كادت اللغة أن تكون مرادفة للهوية " فهي أهم وسيلة للحفاظ على الهوية الثقافية، والمكون الأساسي لها، وقد أعلنت الكنيسة أن الولاء اللغوي يعد شأنا من شؤون الإيمان، محاولة منها أن تواصل سيطرتها على رعاياها بواسطة الشعار المشهور "من يفقد لغته يفقد إيمانه". وقد أشارت الدراسات المتعددة إلى اثر اللغة الواحدة في تقوية الإحساس بالهوية القومية والولاء، لذلك كانت لغة الأمة هي الهدف الأول للمستعمرين تعمل جاهدة على قتلها لنشر لغاتها وبث ثقافاتها، لطمس الذاتية الإفريقية واللغات واللهجات الأفريقية كثيرة ، منها المكتوب وغير المكتوب ، ويكفي أن نعرف أنه قد أحصيت " أكثر من 600 لغة يتحدثها سكان القارة ، فضلا عن آلاف اللهجات التي لا يتكلمها أحيانا إلا مجموعات قليلة تحسب بالمئات. ولنشر على سبيل المثال إلى 350 لغة في زائير، بينها 4 لغات فقط يتحدثها عدد كبير من سكان البلد هي : السواحيلية – لينغالا – الكيكونغو – تشيليبا . وفي غانا تم إحصاء ما بين 47 و 62 لغة وأكثر من 800 لهجة . وهناك 150 لغة صغيرة في نيجيريا، و 72 لغة في ساحل العاج، و 62 لغة في الكاميرون ".. لذا فإن اللغة إذا كانت مرادفة للهوية فإن الهوية الإفريقية من الصعب إن لم يكن من المستحيل وضعها في إطار معين. كما أن كل تلك اللغات وما تحتضنه من ثقافات وأساطير ورموز وروايات وأشعار وحكايات شعبية و أمثال وحكم ... تؤلف مجتمعة نسيج هذا الأدب الإفريقي غير العربي وتحدد هويته ووحدته الكلية الكبرى ؛ وهذا ما أحسن التعبير عنه الروائي النيجيري ( نشينوا إتشيبي ) في قوله " لا يمكن أن تحشر الأدب الإفريقي في تعريف صغير محكم ... فأنا لا أرى الأدب الإفريقي كوحدة واحدة وإنما أراه كمجموعة من الوحدات المرتبطة تعني في الحقيقة المجموع الكلي للآداب "القومية" و "العرقية" في إفريقيا ". والحديث عن الأدب الإفريقي تندرج تحته عدة إشكالات متصلة بمسألة اللغة التي ينتج بها الأديب عمله. وبما أن اللغات هي الحدود الفاصلة بين الآداب، فالشاعر أو الكاتب تابع للغة التي ينتج وينشر بها، وينسب إليها أعماله – بغض النظر عن جنسه- إلى آداب تلك اللغة، فالكاتب باللغة الفرنسية وإن كان انجليزيا يعد أدبه فرنسيا، والشاعر باللغة الإنجليزية وإن كان ألمانيا يعد أدبه انجليزيا، وقد نلقى في التراث العربي أمثلة ناصعة لهذه الصورة( [1]). وهذه المعادلة تعني أن الأدب الفرنسي هو الأدب المكتوب باللغة الفرنسية ، والأدب الياباني هو المكتوب باللغة اليابانية، وكذا الأدب الروسي، ولكننا في ظل التعرض للأدب الإفريقي تواجهنا عدة قنوات لغوية علاقة بعضها بالأخرى كعلاقة الفرنسية بالروسية، فالقارة الإفريقية تعج بمئات اللغات بلغ بها بعض اللغويين إلى ما بين 1300 إلى 1500 لغة، وكل واحدة من هذه اللغات مشحونة بالفنون الأدبية التقليدية من شعر وأسطورة وأمثال..الخ، أضف إلى ذلك لغات الاستعمار الوافدة مع المد الغربي خلال القرن التاسع عشر على إفريقيا وتبناها ملايين البشر كلغة ثقافة وتعبير. إن الإنسان لا يفكر مجردا، بل من الناحية العملية يفكر بلغة ما، وبالتالي اختلاف اللغة يوهم بفكرة تباين الآداب والثقافات. فالأدب الإفريقي لم يطلق عشوائيا دون مراعاة محاور مشتركة، ومجالات جامعة لمنتجي فنونه، وصحيح أن اللغة لا تشكل بناية هذا الأدب، لكن مضمون هذا الأدب الذي يترجم مشاعر مشتركة، وأنماطا متناسقة تواترت عليها حياة هذه الشعوب في كل فصول التاريخ هو معيار هذا الأدب، وقبل أن يبرز الاهتمام بالأدب الإفريقي دأب المثقفون الأفارقة القاطنون في القارة أو المقيمون في مهاجر الغرب الأطلسي على استعمال عبارة الجامعة الإفريقية أو الرابطة الإفريقية (بان أفريكا نزم ) للتعبير عن مفاهيم مشتركة، وشعور تاريخي موحد يتعدى الأدب والتاريخ ليضرب في كيان التراث الإفريقي الذي يجمعهم والذي شاركوا جميعا في تحمل تبعاته إبان طروء الاستعمار. وعلى نفس هذه المرتكزات الثقافية نهض أيضا اتجاه الزنوجة Negritude بحركتيها الفنية والسياسية، ويظهر ذلك في تعريف أحد قادتها لها وهو الرئيس الشاعر: ليوو بولد سيدار سنغور: بأنها: (أي الزنوجة) " مجموع القيم الثقافية في عالم الشعوب السوداء، والتي يعبرون بها عن أوجه الحياة، أعني مؤسسات ومعطيات هذه الشعوب". وينزاح الغبار عن فلسفة هذه المسميات عند الدكتور/ شيخ أنتا جوب الذي يؤثر استخدام الشخصية الثقافية بدل المصطلحين السابقين للتعبير عما يجمع الأفارقة. وقد وضع دكتور/ جوب هذا المحور التراثي المشترك بين الأفريقيين في كتابه الشهير (الوحدة الثقافية لأفريقيا السوداء)، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بأن هذه الخطوط العريضة المشتركة بين الأفريقيين ليست فقط حكرا للكلام عن الأدب والشخصية والثقافة، لكن يجب أن تكون أساسا لبناء الوحدة السياسية في أفريقيا بمعنى أن تكون مرتكزا لحكومة اتحادية تنشأ للولايات المتحدة الأفريقية، وصمم في ذلك مؤلفا في هذا المجال أسماه (المقومات الاقتصادية والثقافية لدولة فيدرالية في أفريقيا السوداء). إذاً الأدب الإفريقي يخترق حاجز اللغة ليتشابك في هذه الفنون الأدبية التقليدية المتشابهة لدى جميع الشعوب الأفريقية، وهذه الفنون بمجملها تتعامل مع الطبيعة من حولها بحس مرهف وتخلق منها عالما معمورا بعناصر التأثير والتأثر. فهذه قصيدة بعنوان " السيدة الإفريقية" كمثال في الشعر الإفريقي للشاعر سنغور، ترتكز على قيم ثقافية عامة، تتذوق هذا اللون الأسود، وهذه المواصفات الشكلية المنطوية على هذا الحنان الطبيعي تجاه الإنسانية عموما: السيدة السوداء ما في لونك هو الحياة وكما في شكلك هو الجمال ترعرعت تحت ظلالك ورقة أيديك تعصب عيوني يا للروعة ! مع ظهيرة الحياة اكتشفتك. فهذه القصيدة تصلح مقارنة بقصيدة بائعة الزهور للشاعر السوداني/ محي الدين فارس، وهو الشاعر السوداني الوحيد الذي تناول القضايا الإفريقية بموضوعية ووعي في شعره ينم عن شعور صادق وإدراك تام لما يجري في هذه القارة، فلم يجامل في تمثل شعور غير صادق كما نجد عند الشاعر محمد المهدي المجذوب، ولم يكن شعره محاكاة لصدى الدعوة الزنجية كما فعل محمد الفيتو ري، فهو يصدر عن حس، ويغرف عن شعور فياض. ففي هذه القصيدة يصور سيدة إفريقية بائسة تقتات ببيع الزهور إلى الأوربي المستغل ويبشرها الشاعر بتنفس صبح جديد: كم تحجبين لفح الجراحات العميقة والأنين في بسمة قلبية الإشراق ساذجة حنون كم تبسمين وتوجهين كآبة الآمال دكناء الحوافي لكنما الغد في ضمير الليل يا سمراء يكبر كالجنين وغدا تهون ويطل فجر الكادحين، يطل من خلف الدجون ويشق جدران السجون وتعود أفراح الحياة تعود مورقة الغصون الصادق محمد آدم جامعة النيل الأزرق – كلية التربية Alsadig Mohammed Adam [[email protected]] ///////////////