب، وعن العنف المتغلغل في تربيتنا ومجتمعاتنا وديننا. ماذا دها العالم؟ حادثة أورورا ليست حادثة معزولة. قبلها كانت مذبحة مدرسة كولومباين (1999) على بُعد أميال قليلة، وفاجعة فيرجينيا تيك وغيرها في الولاياتالمتحدة؛ وقبل عام حدثت مذبحة جزيرة أوتويا في النرويج، وعشرات من مثيلاتها في بلدان أخرى في آسيا وأوروبا وأستراليا ونيوزيلندة والأمريكتين، في المدارس والجامعات، وفي أماكن العمل، وفي أماكن أخرى. وتشترك معظم هذه الأحداث الدامية في صغر سن مرتكبيها، وفي الأعداد الكبيرة من الضحايا الأبرياء، وفوق كل ذلك، في غياب الدافع القوي الذي يقود إلى مثل هذا العنف الدموي. كنت أظن أن الولاياتالمتحدة تنفرد بمثل هذه المذابح الفردية العشوائية، لكنني اكتشفت أن "داء جنون البشر" منتشر في قارات العالم الخمس، وفي البلاد المتقدمة والنامية، والغنية والفقيرة، على اختلاف نظمها الاقتصادية والاجتماعية، وعلى اختلاف أديانها وثقافاتها. أتحدث هنا عن عنف الأفراد، ولا أتحدث عن عنف الحكومات والأحزاب والجماعات فهذا شأن آخر تُفرد له الكتب. ما الذي يدفع شابا في ريعان شبابه مثل جيمس هولمز(المتهم في مذبحة أورورا)، ميسور الحال (بدليل مشترياته من الأسلحة والدخائر والمتفجرات)، طالب الدراسات العليا، إلى التخطيط عن سبق إصرار وترصد لقتل وجرح وترويع مثل هذه الأعداد من الأبرياء دون معرفة سابقة أو خلاف أو ضغينة أو ثأر؟ أتفتك بنا جرثومة مثل جرثومة جنون البقر دون أن ندري، فيُقدم بعضنا إلى الفتك بالأبرياء دون سبب؟ أهو انتشار العنف في وسائل الإعلام وتعودنا على مشاهد القتل والدماء، أم هو انتشار السلاح وسهولة الحصول عليه؟ أهو الفقر المدقع الذي قد يقود إلى اليأس والغضب وإلى إدمان الخمر والمخدرات، أم الغنى الذي قد يقود إلى الجده والبطر والسأم وإدمان الخمر والمخدرات؟ الغريب في الأمر أن مثل هذه الأحداث تثير فينا مثل هذه الأسئلة، وتهز دواخلنا، ثم لا تلبث أن يطويها النسيان (إلا لأسر الضحايا ربما)، فنعود إلى سابق عهدنا حتى تحمل لنا وسائل الإعلام مذبحة جديدة تهزنا من جديد. نسأل الله السلامة والسلام!