عادة ما تنطلق البرامج السياسية مما يستقر لدى النظام عن محددات للأمة موضوع التعاقد السياسى والاجتماعى من الناحية الجيوبوليتيكية والفكرية ، ومبادئ الحكم . ..الخ ، لكن "مشروع النهضة " الذى يطرحه الإخوان المسلمون وحزبهم : " الحرية والعدالة " وتقدم به الدكتور محمد مرسى لتولى الرئاسة وشئون الحكم يقول منذ فقراته الأولى " انه ينطلق من الفهم الوسطى الشامل للشريعة الاسلامية .... وليتم التطبيق الصحيح لها ...والذى لايمكن بدونه أن نحقق أى حضارة أو تقدم " ... " كما أن مشروع النهضة يعمل على النهوض بالوطن وتهيئة المجتمع للتطبيق العملى لمبادئ الشريعة الاسلامية "... والحق أنه ليس مألوفا أن تبنى دساتير الأمم ومنطلقاتها على أساس من "تشريع دينى "معين بهذا الشكل المباشر ، لأن ذلك سيخضع كل السياسات لهذاالاطار وحده ، بينما هى موضع لتطورات و لخيارات الأمة ككل وليس فصيل واحد ، وكان ذلك سيأتى عبر دستور مازال موضع حوار مفروض أنه " .. ديمقراطى ". بل ان المشروع نفسه ينص فى مناطق أخرى على أن الشعب مصدر السلطات .. ومن ناحية أخرى فإن صياغة مقدمات مثل هذه المشاريع هى التى تتصل بهوية الأمة مباشرة . ومهما كان رأى " الاخوان المسلمين" فإنهم كانوا مطالبين أن يطرحوا هذه "المحددات" للاختيار ، لا أن يُضمر الاعلان أنها " إسلامية "فحسب ، متجاهلا العروبة والأفريقانية ومبادئ التحديث فى صلب ،محددات الهوية . وقد كان ذلك يوفر علينا جميعا الارتباك الذى تحدثه أولى فقرات باب " المرجعية الاسلامية " عن " الدولة الوطنية الدستورية " ونفى الثيوقراطية ( حسب تعبيره) ..." والأمة كمصدر للسلطات" . بينما الواقع أن " الأمة" عندهم عالمية ومشروعيتها من " الشريعة " وليس من أى دستور أرضى وطنى ، ولعل ذلك وراء غياب أى حديث عن " الدستور" أساسا فى المشروع ، كما أن" منظومة القيم الدينية الأصيلة ..."التى ستحدد الحريات السياسية والاجتماعية " أصبحت هى المصدرالثقافى لوضع محددات الامة فى ظل غياب أية فقرة فى المشروع عن الثقافة والإعلام بما كان يتيح صياغة المنطلقات الأساسية أو يكشفها أمامنا . و يواصل المشروع ترتيبه للأولويات فى البرنامج لينتقل لايضاح مفاهيمه البرجماتية بل والرأسمالية الانفتاحية مباشرة فى أبواب عن "نظام الحكم ، والعدالة الاجتماعية ، والتنمية البشرية الشاملة ، والتعليم والاقتصاد التنموى ...الخ " حتى يصل إلى السياسة الخارجية ، التى يضعها تحت عنوان" الريادة الخارجية " ! وهنا يستعرض المشروع مهاراته للالتفاف حول ما جمع فيه عن " متاهة السياسة الخارجية ...خلال العقود الماضية " دون تحديد لأية فوارق فى هذه "العقود" ، ليعلن عن " استعادة الوطن " ! ، ومن قبل تحدث عن " إعادة تشكيل الأمة" (ص6) ، وهى إشارات ملفتة لفكرة إحتواء الأمة بالمنهج الاخوانى الشائع بين السطور، لتتناسب السيا سة الخارجية مع" طبيعة الأمة وإمكاناتها كدولة محورية مهمة على المستوى العربى والأفريقى والاسلامى والدولى ..". ثم سرعان ما يتحدث فى مطلع فصل "الريادة" هذا (ص73) عن " الموازنة بين دوائر الانتماء المختلفة ، وإحياء الدور الاقليمى لمصر...والانقتاح على جميع الدول ...بعيدا عن التبعية للقوى الدولية أو التهاون فى المصالح المصرية " ...وهذه مدركات عامة نشتم منها طبيعة "التوازن " المشار إليه ، ولكنها ستصطدم مباشرة مع مفاهيمها العملية تباعا. ينتقل المشروع مباشرة إلى الدوائر "الريادية " ، ويبدأ بالعربية (ص74) ثم الأفريقية ثم الاسلامية ليعقبها الحديث عن العلاقات المصرية الأمريكية ، ثم العلاقات المصرية الأوربية لتتأخر المصرية الآسيوية ، تعقبها باقى دول العالم. أ- تبدأ الفقرة الأولى فى "دائرة الانتماء العربية " (ص74) ب " تأييد الشعب الفلسطينى فى نضاله المشروع لنيل حقوقه وبناء دولته وتحرير أراضيه ودعم مواقفه على الساحة الدولية ."...وهو هنا يهرب من كل مفردات العصر الواجبةالتحديد ، حول حدود هذه الدولة الفلسطينية ، أو منهج النضال ، أو طبيعة الوضع الر اهن فى فلسطين والظروف الاقليمية والدولية المحيطة به. ب- والقضية الكبرى التى تواجه هذا البرنامج ، ويتوجب مساءلة حكومته الجديدة بشأنها ، هى أنه لم يذكر لمرة واحدة فى البرنامج كله كلمة " المشروع الصهيونى" أو "اسرائيل" أو "الصراع العربى الاسرائيلى " أو اتفاق كامب ديفيد ، أو طبيعة التحديات أمام حركة النضال الفلسطينى " أو "مسألة استكمال السيادة المصرية على سيناء" ...!! ولا مرة واحدة ! و هذا ما قد يفسر فساد الموقف من برقية الرئيس الاسرائيلى ! . ولأن المشروع يقوم على هذا التجاهل فى جوهر " الدائرة العربية " فإنه لايذكر أى شيئ عن المشروعات الأجنبية الامبريالية فى المنطقة ، ولا مصير "التوحد العربى " أو اتفاقات الدفاع المشترك " ، مكتفيا " باصلاح جامعة الدول العربية ". وكأن المشروع لايعى حجم التحديات المدمرة التى يتعرض لها الوطن العربى ، ولا الواجبات المسئولة على مصر الجديدة .... ج- الفقرة الثانية مباشرة فى الدائرة العربية بعد فلسطين المذكورة " تأتى عن " تدعيم وتقوية العلاقات مع دول مجلس التعاون الخليجى ، وإحياء التعاون السياسى والاقتصادى (معه) ......الخ ، ثم يعيد المشروع التأكيد بخصوصية العلاقة مع دول الخليج عند الحديث عن " الانفتاح على كافة الدول العربية " !! ولا يحتاج الأمرإلى تعقيب حيث الامتداد الأولى للاخوان المسلمين فى الخليج كرأسمال واستثمار وليس كنقطة استراتيجية ، لحماية الأمن القومى ومواجهة التدخلات الأجنبية فيه ... د- تأتى بعد ذلك السودان فى إطار الشراكة الاقتصادية واتفاقية الحريات الأربع ، دون ذكر أية أبعاد للشراكة مع هذه الدولة الهامة بما يبدو هروبا من تحديد طبيعة العلاقة مع النظام المشترك " للانقاذ الاسلامى"! مع أن مصطلحات المشروع الحضارىوالنهضة من منتجات الإنقاذ المبكرة! ه- فى دائرة الانتماء الافريقى ، ينطلق المشروع كما فى الدوائر المختلفة من أبعاد برجماتية مباشرة لاتحمل توجها معمقا للعمل بعيد المدى ، فيشير مباشرة إلى " تنظيم خطة دبلوماسية وإعلامية واسعة النطاق على المستوى الرسمى والشعبى " ويحدد الاهتمام بمنطقة حوض النيل والقرن الافريقى وتأمين حصة مصر من مياه النيل ، وتعزيز العلاقات الاقتصادية . وإعادة إحياء الدور المصرى ..من خلال دعم " التنمية الافريقية" ....وهذه الكلمات الرنانة عادة لا تحمل توجها محددا حول صيغة العمل الأفريقى مع" الاتحاد" أو القوى الاقليمية البازغة فى القارة ، أو قضايا التدخل الاجنبى الصارخة فى الصحراء الكبرى والقرن الأفر يقى و بما ينال مباشرة من الجوار العربى الافريقى . وهذه هى توجهات العمل الافريقى الذى نتصوره وليس مجرد لغة البيانات السياسية المألوفة . وما أخشاه أن تتوقف حكومة " قنديل" بمثل هذا المشروع عند حدود مياه النيل ، وليس مجمل العلاقات المصرية الأفريقية التاريخية . و- فى دائرة الانتماء الاسلامية (الثالثة ) تظهر بشكل أكبر حقيقة "المشروع الاسلامى" فهو يلجأ مباشرة إلى احياء دور " منظمة المؤتمر الاسلامى " فى قضايا العالم الاسلامى وغيره ، وللتنسيق مع الدول الاسلامية فى قيادة نشاط المنظمة ، والتواصل مع شعوب الدول الاسلا مية " ، وهذه اللغة الحية فى الحديث عن منظمة المؤتمر الاسلامى تبدو أعلى بكثير مما نعرفه عن هذه المنظمة وواقعها الدولى إلا أن يكون المشروع الاسلامى – الرأسمالى والسياسى – هو المدفوع بقوة على يد تنظيم مركزى وأممى مثل الاخوان المسلمين لتحريك هذه المنظمة أو الهروب إليها من أى أدوار أخرى ، لأن السعودية والخليج لم يروا فيها كل هذه الامكانية ، وحيث مكانتهم فى نظام العولمة مباشرة . وقد تكشف بقية عناصر الفقرة عن محاور هذا الانحسار لأنها تتركز فقط على العلاقات المصرية التركية ، فى المجال الأمنى والعسكرى ، و المصرية الماليزية وخاصة تجربة النهضة الماليزية . والغريب أن المشروع يعزل حديثه الخاص عن تركيا وماليزيا ، عن العلاقات المصرية الآسيوية ، ومع أمريكا اللاتينية ليضع بينها العلاقات المصرية الأمريكية والأوربية .... أى أنه حريص على صياغة معينة مع الاتراك والماليزيين كواجهة اسلامية فى منظمة المؤتمر الاسلامى ، والتجاهل – مرة أخرى _ للقضايا الكبرى فى ساحات العالم الثالث الآسيوية والدولية ، ويصبح الحديث الدولى فقط عاما عن رفض التبعية أو التعاون التقنى أو مشروعات " البرلمان الأورومتوسطى . فمع اشارته للاستقلال عن "الأجندات الأمريكية " فى علاقاتها الدولية وقصر الحديث عن العلاقات الثنائية ، فإننا لانشعر أننا أمام نظام وطنى يتحدث عما فرضته هذه الاجندات الامريكية " من مشروعات التبعية كالشرق أوسطية ، ومعارك الإرهاب الوهمية أو المواجهة غير المفهومة مع إيران ، إلا فى إطار حماية إسرائيل ....الخ ..مثل هذه القضايا الكلية لاترد أبدا فى ذهن واضع المشروع . ز- لاينشغل واضع المشروع كما رأينا بأية قضية عامة عن "وضع مصر فى العالم" بأية صيغة إلا أنها فى الواقع فى العالم الاسلامى وشريعته ونهضته بنهجه بشكل أساسى . لذلك لاترد كلمات عن سياسات " عدم الانحياز" أو :" السلوك الدولى المتوازن " أو "مجموعة الدول النامية " أو "السبعة وسبعين التى أسستها مصر منذ الستينات ، والتى أصبح معظمها يسعى إلى أن يكون من مجموعة العشرين ، أو عضوية مجلس الأمن الدائمة... ما نخشاه أن تمضى الحكومة التى كونتها جمعية أهلية ، وأممية فى نفس الوقت ، مثل جمعية الاخوان المسلمين ، وفق سياسة تقوم على الاتفاقات والمساومات السرية وحدها ، وجوهر محورها " تمركز رأسمالى " و عولمى"، تملكه زعامات الجماعة الحقيقية بالفعل ، ويتحرك بالاساس خارج الدائرة الوطنية الاقليمية ، ويسعى بالطبع إلى علاقات تقنية تبادلية فى أحسن أحواله و تعريض البلاد إلى "توافقات " دولية لانعرف مداها ، وإن كان الوفاق" العسكرى" و "الاخوانى " فى تشكيل حكومة هشام قنديل لايكشف عن أى خطط للتحدى الواجب، هنا تصبح مصر " دولة قطرية " فى مشروع أممى ، لاتنتج سياساته حركة شعبية وطنية أصيلة . hsharawy [[email protected]]