أدى الهجومان الإرهابيان اللذان قامت بهما حركة الشباب المجاهدين الصومالية على كنيستين في قاريسا بشمال شرق كينيا بداية هذا الشهر إلى بروز مسألة التعايش بين الأقلية المسلمة والغالبية المسيحية في كينيا مرة أخرى على الساحة السياسية خلال الأسبوع الماضي. فبالرغم من أن المسلمين قرروا بعد وقوع الهجومين تكوين فرق لحماية المسيحيين أثناء صلاتهم أيام الأحد ، وبالرغم من أن معظم المنظمات الإسلامية في كينيا أعلنت عن إدانتها للحادثين باعتبارهما عملين إجراميين ، إلا أن الحساسية التي تصبغ العلاقات بين المسلمين والمسيحين برزت للسطح مرة أخرى مع قرار الحكومة تقديم ثلاثة مشروعات قوانين أمام البرلمان تتعلق بتحقيق الأمن ومحاربة الإرهاب في البلاد. جاءت المشروعات في أعقاب عدد من العمليات الإرهابية في كل من ممباسا ونيروبي يعتقد أن حركة شباب المجاهدين كانت وراءها كرد فعل على تدخل القوات الكينية في الصومال منذ أكتوبر من العام الماضي إلى جانب قوات السلام الأفريقية "أميصوم" التي تعمل على استئصال الحركة تمهيداً لإنهاء الفترة الانتقالية بالصومال في شهر أغسطس الحالي. جاءت المشروعات كذلك في أعقاب اعتقال إثنين من الإيرانيين تقول الحكومة الكينية أنهما عميلين للمخابرات الإيرانية كانا يسعيان لتنفيذ عمليات إرهابية في البلاد. وتقول سلطات الأمن الكينية أنها ضبطت بحوزة الرجلين كمية من المواد المتفجرة ، ويعتقد كما تشير بعض المعلومات أنهما كانا يستهدفان بعض المواقع في نيروبي من بينها السفارتين البريطانية والإسرائيلية. ومع أن عدداً من المصادر الصحفية تربط بين العميلين الإيرانيين وحركة شباب المجاهدين الصومالية ، إلا أن مصادر أخرى تقول أنهما من عناصر "سرايا القدس" التي تقوم بتنفيذ عمليات ضد الاهداف الإسرائيلية انتقاماً لعمليات الاغتيال التي طالت عدداً من العلماء الإيرانيين العاملين في مجال تطوير القدرات النووية للبلاد والتي تتهم الحكومة الإيرانية المخابرات الإسرائيلية بتنفيذها. وتتمثل القوانين التي أودعتها الحكومة منضدة البرلمان الكيني في قانون قوات الدفاع الكينية ، وقانون مجلس الأمن القومي والذي يهدف لإنشاء مجلس يشرف على أجهزة الأمن المتعددة في البلاد بغرض تنسيق جهودها ، وقانون جهاز المخابرات الوطني. وتقول الحكومة أن الغرض من هذه القوانين هو ضمان توافق الأنشطة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية في البلاد مع الدستور ، وأشارت إلى أن البرلمان سيكون له دور أكبر في مراقبة جهاز المخابرات الوطني وضمان عدم تجاوز العاملين فيه لسلطاتهم المنصوص عليها في القانون. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي تعرض فيها مثل هذه القوانين في البرلمان ، غير أنها كانت في كل مرة تواجه بالاعتراض من جانب الأقلية المسلمة في كينيا التي ترى في القوانين حجراً على حريتها. لذلك فإنه لم يكن من المستغرب هذه المرة أن يصرح رئيس المجلس الأعلى للمسلمين في كينيا ، وهو هيئة تمثل حلقة الوصل بين المسلمين والحكومة الكينية ، أن مرور هذه القوانين عبر البرلمان ستكون له آثار مدمرة بالنسبة للمسلمين لذلك فإنه لا بد من معارضتها بأي ثمن. ومضى رئيس المجلس للقول أنه وعلى عكس ما تدعي الحكومة فإن مشروعات القوانين لا تتفق ودستور البلاد ، مشيراً إلى أن قانون الجنايات الحالي كفيل بمحاربة أي أعمال إرهابية قد تقع بالبلاد وأن المشروعات الجديدة سيتضرر منها المسلمون أكثر من غيرهم. أدلى رئيس المجلس الأعلى بتصريحاته خلال حفل إفطار رمضاني أقامه مجلس الأئمة والدعاة ، وهو هيئة دينية تدعي أيضا تمثيل المسلمين في كينيا ، كان الغرض منه جمع التبرعات لدعم إحدى المدارس الثانوية لأبناء المسلمين. وقد انتهز رئيس المجلس الأعلى هذه المناسبة ليضرب على وتر حساس بالنسبة للأقلية الإسلامية في كينيا عندما أشار إلى أن الوسيلة الوحيدة لمجابهة سياسات التهميش وعدم العدالة التي يعاني منها المسلمون هي العمل على توفير التعليم الجيد لأبنائهم ، وقد جاء حديث رئيس المجلس في الوقت الذي بدأت فيه بعض الأصوات بين شباب المسلمين ترتفع بأن عليهم انتزاع حقوقهم بأي وسيلة ممكنة. تعكس مسألة القوانين الأمنية حالة التوتر التي تسود علاقات المسلمين بالغالبية المسيحية من أهل البلاد ، بالرغم من أن كينيا تعتبر أفضل من غيرها في هذا المجال مقارنة بالعديد من الدول الأفريقية. ولعل حساسية الأمر تبدو واضحة في الخلاف البين حول نسبة المسلمين إلى عدد السكان في كينيا ، فقد أثارت الأرقام التي أصدرتها الحكومة بعد الإحصاء السكاني في عام 2009 والتي تقول أن النسبة تفوق 11% بقليل غضب المسلمين الذين قالوا ان التعداد السكاني شهد تزويراً كبيراً بغرض تقليل نسبة المسلمين. ولعل تضارب الاحصائيات حول عدد المسلمين يبدو جليا حيث تشير بعض المصادر إلى أن الأقلية الاسلامية تفوق 30% من جملة السكان بينما تشير مصادر أخرى إلى أنها لا تتجاوز 8% على أحسن تقدير. ولا تنحصر أسباب التوتر في عدد المسلمين ونسبتهم لجملة السكان فحسب ، بل لعل الأهم من ذلك هو أن العديد من الجهات داخل البلاد وخارجها تبدي الكثير من الحساسية حول روابط الجالية المسلمة في كينيا بالأمة الإسلامية عامة وإن كان ذلك لا يتعدى في الكثير من الأحيان التعاطف مع ما يواجهه إخوانهم في العالم الإسلامي. لا شك أن عملية تفجير السفارة الأمريكية بنيروبي في أغسطس 1998 تعتبر نقطة تحول مهمة في علاقات المسلمين ببقية مكونات المجتمع ، فقد تعرض المسلمون الكينيون بسببها للكثير من المضايقات بالرغم من أن المعلومات التي نشرت حول العملية التي راح ضحية لها 226 قتيلاً وخلفت خمسة آلاف جريح تؤكد عدم تورط المسلمين الكينيين فيها. حاول الإعلام الأمريكي والكيني استغلال اعلان تنظيم القاعدة مسئوليته عن العملية للحديث عن تزايد موجة الإرهاب بين المسلمين في كينيا بالرغم من أن منفذي الهجوم لم يكن من بينهم كيني واحد. وبالرغم من أن الغالبية العظمى من المسلمين الكينيين كغيرهم من المسلمين في مختلف أنحاء العالم لا يؤيدون الأسلوب الذي تتبعه القاعدة وإن كان الكثيرون منهم خاصة في أوساط الشباب لا يخفون إعجابهم بزعيمها الراحل أسامة بن لادن لأنه تجرأ في نظرهم بالوقوف منفرداً في وجه الطغيان الأمريكي. برزت الحساسية بين مكونات المجتمع الكيني مرة أخرى بسبب الجدل الذي دار حول محاكم الأحوال الشخصية الاسلامية في عام 2002 وذلك عندما اقترحت اللجنة الخاصة بإعداد الدستور الكيني الجديد عندئذٍ الإبقاء على نظام تحاكم المسلمين أمام المحاكم الشرعية ، وهو النظام الذي ظل مطبقاً منذ أيام الاستعمار البريطاني. غير أن مقترح لجنة الدستور اشتمل على تطور جديد أثار ثائرة الطوائف الدينية الأخرى وهو أن تنشأ محاكم استئناف اسلامية للأحوال الشخصية ، وقد كان المتضرر يلجأ في هذه الحالات إلى محكمة استئناف مدنية للفصل في الدعوى بل إن الدستور كان يتيح للمسلم اللجوء لمحكمة مدنية منذ البداية. طالبت بعض الكنائس بإعلان كينيا دولة مسيحية ، كما قام تحالف بين بعض الطوائف المسيحية والهندوسية لمقاومة الاتجاه نحو تطبيق الشريعة الاسلامية في كينيا على حد قولهم. لم تقتصر ردود الفعل على الطوائف المسيحية الكينية فقط ، فقد انتقد اليمين المتطرف في الولاياتالمتحدة دعم الرئيس أوباما للدستور الكيني الجديد بدعوى أن الدستور يدعو لتطبيق الشريعة الاسلامية في كينيا. وبالرغم من أن الجدل بشأن الدستور الكيني الجديد كان يدور أصلاً حول تقليص سلطات رئيس الجمهورية لصالح رئيس الوزراء وهو منصب مستحدث كان الغرض منه عدم تكرار التجاوزات التي شهدها عهدا الرئيسين كينياتا وأراب موي ، إلا أن موضوع الشريعة الاسلامية أصبح فجأة مركز الاهتمام وإثار حفيظة الكثير من اهل الديانات الأخرى. جاء طرح مشروعات قوانين الأمن القومي التي أثارت ردود فعل قوية من جانب المسلمين مصاحباً لتطور مهم آخر وهو حكم المحكمة العليا ببطلان قرار الحكومة الكينية بحظر مجموعة تسمي نفسها "مجلس ممباسا الجمهوري". تتكون المجموعة من عدد من الشباب الذين يدافعون عن حقوق مواطني ممباسا والساحل الكيني ذي الأغلبية الاسلامية ذات الأصول العربية. والزائر لممباسا والساحل الكيني يلمس بوضوح آثار الثقافة العربية الاسلامية ، فقد ظل الساحل ولمئات السنين تحت حكم سلاطين عمان وزنجبار. وشعار المجموعة هو "الساحل ليس كينياً" اعتماداً على أن سلطان زنزبار وافق على وضع منطقة الساحل برمتها تحت حماية السلطات البريطانية الاستعمارية في القرن التاسع عشر وأن الرئيس جومو كينياتا أول رئيس لكينيا المستقلة هو الذي ضم منطقة الساحل لكينيا ، ويقول مجلس ممباسا الجمهوري أن قرار الرئيس كينياتا لم يكن قانونياً. وتقول المجموعة أنها تعمل من أجل انفصال الساحل بالطرق السلمية ، غير أن الناطق الرسمي باسمها لم يستبعد اللجوء لوسائل أخرى إذا ما استمرت سياسة مصادرة اراضي مواطني الساحل لصالح كبار المسئولين في الدولة والمستثمرين الكينيين والأجانب. وتمثل ملكية الأرض محور النزاع في منطقة الساحل بالنظر للقيمة العالية للارض هناك حيث عوامل الجذب الاستثماري القوية لشركات السياحة والملاحة. وبينما أعلن المدعي العام أن الحكومة سوف تستأنف القرار فإن رئيس الوزراء الذي كان في زيارة للمنطقة أكد تأييده للقرار ، إلا أنه حذر أعضاء المجلس من اعتبار قرار المحكمة بمثابة التأييد لمطالبهم الانفصالية وطلب من المجلس نبذ فكرة الانفصال تماماً والجلوس إلى طاولة التفاوض للتوصل لحل وسط مع الحكومة. غير أن المواقف تبدو متباعدة جداً ، فمواطنو الساحل يحسون بالتهميش التام بالرغم من المساهة الكبيرة لمنطقتهم في الدخل القومي للبلاد. وكما هو معروف فقد قامت الحكومة الكينية مؤخراً بوضع حجر الأساس لميناء لامو الجديد الذي تقول أنه سيكون في مصاف الموانئ العالمية الكبرى مثل ميناء دبي. ويرتبط الداخل حتى إثيوبيا وجنوب السودان بالميناء الجديد عبر مشروعين مهمين هما خط أنابيب لنقل النفط من جنوب السودان للمحيط الهندي ، وخط للسكك الحديدية يربط البلدان الثلاثة ويشكل منفذاً للبحر لكل من إثيوبيا وجنوب السودان. استطاعت كينيا عبر تاريخها القريب من تجاوز العديد من المشاكل بين مكونات مجتمعها وبصفة خاصة بين المسلمين وغيرهم من الطوائف الدينية بسبب الاستقرار السياسي الذي تعيشه البلاد. غير أن الفترة الأخيرة شهدت الكثير من التطورات التي تنبئ بأن كينيا ربما كانت مقدمة على فترة من الاضطراب السياسي في المستقبل القريب. فالأحداث التي شهدتها البلاد في اعقاب الانتخابات العامة في عام 2007 والتي تمثلت في الفتنة القبلية التي أودت بحياة المئات وشردت الآلاف ربما تتكرر مع الانتخابات العامة في مطلع العام القادم ، خاصة وأن بعض المرشحين لرئاسة الجمهورية مطلوبين لدى محكمة الجنايات الدولية بسبب الأدوار التي لعبوها في أحداث 2007. من ناحية أخرى ، فإن التدخل العسكري في الصومال نهاية العام الماضي يعتبر سابقة قادت حتى الآن لتكثيف الأعمال الإرهابية في عدد من المدن الكينية وربما تقود للمزيد في حالة عدم استقرار الأوضاع في الصومال. Mahjoub Basha [[email protected]]