ترتيبات في السودان بشأن خطوة تّجاه جوبا    إعلان خارطة الموسم الرياضي في السودان    توضيح من نادي المريخ    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    تحديث جديد من أبل لهواتف iPhone يتضمن 29 إصلاحاً أمنياً    تحالف "صمود": استمرار الحرب أدى إلى كارثة حقيقية    شاهد بالفيديو.. لاعب المريخ السابق بلة جابر: (أكلت اللاعب العالمي ريبيري مع الكورة وقلت ليهو اتخارج وشك المشرط دا)    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    "صمود" يدعو لتصنيف حزب المؤتمر الوطني "المحلول"، والحركة الإسلامية وواجهاتهما ك "منظومة إرهابية"    شاهد بالفيديو.. حسناء الفن السوداني "مونيكا" تدعم الفنان عثمان بشة بالترويج لأغنيته الجديدة بفاصل من الرقص المثير    صحة الخرطوم تبحث خطة لإعادة إعمار المرافق الصحية بالتعاون مع الهيئة الشبابية    ميسي يستعد لحسم مستقبله مع إنتر ميامي    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    كمين في جنوب السودان    كوليبَالِي.. "شَدولو وركب"!!    دبابيس ودالشريف    إتحاد الكرة يكمل التحضيرات لمهرجان ختام الموسم الرياضي بالقضارف    محمد عبدالقادر يكتب: بالتفصيل.. أسرار طريقة اختيار وزراء "حكومة الأمل"..    تقرير يكشف كواليس انهيار الرباعية وفشل اجتماع "إنقاذ" السودان؟    ارتفاع احتياطيات نيجيريا من النقد الأجنبي بأكثر من ملياري دولار في يوليو    وحدة الانقاذ البري بالدفاع المدني تنجح في إنتشال طفل حديث الولادة من داخل مرحاض في بالإسكان الثورة 75 بولاية الخرطوم    "تشات جي بي تي" يتلاعب بالبشر .. اجتاز اختبار "أنا لست روبوتا" بنجاح !    أول أزمة بين ريال مدريد ورابطة الدوري الإسباني    المصرف المركزي في الإمارات يلغي ترخيص "النهدي للصرافة"    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    بزشكيان يحذِّر من أزمة مياه وشيكة في إيران    شهادة من أهل الصندوق الأسود عن كيكل    لجنة أمن ولاية الخرطوم تقرر حصر وتصنيف المضبوطات تمهيداً لإعادتها لأصحابها    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    مصانع أدوية تبدأ العمل في الخرطوم    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    شاهد بالصورة والفيديو.. ماذا قالت السلطانة هدى عربي عن "الدولة"؟    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان والممثل أحمد الجقر "يعوس" القراصة ويجهز "الملوحة" ببورتسودان وساخرون: (موهبة جديدة تضاف لقائمة مواهبك الغير موجودة)    شاهد بالفيديو.. منها صور زواجه وأخرى مع رئيس أركان الجيش.. العثور على إلبوم صور تذكارية لقائد الدعم السريع "حميدتي" داخل منزله بالخرطوم    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    رحيل "رجل الظلّ" في الدراما المصرية... لطفي لبيب يودّع مسرح الحياة    بنك أمدرمان الوطني .. استئناف العمل في 80% من الفروع بالخرطوم    زيادة راس المال الاسمي لبنك امدرمان الوطني الي 50 مليار جنيه سوداني    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    استعانت بصورة حسناء مغربية وأدعت أنها قبطية أمدرمانية.. "منيرة مجدي" قصة فتاة سودانية خدعت نشطاء بارزين وعدد كبير من الشباب ووجدت دعم غير مسبوق ونالت شهرة واسعة    «ملكة القطن» للمخرجة السودانية سوزانا ميرغني يشارك في مهرجان فينيسيا    مقتل شاب ب 4 رصاصات على يد فرد من الجيش بالدويم    دقة ضوابط استخراج أو تجديد رخصة القيادة مفخرة لكل سوداني    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    الشمالية ونهر النيل أوضاع إنسانية مقلقة.. جرائم وقطوعات كهرباء وطرد نازحين    شرطة البحر الأحمر توضح ملابسات حادثة إطلاق نار أمام مستشفى عثمان دقنة ببورتسودان    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    بتوجيه من وزير الدفاع.. فريق طبي سعودي يجري عملية دقيقة لطفلة سودانية    نمط حياة يقلل من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 40%    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أخوف ما أخاف على الإنقاذ ... بقلم: هاشم الإمام
نشر في سودانيل يوم 07 - 08 - 2012

فرجينيا / الولايات المتحدة
بدت على دولة الإنقاذ أعراض الشيخوخة ، وأصابتها أدواء الأمم التي سادت من قبل ثمّ بادت ، وكادت تستنفد مقوّمات بقائها ، وتستكمل أسباب ذهابها ، ولكن رغم ذلك فلا زالت هي أهون الشّرين ، و خيار كثير من النّاس ، أنا واحد منهم ، وذلك لضبابيّة الرؤية من بعدها ، وخوف البكاء عليها بعد أن بكينا منها ، فأحزاب المعارضة التي كانت تمثل الوسطيّة في الطرح ، أو هكذا الظن بها ، أصبح أكثر زعمائها – إلا من رحم ربّي - رمماً بالية ، يعارضون ما هو كائن ، ولا يملكون رؤية سياسيّة واضحة لما ينبغي أن يكون ، فلم يبق خيار بعد الإنقاذ ، بل لم تبق قوّة منظمة ذات شوكة ، إلا الحركات المسلحة التي تقاتل في أطراف السودان ، وهي أيضاً لا تملك تصوراً لطبيعة الحكم بعد الإنقاذ ، ولا فلسفة تهتدي بها ، فأجندتها عنصريّة جهويّة ، وتحرِّكها أحقاد تاريخيّة ، وادّعاء مظالم اجتماعيّة ، ورغبة في الانتقام ، ورغائب أُخر يستحي المرء أن يذكرها ، فأنى لهؤلاء أن ينتظر منهم التغيير المبتغى !
وإذا كان خيارنا – حتى إشعار آخر- هو دولة الإنقاذ القائمة ، فكيف اتّسع علينا فتقها وعجزنا عن رتقه ؟ و ما أخوف ما نخاف عليها ؟
أمّا العجز عن رتق فتقها ، وسدّ ِ ما قد أخلّت وضيّعت ، فعجز مقدور عليه ، لا ينبغي الاستسلام له ؛ لأنه عجز القادرين على التّمام ؛ و لأنّ الإصلاح وإن بطؤ ، فهو لا محالة قادم ، ما دام دعاته صابرين على لأوائه ، وأمّا أخوف ما نخاف على الإنقاذ ف...
( 1 )
دعوة المظلوم
ولبشاعة الظّلم فقد تنزّه الله عنه ، وحرّمه على نفسه ، ونهى عباده أن يتظالموا ، و ذكر ظلم الإنسان لنفسه ، ووصفه بأنه " ظلوم جهول " ؛ ممّا يدلّ على أنّ هذه الصّفة مستكنة فيه ، وأنّه في حاجة إلى أن يروض نفسه بأنواع العبادات ، حتى تطهُر ، وتزكو ، و تستقيم على فضيلة العدل ، ولعل الشاعر لم يبعد النجعة حين عدّ الظلم شيمة من شيم النفس البشريّة ، وجِبلّةً فيها ، وأنّ المرء لا يعدل إلا إذا كان له غرض من وراء العدل :
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلحاجة لا يظلم
وأشد أنواع الظلم ظلم ذوي السلطان ، سواء أكان هذا الظلم واقعاً من رأس الدولة ، أم من الوزراء ، والولاة ، وغيرهم من عمّال الدولة الذين استُرعوا شؤون الرعية ، لقاء أجر يقبضونه كلّ شهر . وأظلم الظلم أن ينحاز العاملون في مرافق الدولة ومؤسساتها إلى بعضهم ، فيبرر بعضهم ظلم بعض ، فيشتكي النّاس فلا يجدوا من يزيل شكاتهم .
والظلم باختلاف ضروبه ، وتعدد ألوانه، ممّا ذكرت وما لم أذكر، يهددّ الإنقاذ في أخص مبر رات قيامها ، دعك عن استمرارها ، فما قبل الناس حكم الإنقاذ ، و تخلّوا عن ولاءاتهم وانتماءاتهم السياسيّة القديمة ، أو قُل أجّلوها إلى حين ، إلّا طمعاً في عدل الإسلام الذي أعلنته الإنقاذ منهجاً لها في الحكم ، فهل أنجزت الإنقاذ ما وعدت ؟ وهل حكمت فعدلت ؟
الذي يتصفّح تاريخ الإنقاذ ، ويتأمل وقائعه ، يجد فيه بلا شك عهوداً مورقة ، وجهوداً مبذولة ، وإنجازات ضخمة ، واجتهادات أصابوا في بعضها ، وأخطأوا في بعضها الآخر ، وهذه الإنجازات والجهود لا ينكرها إلّا مكابر ، و لا يقلّل من شأنها إلا جائر ، ولكنهم أخفقوا في توظيف هذه الإنجازات لتخفيف عبء المعيشة على النّاس ، إذ أنها لم تنعكس على حياة الناس ، فتؤثّر في زيادة دخل الفرد ، أو تذلّل صعوبات كسب عيشه ، فخبا وهجها ، وصارت خصماً على المشروع الحضاري ، ثُمّ لقي الناس بعدها من بعض أهل الإنقاذ أثرة ، ورأوا منهم من الظلم مالم يكونوا يحتسبون ، إذ آثرت الدولة أحياناً ظلم العباد ؛ إرضاء لهوى بعض وزرائها ، فانفتقت إثر ذلك الفتوق العظام ، ثم ركب هؤلاء الوزراء الغرور ، واستبد بهم الكبر ، فصاروا يتخذون القرارات المحبطة للجمهور ، و المؤثرة على أوضاع الفقراء المعيشيّة ، دون علم رئيس الدولة ، أو موافقة الحزب الحاكم ، أو التنسيق مع الوزارات الأخرى ذات الصّلة ، وما جرؤوا على ذلك لولا أمنهم المحاسبة ، فقد أحكموا الحصار على رئيس الدولة ، وقللبوا له الأمور ، فلا يسمع إلا ما يقولون ، و لا يرى إلا ما يرون !
كثرت شكوى الناس من الظلم ، ولا أحد يسمع شكوى أو يقيل عثرة . وإذا أكثر الناس من الشكوى ، ورواية القصص الدّالة على الظلم - وإنْ بالغوا واشتط بهم الخيال- فلا شك أنّ هناك ظلماً - قلّ أو كثُر - واقع عليهم ، يجب على المسؤولين التحري عنه ، و إزالته ، فالأمة في مجموعها معصومة عن افتراء الكذب والإجماع عليه ، ولكن صنّاع القرار أمنوا المحاسبة فنسوا يوم الحساب ، وركنوا إلى شدّة بأسهم ، ونسوا الجبّار من فوقهم ، وراهنوا على فقه كراهة الخروج على الحاكم ، ونسوا دعوات المظلومين وتضرعهم في الأسحار :
لا تظلمن إذا ماكنت مقتدراً فالظلم ترجع عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لم تنم
قال أبو الدرداء : ( إيّاك ودمعة اليتيم ، ودعوة المظلوم ، فإنها تسري بالليل والنّاس نيام )
فدمعة اليتيم ، ودعوات المظلومين ، المنحنية ظهورهم ، يتلون آيات الله ، و يناجون ربّهم من فوقهم في الأسحار ، أشدّ على حكم الإنقاذ من حراب عبد العزيز الحلو ، و سنان مالك عقار ، و بنادق الحركات المسلحة في دارفور ، فمن طال عدوانه زال سلطانه ، وما شاع الظلم في أمة إلا أهلكها ، وما دمّرت الممالك الكبرى ، والحضارات العظيمة ، إلا بسبب الظلم ، قال تعالى ( فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين ) فبئس الزاد إلى المعاد ظلم العباد .
ومن مظاهر الظلم احتجاب المسؤولين عن الجمهور ، فما من وال ، ولا وزير ، ولا مدير إلا وله مدير مكتب ، ومن وراء مدير هذا المكتب ، ثلة من السكرتيرات الحسان ممن يجدن الكذب ، ويحسنّ المراوغة ، فالمسؤول إمّا خارج البلاد ، وإمّا في اجتماع ، وإمّا في جولة داخل الوزارة ، ولا تدري – وهي سكرتيرته - إن كان سيعود إلى مكتبه أو عنده ارتباطات أخرى ، فاعجب ، وهل خُلقنا إلا لنعجب ! وربما كان المسؤول جالساً في مكتبه ، يسمع تحاوركما ، ولكنه مشغول بجوّاله ، يردّ على بعض المكالمات الخاصّة ، أو عنده شيخ ساحر دجًال ، يتوهّم أنه يستطيع أن يصرف عنه كيد رؤسائه ، فلا يتصرفون فيه بفصل ، أو نقل ، أو إحالة إلى المعاش ، والسحر والتفنن في استخداماته من أعظم الشرور ، و الأدواء الاجتماعية التي فشت في عهد الإنقاذ ، فكما فُتن الناس في عهد الإنقاذ في أمور معاشهم ، فُتنوا كذلك في عقائدهم ، والله المستعان .
وأما موظفو الدولة - من هم دون المدير ، فيظنون أنهم خلقوا من طينة غير الطينة التي خلق منها الجمهور الساعون إليهم من أجل قضاء حوائجهم ، وأنهم ما وضعوا في هذه الوظائف إلا لعلم فيهم ، و مزية كرمهم الله بها دون سائر خلقه ، ممّا يستوجب على العباد الخضوع لهم ، والرضا بما يجودون به عليهم من فضول أوقاتهم التي هي أوقات العمل ، وإذا كانت مهمة الموظفين في كل أنحاء الدنيا قضاء حوائج الناس ، وإنجاز معاملاتهم ، ومقابلتهم بوجه طلق ، فمهمة موظفي الخدمة المدنيّة في السودان تأجيل المعاملة ، فالموظّف يدقق في المعاملة لا للتأكد من صحة الاجراءات ، ولكن ليجد فيها ما يردك به على أعقابك صفر اليدين ، والويل لك والثبور لو راجعت هذا الوجه العابس المتجهم فيما يقول ، ولو على حياء .
لولا أني رأيت بعيني ، ووقع عليّ ما أقول ما صدّقته ، ففي آخر عطلة قضيتها في السودان ، وهي قبل ثلاثة أشهر ، ظللت أذرع الفضاء بين بيتي وبين ما يسمى بهيئة تشجيع الاستثمار - أو هكذا – بضعة وثلاثين يوماً من أجل تغيير خطأ مطبعي وقع في اسم صاحب مشروع استثماري ، رغم كثرة الأوراق الثبوتيّة المصاحبة للتصديق ، فانظر ، يا رعاك الله ، كيف يُشجع الاستثمار في السودان ! والغريب أنّ في مكاتب هذه الهيئة من وسائل راحة المستثمرين ، وتقنيات العمل ما لم أره في الولايات المتحدة إلا حديثاً ، ولكن آفة الخدمة المدنيّة في السودان هي فهم الموظّف لطبيعة العلاقة بينه وبين الجمهور، وانعكاس هذا الفهم على أدائه .
ما أردت بهذا الحديث إحصاء الظلامات وتفاصيلها ، بل قصدت الإشارة إلى الظلم على أنّه أحد التحديات التي تقابل الإنقاذ ، وأحد الثغور التي ربما تؤتى من قبلها . فلينتبه أهل الإنقاذ ، فإنّ الظلم ظلمات يوم القيامة ، و سنن الله جارية في الكون ، لا يردّها رادّ ، فليس لله في خلقه ثمّة قريب يحابيه ، وليتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منهم خاصّة ، وليتقوا يوماً يرجعون فيه إلى الله ثم توفّى كلّ نفس ما كسبت وهم لا يظلمون .
( 2 )
النزاع والشقاق
يستخدم العلماء كلمتي " الخلاف " و " الاختلاف " باعتبارهما من المترادف ، فتتعاوران وتتعاقبان ، وربما فرّقوا بينهما فجعلوا الاختلاف ينصب على الرأي ، والخلاف ينصب على الشخص ، كما أن الاختلاف لا يدل على القطيعة بل يدل على بداية الحوار ، وهو فطرة في البشر ، قال ابن القيّم في كتابه ( أعلام الموقّعين ) :"وقوع الاختلاف بين الناس أمر ضرروري لا بدّ منه لتفاوت أغراضهم ، وأفهامهم ، وقوى إدراكهم ، ولكن المذموم بغي بعضهم على بعض وعدوانه " .
لكل هذا تحاشيت أن أجعل كلمتي " الخلاف " و" الاختلاف " وما يحملان من ظلال ، عنواناً لهذا الداء من أدواء الإنقاذ ، ووقع اختياري على كلمتي " النزاع " و" الشقاق " لأنهما أدق تعبيراً ، وأوضح دلالة عمّا هو حادث بين الإسلاميين ، دعامة دولة الإنقاذ وأهلها الأدنين .
النزاع من الأدواء التي أهلكت الأمم الغابرة ، وأذهبت ريحها ، والله سبحانه وتعالى جعل المؤمنين إخوة " إنّما المؤمنون إخوة " وحذّرهم من النزاع والشقاق ، و تفرّق الكلمة ، ولكن أوّل ما أصاب الوهن الحركة الإسلاميّة في السودان أصابها في آصرة الأُخوّة ، إذ انتقضت عرى الأخوّة بينهم عروة عروة ، وتفرقوا بعد أُلفة ، وتدابروا بعد أجتماع .
ورغم أنّ النزاع بين الحركات الإسلاميّة قد حدث في مختلف بلدان العالم من قبل إلا أن ما حدث في السودان قد بلغ زباه ، وجاوز مداه ، إذ انقلب القوم على شيخهم ، وجردوه من كلّ مناصبه ، وتنكروا لسابق عطائه ، ثُمّ أودعوه السجن ، ولم يراعوا فيه إلّاً ولاذمّة ، ولم يقصّر الشيخ - وهو السياسي الألمعي الماهر – فقد كايدهم أيّما مكايدة ، وخاصمهم أيّما خصومة ، وكاد يكفّر بكل ما يجمعه بهم ، ولو كان من أصول الديانة !
وأعداء الإنقاذ من العلمانيين والشيوعيين وغيرهم من أحزاب المعارضة استفادوا من ذكاء الشيخ ، وعبقريّته السياسيّة ، وقدراته التنظيميّة ، ووفرة معلوماته عن الإنقاذ ، فأصابوا الحكومة في مقتل ، ولولاه ما استطاعوا ، ولا دروا أين طرفا هذه الحلقة المفرغة .
ثم دبّ النزاع بين القادة القائمين على أمر الدولة ، واتّخذ صوراً جهويّة ، وأشكالاً " شلليّة " ثم سرى النزاع بين أفراد الحركة الإسلامية من الفريقين ، وانتقل إلى العلاقات الاجتماعيّة والأسريّة ، وانتهى الود القديم ، و تغيرت أخلاق القوم ، وعُدَّ الباكون على آصرة الأخوة ، دراويش لا يعرفون متطلبات المرحلة ، و لا فقه إدارة الدولة الحديثة !
لن يصلح أمر الإنقاذ إلا بما صلح به أوّلها . وإن لم تقم الحركة الإسلاميّة ، لا الحكومة ولا المتورّطون في الخلاف ، بمبادرة جادة تسبر بها غور المشكلة، وتنتزع بها من الفريقين تنازلات أساسيّة تصلح بها ذات البين ، وتردّ بها الاعتبارات إلى أهلها ، فسيأكل الإنقاذ بنوها ، وتذهب ريح الحركة الإسلاميّة ، ولات ساعة مندم .
ولعل أنسب الإسلاميين للقيام بهذه المبادرة إسلاميو المهجر الذين تعج بهم الدول العربيّة والأعجميّة ، والذين عصمهم البعد عن الخوض في الفتنة ، ففيهم كتّاب ، ونظّار ، وصحفيّون ، وأصحاب فضل ، وأهل سبق . فلينهض خيارهم للقيام بهذه المهمّة ، وليحمل أخلصهم هذه الأمانة ، والله من وراء القصد .
( 3 )
الفساد
درج السودانيّون على اتّهام كلّ من يلي ولاية عليهم بالفساد ، فلم يسلم رئيس من رؤسائهم من لدن الزعيم الأزهري حتّى عمر البشير من هذه التّهمة ، بل يقال إنّ سبب قيام المهديّة هو اتّهام الحكّام الأتراك بالفساد ، ولم يفلحوا حتى الآن في إثبات هذا الفساد على مسؤول ، فهذا الفريق عبود اتّهموه بالفساد ، ونهب المال العام ، وقاموا يلعنونه في الطرقات ، ثم ظهر – وأنا شاهد على ذلك - بأنه من أطهر النّاس يداً ، وأبعدهم عن المال الحرام ، إذ ظلّ حتى أواخر السبعينيّات من القرن الماضي ، يدفع أقساط بناء بيته للمقاول أبي العلا.
وهذا الرئيس النميري الذي سُوّدت في اتّهامه بالفساد الصحائف ، وكتبت في سوءاته الأسفار ، و شيع عنه أنه قبض ملايين الدولارات ثمناً لترحيل الفلاشا ، لمّا عُزل عن منصبه لم يجد من أسباب العيش إلا صبابة يتبلّغ بها ، ولم يجد منزلاً يأوي إليه غير بيت عائلته الذي تربّى فيه في مدينة أم درمان ( حي ود نوباوي ) ، فانظر – يا رعاك الله - كيف تجني الخلافات السياسيّة على الحكّام وتدمّر سمعتهم !
ولكن الأمر في زمان دولة الإنقاذ يختلف ، فقد ظهرت الثروة ( البترول ) واطّلع النّاس عبر الفضائيات ، والهجرة ، والأسفار على أساليب العيش الرغيد ، فما وجد أصحاب النفوس الضعيفة ، من ذوي الدخل المحدود ، وسيلة إلى تحقيق طموحاتهم في رغد العيش غير الرشاوى ، و الاعتداء على المال العام ، وابتُلي بعض عمّال الدولة بما استُحفظوا من المال ، فمنهم من صبر على الابتلاء واجتاز الاختبار ، ومنهم من غرّته الدّنيا ، وسقط في المستنقع الآسن .
والفساد في عهد الإنقاذ ليس حديث معارضة فحسب ، بل هو حديث الحكومة نفسها ، وشهادة المراجع العام أمام البرلمان ، كما أنّ الواقع يثبته ، فقد تطاول صغار الموظفين في البنيان ، واشتروا الأثاث الجميل ، وركبوا السيّارات الفخمة ، وتزوّجوا مثنى وثلاث ورباع ، وفي كلّ حي يتحدث الناس عمن أثروا حديث الريبة ويسمّونهم ، ثُمّ لا تجدهم إلا ضباطاً صغاراً ، أو موظفين في مناصب مغرية لا ينبغي أن يشغلها إلا الحفيظ الأمين . واعتراف الحكومة بالفساد خطوة مهمّة في بدء العمل لاجتثاثه .
والفساد نفسه - قلّ أوكثر - يحدث ولكن العيب كل العيب أن تدافع الحكومة عن المفسدين أو تبرّر فسادهم ، فقد سمعت أكثر من مسؤول : مرّة في واشنطن ، وأخرى في الخرطوم يطالب الناس بالدليل على الفساد ! هل تطالب الحكومة الناس بالدليل وعندها من أجهزة الأمن ما عندها ؟! أليس مراقبة الفساد وكشف المفسدين من عمل أجهزة الأمن ! ؟
الحكومات الجادة تأخذ أي حديث عن الفساد مأخذ الجد ، وتحقّق فيه ؛ لأنه الحالقة التي تحلق الأنظمة ، وّاذا حامت شبهة الفساد حول مسؤول ، وكثر الحديث عنه ، عزلته عن منصبه بغض النظر عن صحة ما شيع أو بطلانه ، فلا ينبغي أن تضحي الدولة بسمعتها من أجل موظّف مهما كانت كفءته . كتب عمر بن عبد العزيز ، رحمه الله ، إلى عامل من عمّاله فقال له : "قد كثر شاكوك ، وقلّ شاكروك ، فإما عدلت ، وإمّا اعتزلت والسلام ". واشتكت سوادة بنت عمارة الهمدانية الوالي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فعزله وقال : "اللهم أنت الشاهد عليّ أني لم آمرهم بظلم خلقك " .
وحكومة الإنقاذ تعترف بالفساد ولكنها عاجزة – عجز القادرين - عن محاربته ؛ لأنّ المفسدين يحيطون بها إحاطة السوار بالمعصم ، و يتربصون بكلّ مصلح ، فما ظهرت محاولة جادة لمحاربة الفساد ، وفرح الناس بها ، إلا قُتلوها في مهدها ، وقالوا ما شهدنا مهلكها ، أو جعلوا من هذه المحاولة نفسها مطيّة لفساد آخر والله المستعان .
والنّاس لا يطمعون في ذهاب الفساد جملة ، فهذا مطلب عزيز ، ولكنهم يطمعون أن يروا جديّة الحكومة في محاربته ، فليكوّن الرئيس لجنة محايدة ذات صلاحيّات واسعة من القانونيين ، والإداريين ، والشحصيّات العامة ، و السياسيّين المشهود لهم بالكفاءة ، والنزاهة ، والغيرة على الوطن ، تكون مهمتها تقديم تصور عن مظاهر الفساد في جميع مرافق الدولة ، ثم تطلق يدها في اقتراح الحلول وتنفيذها ، فإنهم إن لم يغلبوا على أمرهم ، طهّروا البلاد من الفساد ، وشفوا صدور العباد ، وقضوا على هذا الداء ، فإن لم يفعلوا عذر النّاس الرئيس ، وقالوا قد بذل جهده .
( 4 )
الاستهانة بالعدو
المتأمّل في الحروب الحديثة ، يلاحظ أن الغازي يمهّد لغزوه بحملة إعلاميّة كبيرة ، يعلي فيها من شأن البلد المغزو، ويبالغ في بيان عظم قوّته العسكريّة والاقتصاديّة ، ويوقع في روع العالم أنه خطر على الانسانيّة و السلام العالمي ، كما فعلت الولايات المتحدة في غزوها العراق ، فقد أعلت من شأن العراق ، وشأن النظام الحاكم فيه حتى ظنت شعوب العالم ، وظنّ جنودها هي ، أنه يكافيء الولايات المتحدة في قوّته العسكريّة والاقتصاديّة . فإعلاء شأن العدو دهاء سياسي قُصد منه ألا يجد المستضعفون تعاطفاً من شعوب العالم التي غالباً ما تستنكر غزو القوي الضعيف ، كما أنه تحسّب للمفاجآت ، فربما مُني الغازي بالهزيمة ، أو نيل منه ، فإن حدث ذلك ، كان أخف وطأة على معنويّات جنوده ، وأصون لكرامتهم ، فالهزيمة على يد القويّ ، أهون على النفس منها على يد الضعيف .
وأهل الإنقاذ يفعلون عكس ما يفعله دهاة العالم ، إذ تأخذ بعضهم سكرة الحكم ، ويستبدّ بهم الكبر ، فيقللون من شأن العدو ، ويستهينون به ، ويصوّرونه بأنه أتفه من أن يكون موضع اهتمامهم ، ممّا يجعل العالم يتعاطف معه ، وربما رفضوا التفاوض معه ، ثم اضطروا آخر الأمر إلى قبول ما رفضوه من قبل ، فيدخلون المفاوضات ، وهم أضعف موقفاً .
والأمثلة على ما أقول كثيرة ، ولكني ما أردت تعداد إخفاقات النظام ، فهي عدد الحصى ، وإنّما أردت الإشارة إلى الفتوق في ثوب دولة الإنقاذ ، وبيان الثغور التي يمكن أن تؤتى من قبلها .
( 5 )
بطانة السوء
جاء في الحديث النبويّ : " ما بعث الله من نبيّ ولا استخلف من خليفة إلا له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه ، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه ، فالمعصوم من عصمه الله تعالي " ، وبطانة السوء هم أحد اسباب تمادي الطغاة في طغيانهم ، جاء في ( أنيس الجليس ) : "إنّ السلطان إذا كان صالحاً ، ووزراؤه وزراء سوء ، منعوا خيره فلا يقدر أحد أن يدنو منه ، ومثله في ذلك مثل الماء الطيّب الذي فيه التماسيح لا يقدر أحد أن يتناوله ، وإن كان إلى الماء محتاجاً، وإنما الملك زينته أن يكون جنوده ووزراؤه ذوي صلاح فيسددون أحوال الناس ، وينظرون في صلاحهم " .
ولبطانة السوء أساليب في إفساد السلطان : فهم يمنعونه من رؤية الحقيقة ، ويزيّنون له الباطل ، و يطلبون رضاه بكل وسيلة ، ويتملقونه ، ويميلون قلبه إليهم بالمدح الكاذب ،حرصاً على الاستوزار أو طمعاً في ديمومته :" ستحرصون على الإمارة ، ثم تكون حسرة وندامة يوم القيامة ، فنعمت المرضعة ، وبئست الفاطمة "
ورئيس دولة الانقاذ مثله مثل غيره من الرؤساء والحكام ، تحيطه – تصديقاً لقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم - بطانة السوء لا محالة ، والرئيس العاقل من يتأسّى بالنبي صلى الله عليه وسلّم ، فينظر فيمن حوله ، ليميز الخبيث من الطيَب ، ولا يتردد في عزل من بانت عليه أعراض البطانة السيئة .
( 6 )
النعرات الثقافيّة
السودان بلد متعدّد الثقافات ، ففيه من العقائد ، والأعراق ، واللغات ما يكدّ ذهن العادّ ، ورغم هيمنة ما يسمّى بالثقافة العربيّة ، واعتبار اللغة العربيّة اللغة الرسميّة ، ولغة التعليم ودواوين الدولة إلا أن هذه الثقافات المتنوعة تجد الحريّة في التعبير عن نفسها ، فالقبائل غير العربيّة تحتفظ بلغاتها وتتحدثها دون مضايقة من جهة رسميّة أو غير رسميّة ، كما تعبّر عن مظاهرها الثقافيّة الأخرى بكل أشكال التعبير ,
والذي مكّن للثقافة العربيّة ، وكتب لها القبول بين قبائل السودان كافة ، أنّ الدين الإسلامي الغالب على أهل السودان ، لا يحارب أيّ نمط ثقافي لا يتعارض مع عقيدة التوحيد ، فشعوب العالم الإسلامي تعجّ بأنماط الثقافات ، وأنّ القبائل غير العربيّة المسلمة ، تعدّ تمثل الثقافة العربيّة ، وتعلّم اللغة العربيّة من دين الإسلام.
ولكن هذه القناعات قد اهتزت في ظل تنامي القوميّات ، وضعف الوازع الديني ، ممّا يحتم على الدول ذات التعدد الثقافي ، أن تعيد النظر في مناهجها الدراسيّة ؛ لتجد كلّ الثقافات حظها من التعبير عن نفسها ، ولا يكون ذلك إلا عبر مناهج اللغات والعلوم الاجتماعيّة (التاريخ ، والجغرافية ، والاجتماع ) ، فيفسح لكلّ مكوّن ثقافي غالب في كل ولاية جزءاً من المنهج الدراسي القومي ، ولا يعني هذا التفريط في قوميّة المنهج ، ولكن يعني تقليص المنهج القومي إلى 75% وإعطاء ال25% لهذه المكوّنات الثقافيّة المختلفة ، بمعنى أن يكون لكل ولاية نسبة 25% من المنهج القومي تعبّر فيه عن خصوصيّاتها الثقافيّة ، وهذا أيضاّ يقتضي إعادة النظر في امتحان الشهادة السودانيّة .
يضيق هذا المقال عن تفصيل هذه الفكرة ، وربما أفردت لها مقالاً ، ولكنها على كل حال ، دعوة للتأمل فيها ، والعمل على تطبيقها ، فلعلها تشفي ما في الصدور ، وتوقف الاحتراب ، فقد صارت أغلب الحروب في العالم حروباً ثقافيّة .
هذا وأود أن أنبّه هؤلاء الذين يقرأون بنصف عين ، وأولئك الذين لايحسنون قراءة مابين السطور ، أنّ هذا المقال لم يكتب لإدانة الإنقاذ ، فليس لكاتب هذه السطور خيار غيرها كما بيّن في أوّل المقال ، فحكومة الإنقاذ ورئيسها البشير خير ممّا يدعوننا إليه ، ولكن هذه نصيحة حادب ، ودعوة إلى سدّ الثغور .
Hashim Muheldein [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.