كنت أريد الانتظار بهذه المقالات عن بيت الضيافة حتى تصدر في سلسلة "كاتب الشونة: دراسات في الفكر النقدي" التي أقوم عليها. وسبق لي نشرها مسلسلة في "الرأي العام" في 2009. وبعضها الذي تناول رد الاعتبار لضحايا 22 يوليو من الشيوعيين جرى نشرها في تواريخ أسبق. ولكن رأيت التعجيل بنشر مسودة المقالات هنا بعد أن رأيت الاضطراب العظيم في هذا المنبر حول كشف تقرير علوب عن المقتلة وكيف عدنا به أعداء كما كنا لا أخواناً في الوطن بفضل المعرفة التي جاء بها إلى دائرة الحوار. ولا يطمع أحد في أن يجد هنا حلاً لتقرير علوب. فقد نظرت في النسخة التي استعان بها المرحوم قدال وجئتم بكلماته هنا وأنتظر أن أطلع على نسخ تزعم أنها الأصل. ولا أمني أحداً بجديد في الموقف. فأنا من حملة "القوة الثالثة" الشيوعية ما في شك. ما ستجده طريفاً هو تقعيد دعوتي فوق نهج تاريخي استوفى المصادر الأولية والثانوية ما استطاع. وهو مما يعين صاحب الرأي الآخر على تكييف دعوته على بينة. ورأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ بحتمل الصواب. ومهما كان فأنا اعتقد أن الشيوعيين موزرون، حتى لو كانوا براء من مقتلة بيت الضيافة، لموت هؤلاء الضباط وهم في ذمتهم في الحبس. قولاً واحداً ولا لجاج. لنطوي صفحة بيت الضيافة وكا دفتر عنف الدولة والعنف المضاد ليسلم لنا الوطن القبيح المضرج بالدماء. كفاية. فإلى مقال اليوم: لعل أكثر الفصول في مذبحة بيت الضيافة غموضاً وحزناً هو مصير الجندي أحمد إبراهيم المعروف ب "سفاح بيت الضيافة". وقد جرى إعدامه في آخر أغسطس 1971 أي بعد نحو شهر وأكثر من مجازر الشجرة ومشنقة كوبر التي ذهبت بصفوة جيل الأربعينات الشيوعي. ويكفي من غموض الرجل أننا لا نعرف عنه سوى "الجندي أحمد إبراهيم". فحتى الحكومة (التي تثلث الإسم) توقفت عند اسم والده دون جده. ومع اعتراف الشيوعيين، من الجهة الأخرى، بنبل الرجل وقوة عزيمته في الحق، فهم لا يذكرونه ضمن قائمة شهدائهم. وسقط الرجل من الذاكرة بلا اسم ثالث تغاضاه حتى الفريق الذي مات عند عتبته المقدسة. للتعريف بهذا القتيل الغامض أعرض على القاريء نصين. النص الأول مأخوذ من كتاب "حقائق وقائع مجزرة بيت الضيافة" الذي صدر عن الشيوعيين في سبتمبر 1971 ثم دار الفكر الجديد في بيروت عام 1974. أما النص الثاني فهو جزء من وقائع محاكمة الجندي نشرته جريدة الرأي العام في 27 أغسطس 1971. وما يستفز في هذا النشر بالصحيفة أنه مبتسر ومجغمس يخرق أعراف العدالة في الصميم. وهو نشر لاتقدم عليه صحيفة تتأدب بالمهنة. وصف الشيوعيون في كتابهم الجندي أحمد إبراهيم ب"الشهيد". وقالوا إنه "اعتقل مع عدد من جنود الحرس الجمهوري والذخيرة ومدرسة المشاة كانوا يحرسون منطقة بيت الضيافة وسلّموا أسلحتهم بكامل ذخيرتها. وخلال المحاكمات قضى فترة في معسكر الشجرة. وقد تعرض مع زملائه الجنود لضغط وتهديد من جنود المظلات ليشهدوا ضد الضابط مدني علي مدني بأنه أطلق النار على الضباط المعتقلين ببيت الضيافة. ولكنه في المحكمة وفي كل التحقيقات أصر هو وزملاؤه على أن الدبابات المهاجمة هي التي أطلقت مدافعها على بيت الضيافة وأن ضباط يوليو لم يقتلوا المعتقلين. وبعد ذلك أُرسل إلى كوبر حيث قضى قرابة أسبوعبن. ثم أعلن وأشيع أن أحد الضباط تعرف عليه وبدأ معه تحقيقاً لم يصل إلى نتيجة. وعندما زار السفاح (نميري) سجن كوبر سأل عنه وحاول تهديده وقال له: "إنت سفاح بيت الضيافة". فغضب الشهيد وهاجم السفاح وقال له: "إنت السفاح والقاتل وتتحمل مسئولية كل ما حدث." فأمر السفاح بتقديمه للمحاكمة. وتعرض الشهيد لتعذيب قاس وضغط ليعلن أنه مع بقية الجنود تلقى أوامر بقتل الضباط أو شاهد أحد الضباط يطلق النار على المعتقلين ليضمن النجاة من حكم الإعدام. فرفض. ومن أبشع صور الاستهتار والتلفيق أن زمرة السفاح أخذت الشهيد لتعرضه على العقيد سعد بحر (قائد المدرعات الثاني الذي نجا من بيت الضيافة وكان جريحاً في المستشفى العسكري). وعندما أحضروا الشهيد أمامه قال له قول" "ود الكلب". وكان القصد من ذلك ما ذكره سعد بحر من قبل أنه خلال اطلاق النار على بيت الضيافة سمع أحد الجنود ينطق هذه العبارة بلهجة أبناء غرب السودان حيث يدغمون حرف اللام فتصبح "ود الكب". وبما أن الشهيد من أبناء الغرب فقد نطق هذه الكلمات بكل براءة بلهجته. وهنا قال سعد بحر هذا هو الجندي. وهكذا وبلا أدنى جهد حكموا على الشهيد بالإعدام. وأعدموه شنقاً خلافاً للعرف والتقليد والقانون العسكري. وعندما اقتيد الشهيد للمشنقة ضرب على لوحتها الخشبية بقدمه وقال: "يا مشنقة جاك راجل. أنا ما قتلت زول وحقي ما بروح". ننتقل الآن إلى نص وقائع المحكمة المجزؤ. ففي تدوين نادر لوقائع أي محكمة عسكرية لعسكريين من محاكمات الشجرة بعد سقوط انقلاب 19 يوليو جاءت الرأي العام (خاضعة لمزيد تأكد) (27 أغسطس 1971) بجزء من محاكمة الجندي أحمد إبراهيم "سفاح بيت الضيافة". جاء في أقوال شاهد الاتهام الملازم عبد العزيز محمد محمود (الناجي من بيت الضيافة والضابط بالقوات المدرعة) إن الرصاص جاءهم من جهة الحرس على البيت. وكان أحد الحرس يلبس علامة الهجانة. ضٌربنا في المرة الأولى وأعادوا الضرب للمرة الثانية للخلاص من أي أحد من المعتقلين. (وذكر الشاهد عن محاولته الخروج من بيت الضيافة). فوجئنا بوجود الجندي الذي يلبس علامة الهجانة وجندي أخر من الحرس الجمهوري. وصار يهددنا بالسلاح. وفي هذا الأثناء أنا كنت خلف الملازم محمد زين (معتقل آخر) بالحمام المجاور بالأودة. حاولت فتح الأبواب. اتجهت لشارع الجامعة ومن خلفي الملازم محمد زين. ووجدت الحراسة الخارجية من القوة الموالية لثورة مايو وعرَّفناهم بأنه لا زال يوجد جنود بمنزل الضيافة. (فذهب عساكر مايو) واعتقلوا خمسة جنود أحدهم من الهجانة وواحد من الحرس الجمهوري وواحد من كتيبة القيادة وواحد من مدرسة المشاة. وقال الشاهد إنه قال للجندي من الحرس الجمهوري: قَتَلتونا. (وكان ببندقيته 13 طلقة من 150 طلقة).قال نعم قتلناكم. وهنا سأله المتهم الجندي أحمد إبراهيم: أريتني أضرب نار داخل الغرف؟ جواب: نعم. شفتك مرتين. المرة الأولى في إعادة الضرب للتخلص. وقد رأيته يضرب والمرة الثانية حضر وهددنا وقال لنا أرجعو داخل الحجرة. سؤال من أحمد إبراهيم: عندما حضرنا سوياً أنا قلت ليكم لو داير اضربكم أهه دي الخزنة مليانة. هل تذكر؟ إجابة: لا. وانتهى المحضر. وأغتيل الجندي أحمد إبراهيم . من هذا الجندي المجهول؟ من هو أحمد إبراهيم الغامض الذي استعصى على شهادة الزور وشهد لسانه ضده؟ على أي مصدر في التاريخ والثقافة "تحربس"؟ كيف سام الروح ولماذا؟ Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]