قبل أن أشرع في حكاوي الساعات التي قضيتها طائفا بشوارع وأزقة المدن الثلاث، متسقطا أخبار الإنقلاب، أود أن أخطركم بما جرى بعد نشر الحلقة الأولى. كنت قد التقيت بخلق كثير في تلك الساعات الأولى من الصباح وعلى مدار يوم الإنقلاب. بعض هؤلاء قرأ ما كتبت في الحلقة الأولى فجاءني مسرعا محذرا من التفوه بكلمة في شأنه, آخرون اتصلوا ورجوني(أن أخليها مستورة) لأنهم تركوا السياسة ودخلوا السوق. بعض الذين لم أتذكرهم أصلا ذكّروني بدروهم العظيم في ذلك اليوم المشهود، وأشاروا لتفاصيل لقاءاتي معهم فى ذلك اليوم فاحسست أنهم يرغبون في إبراز الادوارالتي لعبوها والتضحيات التي بذلوها وطلعوا ملوص ( زي ماقال أحدهم) لعل الجماعة الذين نسوهم في (الخور) يتذكرونهم الآن. وهيهات. (1) من يومها عرفت أن ود الفكي في ذلك الصباح تحديدا كان في “دافنة الحقبة الديمقراطية". كنت أظن أنه ديمقراطي مستنير طلع انقلابي خطير. إن بعض الظن إثم!!.الحقيقة,... إن ديمقراطيين كثرٌ اليوم قابلتهم يمتطون الكلاشنكوف والسيارت ويقودون المصفحة!!. علمت من الأستاذ محبوب عبد السلام الذي كان بباريس يومها، أن الأستاذ علي عثمان كان قد دعى ماجد يوسف ( الأمين العام لمفوضية الدستور الآن) في صباح ذلك اليوم الأغر للإفطار معه الساعة العاشرة صباحا تحديدا وقت اذاعة البيان الاول أي حين كان الاستاذ علي عثمان يتغدى بالقوى السياسية، أفطر ماجد بمقلب لطيف. تستاهل. (2) غادر الصديقان محمد طه والمطيب امتداد ناصر صوب صحيفة الراية التي كان مقرها بنمرة 2 . كان هدفهما أخذ متعلقاتهما الشخصية من الصحيفة، قبل أن يسيطر عليها جماعتهم من الإنقلابيين.عرفت بعد ذلك أنهم وصلوا الى دار الصحيفة “وكانت خلا". لمموا ما استطاعوا من أدراجهم وهموا بالمغادرة فى تلك اللحظة تم القبض عليهم واطلق سراحهم بصعوبة فعادوا أدراجهم يبحثون عني. (3) أنا كنت في شأن آخر. إذ توجهت الى منزل أحمد سليمان( أبو سلمون كما كنا ندعوه) بالمنشية. كان منزل أحمد سليمان قبلتنا في الأمسيات وكانت داره شبيهة بمنزل ومسطبة استاذنا محمد علي حامد اليوم با متداد ناصر، إذ نتطوف عليهما فنستمع الى التحليلات السياسية واخبار دهاليز المدينة والتعليقات على الصحف. كان “ابوسلمون" نجما فى سماء الديمقراطية الثالثة كما كان فى الاولى والثانية. سنفتقدة فى الرابعة ( الرابعة واقعة.. زمان زمن الورق كانت الثالثة واقعة). لم أعرف شخصية احتفظت بنجوميتها وبريقها خمسين عاما كما أحمد سليمان. ما دفعني للتوجه لمنزل الاستاذ هو ما كان يقوله لي باستمرار (الإنقلاب قرّب)!! وحينما كنت أسأله عن من (سيقلبها) لايزيد عن كلمة... اصبر!! في آخر مرة يبدو أن صبري وصبره نفد فقلت له منو يا أستاذ؟ “اصبر حن...."!! رحمة الله عليه كان له عبارات خاصة لايمكن ان تكتب هنا!! المهم عرفت من هذه الكلمة انهم (هم) من سيفعلون ذلك!!.فذهبت لاسمع حكايات الإنقلاب منه، اذن لابد انه يعرف التفاصيل والمعلومات الدقيقة. الغريب أن كثيرين بعد ذلك ممن كانوا داخل مطبخ الانقلاب قالوا لى إن أحمد سليمان كان برة الشبكة في الانقلاب. يقيني أن أحمد سليمان كان لدية معلومات من مصدر قريب أظنة الترابي شخصيا. (4) وصلت منزل أحمد سليمان دغش والدنيا (لسا صانة) وجدت الباب موارب دفرت الباب وخشيت ( أنا ما شي راجع لي بيوت تفتحلي ادق أو ما أدق من غير تقول الزول منو ولا حتى عل الداعي خير لا مالك الجابك شنو بيوت بجيهن أي يوم ان جيت ليل ان جيت دغش طوالي ادفر الباب اخش) نعم ياحميد هذا وطن مدهش ونحن به مفتونون يريد الساسة ان يفسدوه علينا بألاعبيهم الصغيرة. في يوم كذاك الباب مفتوح ( باب منزل أحمد سليمان) تدفر تخش دون ان يوقفك احد ودون أن تحس بأنك مخطئ!!. بالداخل وجدت نعمية زوجة أحمد سليمان وهي ست فاضلة احتملتنا نحن الضيوف الدائمين الثقلاء على مائدة، وجلسات الامسيات فى نجيلة منزلها. اسقبلتني كعادتها باسمة، وعرفت أنني جئت اسأل عن الأستاذ، فقالت (طلع من بدري وماعارفاهو مشى وين).عرفت منها أن أحمد سليمان كان مجهز شنطة السجن ولم ينم فى تلك الليلة حتى الفجر، حين طرق أحدهم باب المنزل فقال لها (يانعمية امرقي الشنطة الجماعة جو يبدو إنو القصة باظت). ولكن الذي حدث هو أن أحد أقرباء نعيمة وهو طيار رجع من المطار، وجاء الى المنزل بالمنشية ليخطرهم بأن هناك انقلاب فى البلد. ومن لحظتها خرج أحمد سليمان بعربته لجهة غير معلومة. كانت نعيمة متأكدة أنه لم يعتقل، ولكن هي لاتعرف اين هو. أنا عرفت بعد دقائق. (5) غادرت منزل ابوسلمون الى منزل الترابي الذي لايبعد كثيرا عنه. لم أجد شيئا غير مالوف أمام المنزل ولكن أحدهم أشار عليّ بأن اتخارج من المنطقة، واضاف قائلا ولله ياستاذ (أحمد سليمان هسع جا هنا منعناهو يدخل!!) إذن أحمد سليمان كان هنا طيب أين هو الآن؟. قبل أن أغادر رأيت رجلا منسلا من المنزل ومسرعا الى عربة فارهة تخيلته دفع الله التوم، اذ كان جليسا دائما في صالون الترابي. ولكن بعد ذلك أنكر دفع الله أنه ذلك الرجل، وللتأكيد اخرج لي ورقة صغيرة من محفظتة بخط الترابي ينصحه فيها ان يغادر السودان قبل الثلاثين من يونيو وألا يعود إلا بعد أن يسمع خبر!!. قال لي بناءا على النصحية غادرت السودان الى الإمارات ولم أعد الابعد أن سمعت وعرفت وتأكدت أن صاحب النصحية هو صاحب الإنقلاب!!.حكمة والله وحكاية. (6)