أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    حذاري أن يكون خروج الدعم السريع من بيوت المواطنين هو أعلى سقف تفاوضي للجيش    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    نشطاء قحت والعملاء شذاذ الافاق باعوا دماء وارواح واعراض اهل السودان مقابل الدرهم والدولار    لم يقنعني تبرير مراسل العربية أسباب إرتدائه الكدمول    وزير الخارجية السوداني الجديد حسين عوض.. السفير الذي لم تقبله لندن!    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    شاهد بالفيديو.. بعد فترة من الغياب.. الراقصة آية أفرو تعود لإشعال مواقع التواصل الاجتماعي بوصلة رقص مثيرة على أنغام (بت قطعة من سكر)    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    ترتيبات لعقد مؤتمر تأهيل وإعادة إعمار الصناعات السودانية    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. فتاة تنضم لقوات الدعم السريع وتتوسط الجنود بالمناقل وتوجه رسالة لقائدها "قجة" والجمهور يسخر: (شكلها البورة قامت بيك)    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء فاضحة.. الفنانة عشة الجبل تظهر في مقطع وهي تغني داخل غرفتها: (ما بتجي مني شينة)    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    حمدوك يشكر الرئيس الفرنسي على دعمه المتواصل لتطلعات الشعب السوداني    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    محمد وداعة يكتب: حرب الجنجويد .. ضد الدولة السودانية (2)    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رد على مقال د. عبد الهادي التازي المغربي وتعليقه على مقال سواكن المدينة البيضاء. بقلم: محمد أحمد الحيرابي
نشر في سودانيل يوم 05 - 09 - 2012


المنشور في مجلة الفيصل فبراير-مارس 2008
التازي بعد إبن بطوطة في سواكن السودان
في ليلة شاتية من ليالي فبراير من عام 2011م وفي استرخاءة أمام الشاشة الفضية وأنا أتصفح المحطات الفضائية التي طفت عبرها أرجاء القرية الكونية من أقاصيها إلى أقاصيها أتابع العديد من الأحداث التي تعج بها ، حينما ثنى الله لي الوساد في قناة إقرأ لأسمع وأرى ما يدور فيها من حديث دون سابق علم بالمتحدث أو موضوع الحديث، فإذا بي أمام شيخ يتوشح زيًا مغربيًا أصفرًا فاقع لونه يسر الناظرين وهو تبدو عليه علامات الوداعة والوقار. فحدثتني نفسي أن أتريث قليلاً لأسمع بعض الذي يقول، فوضعت جهاز التحكم عن بعد جانبًا وأصغيت فانساب إلى سمعي حديث شجي عن الرحالة المسلم الفقيه إبن بطوطة، فكان مجمل ما اقتبسته منه في تلك اللحظة قوله :( قال إبن بطوطة لا تبحثوا عنٍي في قبري الذي في التراب وابحثوا عني في قلوبكم، فإذا وجدتموني فيها فذلك يكفي) فشدني هذا القول وأثار دهشتي وانتباهي ولفت نظري نحو المتحدث لأقرأ اسمه على الشاشة فإذا به أ.د. عبد الهادي التازي فتنفست الصعداء وحمدت الله أن من علي برؤيته لآنني لم أتشرف بذلك من قبل . وكما يقولون رب صدفة خير من موعد ، وعندها عادت بي الذاكرة إلى تعليقه المنشور في مجلة الفيصل في العدد 407-408 بتاريخ أبريل /مايو 2010م بعنوان (إبن بطوطة في سواكن السودان) على مقالي الذي سبق أن نشر بتلك المجلة في عددها 380 بتاريخ فبراير/مارس 2008م وتحت عنوان (سواكن المدينة البيضاء) وعنوان تعليقه هو الذي أوحى لي بعنوان الرد الذي أدبج سطوره الآن.
ولعلم القارئ الكريم، أقول كان تعليقه إطلالة جميلة وهي عبارة عن إطراء ومدح وإعجاب بما كتب عن سواكن، ومربط الفرس عنده في المقال ما ذكرته عن زيارة إبن بطوطة لسواكن عام 1352م مستشهدًا بما ذكره عن صعوبة الحصول على ماء الشرب وذلك في معرض حديثي عن مشكلة المياه فيها. فراجعت سيرته العلمية فلم أستغرب ذلك حين علمت أنه أحد إنجازاته في مجال التحقبق هو مخطوط إبن بطوطة المسمى (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) وإذا عرف السبب بطل العجب فله. مني جزيل الشكر والتقدير لإشاراته ونصحه لي لإعادة قراءاتي في ذلك المرجع للتعرف على المزيد مما ذكره عن هذه المدينة, وأنا بدوري أعده بذلك وخاصة إنني عقدت العزم على تأليف كتاب عنها متى ما تيسر الأمر لذلك. ولا يسعني إلا أن أكرر شكري له ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله.
وبما أن الشئ بالشئ يذكر لابد لنا من التعرف على بعض من سيرة صاحب التعليق. العديد من المصادر تشير إلى أن مولده كان في 15/6/1921م ومسقط رأسه قي مدينة فاس. نال شهادة العالمية في سن مبكرة من جامعة القرويين عام 1947م وعين أستاذًا بها عام 1948م ، ونال دكتوراة الدولة من جامعة الإسكندرية عام 1971م وكان موضوع اطروحته جامعة القرويين. في المجال السياسي عمل سفيرًا للمملكة المغربية لدى لبيبيا والعراق وإيران والإمارات العربية المتحدة. عمل مديرًا للمعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، كما ساهم في تأسيس كل من أكاديمية المملكة المغربية وإتحاد كتاب المغرب ورأسه ومثله في العديد من المؤتمرات. وفي إطار الهيئات الثقافية له عضوية في العديد منها ونذكر على سبيل التمثيل لا الحصر: المجمع العلمي العراقي-1966م، مجمع اللغة العربية بالقاهرة-1976م، المعهد العربي الأرجنتيني-1978م، مجمع اللغة العربية الأردني-1980م، مجمع اللغة العربية بدمشق- 1986م، والأكادمية الهاشمية بالأردن. بالإضافة إلى ذلك إستهوته مهنة الصحافة منذ خمسينيات القرن الماضي عندما راس وفد إتحاد الكتاب المغربيين لحضور مؤتمر الأدباء العرب في الكويت عام 1958م، وقد تزامن ذلك مع احتفالية مجلة العربي بيوبيلها الذهبي فسنحت له فرصة المشاركة فيها. وبادر للمساهمة في تحريرها منذ عددها السادس الصادر في مايو 1959م الذي نشرت له مقالة عن جامعة القرويين بفاس وعندها كان مراسلاً لها من المغرب. وكذلك له العديد من المقالات في مختلف الإصدارات الثقافية وعلى وجه الخصوص مجلة الفيصل.
وبما إنه مفكر ومؤرخ مغربي متخصص في أدب الرحلات والرحالين عامة ورحلة إبن بطوطة خاصة كان له الشرف في إنجاز تحقيق رحلة إبن بطوطة المسماة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار) تأليف شمس الدين أبي عبدالله محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي. عكف على تحقيقه في إطار أكاديمية المملكة المغربية معدًا لمقدمتها وواضعًا خرائطها وفهارسها ، فنشرت في خمس مجلدات ضمن مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية-سلسلة "التراث" عام 1417ه=1997م . ليس هذا فحسب بل تتواصل أبحاثه في هذا الإطار دون توقف ولديه تحت الطبع من لدن وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية (إكتشاف غير مسبوق، وهو بحث قدم لمؤتمر محمع اللغة العربية الدورة السبعين 28 مارس 2004م و لأكاديمية المملكة المغربية حديث الخميس 29أبريل 2004م ولمجمع اللغة العربية بدمشق (إبن بطوطة في زيارة ثانية لدمشق). ومن مبادراتهفي هذا المجال نداءاته المتكررة لإنشاء متحف لإبن بطوطة لتجمع فيه كل متعلقاته من مختلف المواقع وهو أول من أبدى إستعداده لفعل ذلك. وما يؤكد صدق توجهه ما ذكره للجزيرة نت قوله:(إبن بطوطة وجد مكانه في القمر رغم رحيله منذ سنين، فكيف لا يجد مكانه في أرضه وبلاده التي خرج منها وعاد إليها بثروة كبيرة من المعارف والمشاهدات، وأضاف: إن الهيئات العلمية العالمية التابعة للأمم المتحدة أطلقت اسم إبن بطوطة على خطوط القمر، وتساءل قائلاً : كيف لانخلد ذكره بمتحف ومرصد، وكيف لا نهتم به وقد ترجمت أعماله إإلى أكثر من 50 لغة ) ولا يفوتنا أن نذكر أنه كان يرأس المؤتمر العلمي السادس للأسماء الجغرافية قي نيويورك منذ عام 1992م. ومما خلد به ذكر إبن بطوطة، جوائز إبن بطوطة لأدب الرحلة وصدور مجلة (الرحلة) وبدء مشروع (مخطوطة عربية كل يوم) على موقع (الوراق).
وهذا غيض من فيض مما يمكن أن يذكر من سيرة هذا العالم الجليل ولا ننسى تعليقه على مقال (سواكن المدينة البيضاء) لأنه إن دل على شئ إنما يدل على حرصه ومتابعته لهذا المجال متابعة دقيقة. وإن بقي من شئ يمكن قوله فخلاصة ما يمكن أن يقال إنه ( نسيج وحده) وكفى.
ولاشك أن هذه سائحة كريمة لأبوح فيها لعالمنا الجليل بعض مافي مخيلتي عن ذكرياتي الثرة عن تلك المدينة ولى عدة وقفات إزاء ذلك أسردها على النحو التالي:
أما الوقفة الأولى: تتعلق بأيام الصبا وهي فترة أصبحت فيها الذاكرة مترعة بأحداث وذكريات جميلة مازالت عالقة بالذهن كأنها أحداث الأمس القريب . وكيف لا وهي مسقط رأسي ومرتع صباي. وهي فترة ما كان يجرؤ فيها أحدناعلى الإقتراب من باب شرق السودان خوفا من مغبة الإختطاف وكان ذلك خوفًا غُرس في نفوسنا من جراء الإشاعات والأحاجي التي كنا نسمعها عن تجارة الرقيق - في أيام إزدهارها - إلى الجزيرة العربية عبر ميناء سواكن وأن المختطف تنقطع صلته بأهله إلى أبد الآبدين. ولكن كانت لنا سلوة عن الدخول إلى سوق المدينة في قدوم قطار الركاب إلى المحطة الكائنة غرب باب شرق السودان وفي الساحة الشرقية منها يتم إعداد السوق المؤقت, ويوم قدوم القطار يوم مشهود لتجمع جمع غفير من السكان يفدون فيه إلى المحطة من كل حدب وصوب. ومن الروايات الطريفة المتناقلة بين الناس عن ذلك الحراك المتوجه نحوالمحطة، أن إثنين من شباب البجا إنتهزا هذه الفرصة المواتية وركبا موجة الحراك وتقفيا آثار إحدى غانيات الجزيرة وهي تسير برفقة أمها واخذا يتغزلان في محاسنها بلغتهم البجاوية على اعتبار أنهما لاتفقهان حديثهما، وبعد لحظات قصيرة ردت عليهما والدتها ببجاوية فصيحة بقولها ياأبنائي هذه مثل أخواتكم فهل ترضون ذلك لأخواتكم، فألجمت الدهشة لسانيهما وما كان منهما إلا أن يوليا مدبرين. وهذه فئة من الفئات المهرولة إلى محطة القطار في ذلك اليوم ومنهم كذلك المستقبلون والمودعون بالإضافة إلى التجار الذين يحرصون على بيع بضائعهم وأصحاب وسائل النقل المتمثلة في عربات الكارو التي تجرها الحمير. وهو سوق مشهود و زمنه موقوت بمدة بقاء القطار في المحطة حيث يتم إنزال الركاب القادمين و من ثم يذهب إلى محطة جراهم على ساحل البحر للتزود بالوقود والماء و هي محطة مزودة بقضيب دائري يمكنه من الإستعدال في اتجاه طريق العودة ليحمل الركاب الجدد إلى تقاطع محطة سلوم ومنها إلى بورتسودان . فالمحطة تقع قبالة باب شرق السودان من الناحية الغربية وكما أسلفنا هو يوم مشهود حيث يتوافد المسافرون من كبار التجار وعلية القوم تحديدًا سكان الجزيرة بملامحهم الواضحة للعيان ومن الناس من تشغلهم مناظر الأسر الثرية ذات الأبهة والفخار عن بقية المشاهد. وهؤلاء يبدأ مشوارهم عادة من الجزيرة عبر بوابة كتشنر عند مدخل الجزيرة والسير عبر طريق يخترق الأسواق إلى باب شرق السودان وهم تحف بهم حواشيهم من الخدم والحشم حتى الوصول إلى المحطة التى تقع على مقربة منه ليرفعوا رحالهم إلى العربات المحجوزة لهم مسبقًا.
أما نحن الصبيان فعزاؤنا عن سوق الداخل، هذه السوق المؤقته التى تدوم إلى حين مغادرة القطار. وهى سوق نجد فيها مايسر النفس وتلذ الأعين من الملابس والألعاب البسيطة. ومن ضمن مغتنياتنا من هذا السوق كنا نلبس الثوب السعودي والغترة البيضاء والعقال البحرينى الذهبي المقصب والصديري المطرز بالألوان الزاهية، وذلك يملأ نفوسنا بالزهو والسرور والافتخار الذي ينعكس قي حراك دؤوب ونشاط متناهي فنقطع مساحة السوق جيئة وذهابًا ويصدف أن يقع بعضنا على أبسطة البضائع فينهض من توه لمواصلة اللعب واللهو . وتلك حالة ينطبق عليها قول شاعر المهجر إيليا أبوماضي إذ يقول:
وطن النجوم أنا هنا *** حدق أتذكر من أنا
ألمحت في الماضي البع ***يد فتى غريرًا أرعنا
جزلان يمرح بين الجدا *** ول والحقول مدندنا
والسوق محدود المساحة ويتخذ موقعًا وسطًا شرق المحطة تاركًا مسافة معقولة بينه وبين القطار لسهولة حركة المسافرين والمودعين. وهو عبارة عن حصر وأبسطة متجاورة تفرش عليها البضائع. وعندما يؤذن مؤذن المغادرة يطلق القطار صفارة الإنذار الأولي وعندها يصاب الناس بموجة من الحراك المتسارع . هذا مسافر لا هم له سوي ركوب القطار وهذا تاجر يريد أن يحصل على قيمة ما باع من مسافر يتربع داخل القطار وهذا مودع يسارع بالنزول وهلم جرًا. وأثناء ذلك الحراك المحموم تنطلق الصافرة الثانية فالثالثة ويبدأ التحرك البطئ وتزداد سرعته تدريجيًا ويبتعد عن الأنظار رويدًٍا رويدًا ودخاخينه السوداء تتصاعد إلى عنان السماء حتى يختفي عن الأنظار تمامًا.وتلك لحظات عصيبة بالنسبة لنا إذ تنقطع حركتنا ونلتقط أنفاسنا وترنوا أعيننا لمتابعة مسير القطار حتى يختفي وراء الأفق البعيد ونحن يحدونا الأمل في حضور أوبته لوصل ما انقطع من لهونا بل تحلق بنا الأحلام والأمنيات الوردية من أن نكون يومًا ما من ركابه لنسعد بمتعة السفر وذلك من قبيل خداع النفس للنفس. أما الآخرون بالنسبة لهم هي لحظة ينفض فيها سامر السوق، فالتجار يأخذون بقية بضائعهم إلى دكاكينهم في داخل السوق والمودعون يسلكون طريق العودة إلى منازلهم وكذلك المسافرون مستعينين بوسائل المواصلات المتوفرة و\لمتمثلة في عربات الكارو التي تجرها الحمير يحملوتها عفشهم ويتبعونها سيرًا علي الأقدام. ونعود نحن بثيابنا الغشيبة من تلك الملابس إلى منازلنا ظافرين غانمين. فننزعها عنا ونحفظها لمعاودة لبسها في موعد عودة القطار، لنكمل بقية يومنا في اللهو واللعب بين البساتين والحدائق الغناء لنأكل من ثمرها ونتسابق في اصطياد الطيور إلى مغيب شمس ذلك اليوم كعادتنا المتعارف عليها في الآيام العادية.
وتلك الحدائق والبساتين حدثتنا عنها روايات وحكاوي الأجداد والآباء ، أن جذور هذه الأسرة الكريمة كانت تمتهن الرعي وتطوي الصحاري والفيافي والغفار سعيًا وراء أنعامهم بحثًا عن الكلأ والماء وكانت آبار جسر الشاطة موردًا من موارد مائهم وكانت مليئة بالغابات الكثيفة. وعندما جاء الحاكم التركي قدم إغراءات جاذبة لهم وأعلن رسميًا من يقوم (بكبر) تلك الغابات أي إزالتها ، واستصلاح الأراضي للزراعة ستسجل له تلك المساحات كملك حر. وبين طرفة عين وانتباهتها تحولوا من الرعي إلى الزراعة وأصبحوا من سكان الأحياء التي تقع خارج سور المدينة.
وثانية هذه الوقفات كانت عندما شببنا عن الطوق وبلغنا سن الالتحاق بالدراسة النظامية التي تلي الدراسة في الخلاوي (مدارس تحفيظ القرآن) وكامن المدرسة الوحيدة الموجودة بالمدينة هي مدرسة سواكن الأميرية أول مدرسة إفتتحت في مجال التعليم النظامي وذلك في عام 1313ه=1895م أي قبيل إفتتاح قناة السويس الذي تم في 1896م، ويكفيها شرفًا أن تخرج منها العديد ممن كان لهم دور بارز في خدمة السودان ونذكر منهم على سبيل التمثيل لا الحصر الرئيس الأسبق إبراهيم عبود. ولسوء حظي لم يحالفني الحظ في تلقي تعليمي الإبتدائي في مدرستها الفريدة معنى ومبنى، وكان أن درست في مدرسة داخلية في مدينة تهاميام قرب تقاطع محطة هيا وهي مدينة ينم أسمها عن مدى المعاناة التي يلقاها سكانها من ملوحة مياه الشرب إذ يعني اسمها بلغة البجا البيداوييت (ذات الماء المر) ومن ثم انتقلنا إلى المرحلة المتوسطة في بورتسودان الأميرية . ورغم البعاد كانت الأشواق تملأ النفس للعودة إلى مراتع الصبا أثناء الاجازات المدرسية. وفي إحدى هذه الإجازات عدت إليها وأنا في طريقي إلى حي الشاطة التقيت بابن عم لي حالفة الحظ في تلقي تعليمه في مدرستها . وكعادتي عند القدوم إليها استفسرته عن أخبار المدرسة ومعلميها وكأنما ليس هناك ما يهمني فيها سوى هذه المدرسة. فكانت المفاجأة هذه المرة لأنه أخبرني بأن الأستاذ حفظهم قصيدة عن سواكن فجذب ذلك إنتباهي، فطلبت منه أن ينشد لي أبياتا مما حفظة منها ففعل ذلك فطلبت منه أن يعيدها لي ثانية وثالثة حرصا منى على حفظها حتى لا تتفلت منى والأبيات هي :
حي الطلول البالية *** وأسكب دموعك غالبه
وتغن باللجن الحزين *** على الديار الخاليه
هذى سواكن قد بدت *** مثل العروس الباكيه
تختال في أسمالها *** أسمال ماضي واهيه
والبحر في أنحائها *** يصغي بأذن واعيه
ويضم أطراف "الجزي *** رة"كالرؤوم الحانيه
ياغادة عصفت بها *** ريح الزمان العاتية
مني إليك تحيتي *** رغم الأسى وسلاميه
هذه أبيات تليت علي وأنا في قارعة الطريف فحفظتها عن ظهر قلب على مدى ثلاثة عقود دون أن أتمكن من معرفة شاعرها ودون أن أعرف عدد أبيات القصيدة حتى قيض الله لي أحد أبنائها وربيب أحيائها ألا وهو الأديب والشاعر إبراهيم شلية (أبو صالح)، فأمدني بصورة مما أهدي إلية من قبل (الأخ محمد أحمد عبدالقادر) الذي تمكن من إعداد سفر جمع فيه معظم القصائد التي قيلت عن سواكن فجزاهما الله عني كل الخير و لهما من الشكر أجزله. وعلى هذا علمت علم اليقين أن عنوان القصيدة هو (ذكرى سواكن) وشاعرها الشاعر المخضرم مبارك المغربي يرحمه الله وما تلقيتة منها ثلاثة وثلاثون بيتًا. ولكن ظل في النفس شئ من إحساس غريب لمواصلة البحث فاستدليت منذ زمن قريب إلى موسوعة الشيخ عبد اللطيف البابطين الشعرية فعثرت فيها على سيرة كاملة عن شاعرها باعتباره أحد الشعراء العرب الذين نالوا جائزة البابطين في جودة الشعر. ومن النماذج التي أختيرت من قصائده قصيدة (ذكرى سواكن) فكانت المفاجأة الأكبر أن وجدت أن عدد أبياتها خمسة وخمسون بالتمام والكمال وهذا الفتح المبين بالعثور على هذا الكم من المعلومات أثلج صدري إذ عثرت عليها بعد بحث مضن ومتواصل استمر إلى قراية الأربعة عقود فحمدت الله على ذلك.
وهنا لا بد من وقفة عند مشاعر شاعرها المتدفقة نحوها، فقد بينت سيرته إنه عمل بها رحدًا من الزمن وهو ضابط سجون في سجن سواكن العمومي و في زمن مازالت فيها بقية من ازدهارها وبهائها وجمالها الأخاذ، فقضى في حجر الجزيرة ليالي سمر جميلة في أجواء أقرب ما تكون إلى الأجواء الأوروبية بين مقاهيها ونوافيرها وموسيقاها التي كانت تعزف للترفيه عن الجنود. ولكن سرعان ما اختطفته يد الخدمة المدنية التي لا ترحم من يقع اختيارها علية من موظفي الخدمة المدنية فكان الفراق الحزين. ويمر الزمن سراعًا ويعود إليها زائرًا وفي مخيلتة الصورة الجميلة التي تركها فيها ، فإذا به أمام أنقاض بالية من ركام قصورها الزاهية، فتتحرك في نفسه لوعة الشاعرالمرهفة فيقف على أطلالها باكيًا ويتشبب بمحبوبته الغالية ومما ورد في القصيدة في هذا الصدد قوله:
وإذا بقلبي فجأة *** تسطو عليه غانيه
خرجت تتيه بحسنها *** في مشية متهاديه
ناديتها لكنها *** لم تستجب لندائيه
ومضت تشيج بوجهها *** عني وعن اعجابيه
ومضيت إثر جمالها *** إثر العيون الداعيه
خبرتها إني فتىً *** عف يصوغ القافيه
فتبسمت وتقدمت *** نحوي بنفس راضيه
ياموطن السحر المقيم *** أما شجاك غنائيه
أعلمت أنك في دمي *** رغم الديار النائيه؟
وأثناء هذه الأوصاف السَكرَى و المتيمة يشد انتباهه الواقع الأليم للأطلال والأنقاض التي أمامه فإذا بنا أمام آهات وزفرات حزنه العميق الذي عبر عنه بالتالي من الأبيات:
هل من جديد مشرق *** يحيي الرفات الفانيه
ويعيد أيام الصبا *** والفاتنات كما هيه
ويعيد مجدًا قد يعاد *** إذا العزائم ماضيه
إن كنت تذكر وقفتي *** هذي وتذكر حاليه
فاذكر على مر الزمان *** شعور نفس وافيه
لو يفتدى ذاك التر *** اث فديته بحياتيه
قد شفني وجدُ بها *** ولها بذلت فؤاديه
وأما ثالثة الوقفات تتزامن مع انتقالنا للمرحلة الثانوية في مدرسة المنار ببورتسودان التي فتحت أمامي آفاقًا جديدة للتعرف عن كثب على العديد من معالمها وخاصة الموجودة منها داخل الجزيرة وذلك عبر رحلات منظمة تحت إشراف المدرسة. فمما وقفت عليه من آثارها المسجد الذي يذكر أن بناءه تم بتوجيه من الملكة الفاطمية شجرة الدر وبوابة الجمارك التي يربض على قمتها الأسد وقصر الكابلي والد الفنان المبدع عبدالكريم الكابلي وقصر الميرغني وقصر الشناوي والعديد من المعالم الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها. وأما خارج الجزيرة تعرفت على قصر الشناوي وهي أنقاض مبنىً ضخم كان وكالة تجارية تابعة لخديوي مصر والشناوي وكيلها رغم الروايات الكثيرة التي تواردت عنه. يضاف إلى ذلك مبنى المدرسة الأميرية سالفة الذكر علاوةً على المحلج والسجن العمومي. بالإضافة إلى ذلك تعرفت على متحف التراث البجاوي ومؤسسه سعادة العم محمد نور هداب علاوة على المتنزه البحري الذي أنشأه جنوب الجزيرة لاستقبال هواة الغوص لتهيأة متكأً لهم للراحة وتناول الطعام واستخدام الإنترنت. وفوق هذا وذاك سرني ما علمت بأن هناك متحف بحري مزمع الإنشاء وعنوانه على الإنترنت (www.sawakinmm.com) ولا شك في ذلك إحياء للسياحة في المدينة.
وأخيرًا وليس آخرًا تأتي الوقفة التالية التي كانت في رحاب جامعة الخرطوم حيث كلفتنا أستاذة اللغة الإنجليزية في إحدى محاضراتها بكتابة موضوع اجتماعي بسرد الروايات والأساطير المتناقلة بين العوام كل في مدينته التي يسكن فيها. فشحذت ذاكرتي فإذا بي أمام حصيلة لا بأس بها من تلك الأساطير منها ما هو متعلق بأسباب التسمية والروايات المتداولة عن قصر الشناوي وكذلك التي تشير إلى إنها كانت سجنًا اختاره سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والتسليم لسجن مردة الجن. وعلاوة على ذلك النقود المعدنية التي كانت تكال بالمكاييل كما تكال الغلال كناية عن الإزدهار الاقتصادي الذي كانت تنعم به المدينة. فعلت ذلك طمعًا في الدرجات ولكن في دخيلة نفسي كنت أسخر من انصراف الأستاذة إلى مواضيع اجتماعية بدلاً من التركيز على ما نحن بصدده لتعلم الإنجليزية. وفي المحاضرة التالية ندهت الأستاذة اسمي وطلبت مني أن أقف ، فنفذت طلبها ولكن انتابني شعور بأن في الأمر نوع من العتاب لخطئ ما إرتكبته أثناء تناولي للموضوع, وكانت المفاجأة التي أذهلتني قولها مبروك موضوعك ممتاز ومتطابق ما كنت أرمي إلية من التعرف على الاجتماعيات السودانية. فتلك كانت لحظة بعثت الثقة في نفسي وأحسست بأهمية المعلومات التي تجمعت لدي عن تلك المدينة طوال فترة ليست بالقصيرة.
فترتب على ذلك مستقبلاً كتابة مقال(سواكن المدينة البيضاء) الذي نشر قي مجلة الفيصل عام 2008م. وكات المفاجأة الأكبر بالنسبة لي التعليق الذي كتبه أستاذنا الجليل أ.د. عبد الهادي التازي الذي نشر في الفيصل في مايو من عام 2010م تحت عنوان(إبن بطوطة في سواكن السودان) فأضاف ذلك وقفة جديدة مع محبوبتي سواكن ترتب عليها كتابة المقال الذي بين أيدينا وبالصدفة الجميلة سالفة الذكر التي دفعتني دفعًا لكتابة هذا الرد واستعادة العديد من ذكرياتي العطرة عنها لأهمس بها في أذان أستاذنا الجليل الذي أسرت نفسه وأثارت الشجون فيها ليعلن عن حبه لها من أول وهله متمنيًا أن يثني له الله الوساد فيها ليراها راي العين وليس راء كمن سمع.فأقول له: هذا دأبها مع كل من يقترب منها ولو عن طريق السمع دون أن يمتع ناظريه من رؤيتها كما كان الحال مع الرحالة دا كاستروا الذي أسهب في الكتابة عنها دون أن يزورها.
وعودًا على بدء لا بد لنا من وقفة عند العاشق الولهان لرؤيتها أستاذنا التازي و مشاعره التي عبر عنها بقوله:(تلك أحاديث إبن بطوطة عن(سواكن)التي لا أزال أنتظر من زميلنا الأستاذ الحيدرابي أن يزيدنا حديثًا عن هذه الجزيرة التي أحلم بالوصول إليها في يوم من الأيام ) بهذا لقد فاح عبير عشق قيس لليلاه وها أنا أقول له فإن كان سبق لي شرح معنى كلمة أوسوك باللغة البجاوية التي تعني السوق أسمح لي ياسعادة الأستاذ أن أخاطبك بنفس اللغة وأقول لك :(إيتنينا) والتي تعني مرحبًا بمقدمك بل أردد مع الشاعر قوله:
ياضيفنا لو زرتنا لوجدتنا نحن *** الضيوف وأنت رب المنزل
وأتمنى لك من سويداء القلب أن يثني لك الله الوساد في جزيرة سواكن البيضاء وقلبها النابض في القريب العاحل بإذنه تعالى إنه ملك بر قريب سميع مجيب الدعاء وأرجو أن يعجبك هذا الرد المقتضب وإلى لقاء.
محمد أحمد عبدالرحيم الحيدرابي
الرياض
سونا سابقًا
جوال 0545132807
$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$$
الهوامش والمراجع
1- أحمد محمد غندور، سواكن: هل تصلح نجمة البحر خطيئة الشعب المرجانية؟. مجلة العربي الكويتية، عدد 236 يوليو 1978م،ص ص 106-111.
2- شمس الدين لأبي عبدالله محمد بن عبدالله اللواتي الطنجي، رحلة إبن بطوطة المسماة تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار، المجلد الثاني تقديم وتحقيق ووضع خرائط وفهارس عبد الهادي التازي عضو أكاديمية المملكة المغربية، سلسلة التراث،. 1417ه=1997م، ص 100.
3- إبراهيم أحمد شلية، همسة حجر من بقايا قصور سواكن. صحيفة الخرطوم(نافذة على الثغر)، عدد 2967، 28/3/2002م. ص 8.
4- محمد أحمد عبدالرحيم، سواكن: إطلالة على التاريخ. صحيفة الخرطوم، عدد 3134، 9/10/2002م، ص 9.
5- عبد الهادي التازي، إكتشاف غير مسبوق حول رحلة إبن بطوطة. مجلة الفيصل، عدد 335 يوليو 2004م، ص ص 60-75.
6- عبد الله جعفر السيد، سواكن نافذة أطلت على البحر الأحمر. مجلة الفيصل، عدد 341 ، ديسمبر/يناير 2004-2005م، ص ص 64-77.
7- أبو شامة المغربي، ورقة عن الدكتور عبد الهادي التازي: باحث في أدب الرحلة، الإنترنت : موقع htt://group.eqla3,com/01/44444.gif 30/3/2007م.
8- محمد أحمد عبد الرحيم الحيدرابي، سواكن المدينة البيضاء, مجلة الفيصل، عدد 380 فبراير مارس 2008م، ص ص 76-93.
9- محمد أحمد عبد الرحيم، سواكن: تبيان وعرض حال. صوت برؤوت، يونيو 2009م.
10- عبدالهادي التازي، إبن بطوطة في سواكن السودان, مجلة الفيصل، عدد 407-408 أبريل/مايو 2010م، ص ص 48-57.
11- موسوعة البابطين الشعرية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.