[email protected] ( 1 ) كنّا في تهران قبلَ نحوَ عقدين من الزمان، ولكن لم نكن بعيدين عن الخرطوم، إذ قنوات التواصل تزوّد البعثات الدبلوماسية بما يعين مهامها لتكون مرآة للوطن. سفارات السودان مشغولة بالتصدّي لمحاصراتٍ واختناقات و"ابتلاءات"، فالقتال مستشرٍ في جنوب البلاد، والموتُ في السّاحات تقام له سرادقٌ وأعراسٌ، تزفَّ فيها حورٌ عين ويتبعهنّ ولدان مخلدون. أمَّا الحياة فعلى عسرها تلكم الآونة، فقد شاركتْ الإنسَ فيها ملائكةٌ تمسك بالسلاح وتفتك بالأعداء و"الأعداء" هم من بعض أبناء جنوب السودان، فالقوم هناك ليسوا من طينة الأرض، بل هُم من مجرَّة بعيدة ، بل هُم قومٌ عادون. تفتّق ذهنُ السفير المُعيّن في تهران، عن ضرورة القيام بحملة إعلامية في الوسط الدبلوماسي الأجنبي، فهم رسلُ بلادهم إلى بلاد الجمهورية الإسلامية، وأنّ السانحة متاحة لسفارة السودان لتعريف هؤلاء السفراء والدبلوماسيين المقيمين في تهران بأحوال السودان، وبالمرّة يشاهدون من أبجديات القتال الأهلي وفنون التعبئة ما برع فيها تلفازُ السودان ، فيما عرف ببرنامج "ساحات الفداء". استجلب السفير عدداً مهولاً من شرائط البرنامج المذكور، وعمل بنفسه على قضاء الساعات الطوال في بيته، يشاهد ويُغربل أيّها الأنسب لعرضه على هؤلاء الأجانب. كنتُ نائبه في إدارة البعثة في تهران، وسعيتُ لإثنائه عن المضي في الحرب الإعلامية التي سنشنها من سفارتنا في تهران، والتي رأيتها تفارق ما نعرف من واجباتٍ للبعثات الدبلوماسية وطبيعة نشاطاتها. تخيّرتُ لغة الدبلوماسية الناعمة التي خبرتُ التعامل بها عبر سنوات طوال، متقلباً بين إدارات الوزارة وبعثاتها الدبلوماسية في الخارج، غير أني ما أفلحت في تغيير ما عزم عليه السفير. كانت لغتي الناعمة تلاقي أذناً صمّاء. وإذ أحسّ السفير بقليل حماسي لبرنامجه "التعليمي"، فقد آثر أن يكلف السكرتير الدبلوماسي الذي يليني في الدرجة الوظيفية، ليباشر معه ترتيبات الإعداد المراسمي للبدعة التي لن تكون ضلالا.. ( 2 ) كان صعباً عليّ أن أنسحب عن مثل هذه الفعالية التي سيتداعى إليها سفراء معتمدون في تهران ودبلوماسيون ، أعرف أكثرهم معرفة شخصية وبينهم أصدقاء ، ولن يكون من اللائق أن أغيب والدعوة قد قُدمت لهم لمشاهدة أفلام القتال هذه في عقر سفارتي. فضلتُ أن أقدم خبرتي لمساعدي الدبلوماسي، وأبيّن له قدر المستطاع ما يبعد الحرج عن السفارة، إذ ربّما لن تستسيغ وزارة الخارجية الإيرانية ما سيقدم عليه السفير في نشر وترويج برنامج "ساحة الفداء" في الأوساط الدبلوماسية، وأنا أعلم تمام العلم الحساسية التي يتعامل بها مدير دائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا مع السفير السوداني. ثمّة ما يتوجّس منه الشيخ حجة الإسلام "خ. . ." من بعض ما قد يكون رصدته إدارته من أفكار وآراء للسفير وملاحظات على مجمل العلاقات بين بلدينا، قد يكون سرّبها لبعضُ خاصته في بعض جولاته الخاصة ولقاءاته مع رصفاءه السفراء، وبلغ صداها مسمع الشيخ حجة الإسلام "خ. . . ". تلك قصّة قد أعود إليها في أحاديث قادمة، ودعني أحكي لك، عزيزي القاريء، كيفَ ناورتُ لأغير ترتيبات حفل دبلوماسي لن يكون مثل تلك التي تعوّدوا أن يشاركوا فيها. قلت لمساعدي الدبلوماسي أن يهتم بداية بالتجليس، إذ يُراعي السفراءُ عادة في ترتيب جلوسهم، أن يأتي السفير في أوّل الصفِّ قبل القائم بالأعمال، والقائم بالأعمال الأصيل قبل القائم بالأعمال بالإنابة، ومن قدم أوراق اعتماده أولاً، يسبق الذي قدمها بعده. واقترحتُ أن يكون الجلوس حول موائد مستديرة تعفينا من حرج التجليس المرتبك والأمر كله أعد على عجلة ودون تريّث. الذي أصرّ عليه السفير كان مزعجاً بكل المقاييس . رُصَّت المقاعد في صالون السفارة كما في الفصل الدّراسي، وعُلّقت شاشةٌ بيضاء على الجدار المقابل عليها خارطة السودان . في واجهة المقاعد جهاز تلفاز ضخم أعدّ لعرض مشاهد برنامج القتال: "في ساحات الفداء". . ( 3 ) لا أعرف كيفَ أسرد بلغةٍ مناسبة ما جرى بعد ذلك. ثمّةُ ردّ فعلٍ مباشر لحَظتهُ في وجوهِ الحاضرين في اللحظة التي شاهدوا فيها شعار البرنامج، وتلك القذيفة التي يصمَّ دويّها الآذان يطلقها جندي مقاتل بعد الموسيقى العسكرية أوّل لقطة في البرنامج. فيهم من جحظت عيناه، ومنهم من تململ في مقعده، ولكن الوجوم كان سيّد الحال، إلا من همهمةٍ سالبة تسللتْ إلى أذني ممن كانوا جلوساً بقربي . المحاضرة لم تكن أفضل حالاً ممّا شاهدنا من إرهابٍ تلفزي. أمسك السفير بعصا قصيرة واستعان بها لتبيان مواقع بعينها على الخارطة، ليتعرّف الحضور على المدن الملتهبة وعلى جغرافية ساحات الفداء في السودان. تململ الحضور بعد نحو ساعةٍ من عسر المشاهدة وضيق الاستماع، ولم تكن الضيافة حاضرة ، فنحن في "ساحة فداء"، لا في محفل مؤانسة دبلوماسية تتخللها كؤوس أنخاب من حلالٍ أو من حرام. مضتْ الساعات ثقيلة مُملة يشوبها صمتُ الحائرين وتوترُ القائمين على حفلٍ ، بدا كأنه دعوة للجهاد دفاعا عن بيضة الإسلام. بعض أهل الحماس من الضيوف بدوا أكثر الحاضرين قبولا لما شاهدوا وما سمعوا، فتأمّل. . ! انفضّ السّامرُ وخرج المغلوبون على أمرهم وهُم أكثر حيرة منا نحن أصحاب المنشط، وإنْ لم يخامرني شكّ أن بعضهم حسبهُ مَكرهاً، بل عسفاً في الممارسة الدبلوماسية ما عهدوه ولا اعتمدتهُ أعراف الدبلوماسية وتقاليدها منذ عصورها الأولى. لم يَخفِ دبلوماسيّ صديقٌ مِن سفارة عربية، امتعاضه من الطريقة التي جرتْ بها وقائع الفعالية في صالون السفارة السودانية، فأسرّ لي أن "المُحاضر" افترض أنّ الجالسين أمامه محضُ تلاميذ في فصل دراسي يتلقون معلومات في التاريخ وفي الجغرافيا عن السودان، وليس مطلوباً منهم إبداء تعليق أو استفسار..! خفّفتُ وقعَ الملاحظة بممازحةٍ وقلتُ للصديق الدبلوماسي إن الرّجل كان معلماً، فلا تثريب إنْ تحملتموه. . ! ( 4 ) لم يكن أمر إدارة السفارة تحت قياد سفير بمواصفات سياسي، بالأمر اليسير، ولا كانت التجربة خلواً من متاعب وانزعاجات. إن كانت الدبلوماسية ممارسة تخضع لمتغيرات ولتحولات برسم تطور المجتمعات الإنسانية، واضطراد تجاربها، فهي تلتزم من ناحيةٍ بأسوار القانون الدولي، وبسقوف شيّدتها مواثيق واتفاقيات، ومن ناحية أخرى تُراعي حدوداً رسمتها أعرافٌ رسختْ، وتحترم تقاليدَ يُستمسك بها. هذا الذي ابتدعناه في تهران كان استثناءاً وكان خروجاً عن نصِّ الدبلوماسية، لا مراء. في سنوات التسعينات الأولى من القرن الماضي، رأينا قيادات البلاد تخبّ خببَ من لا يلتفت وراءه، ويعدو عدو من لا يستبطيء خطواته ، يُثير غبارَ الحرب يميناً وشمالاً أو لنقل – وهو الأصح وقعاً- شمالاً وجنوبا ! كان السلام بعيد المنال، والحرب أقواسها دانية ومشدودة ومصوّبة نحو صدورِ أعداءٍ إفتراضيون. عميتْ دبلوماسية السودان ذاك الأوان عن مقاصدها المعلومة، وارتضى القائمون على أمرها أن يركبوها مركباً عسيراً، والبحارُ على موجٍ صخّاب. وقفَ من أراد لها أن تكون "رسالية" في مناشطها، ولم تقعد له همَّة ولا فترتْ له عزيمة، بل توخّى لها دروباً على نسقِ ما روّجت له أقلامٌ وآلاتُ تصوير من برامج من نوع "ساحات الفداء"، فالذي جاء به سفيرنا من بدعة استهجنها دبلوماسيو تهران وجلّهم من أصدقائنا في تلك السنوات، هو صنو تلك السياسات السرابية التي لا أرضاً سقتْ ولا عطشاً قطعتْ! ( 5 ) مضتْ بنا الأيام في تهران، وأنا عاكفٌ على مدوّناتي أرصدُ ما أرى وأسجّل ما أسمع، وأعرف يقيناً أنها إلى انقضاء، وأنّ أجل المهمّة الدبلوماسية لي ولمن معي، آيلة إلى نهاياتها، فترات زمانية محسوبة بمواقيت وقياسات. أصدقائي في السلك الدبلوماسيّ في تهران، يمازحوننا دائماً فيزعمون أننا أعلم الناس بأحوال النظام القائم في تهران، قياسا على ما توهمناه بأنفسنا وأشاعه الغرب، وشاع في الأوساط الأمريكية بأن "حلف الإسلام الأخضر" بين إيران والسودان، باتَ من المُهدّدات التي تثير ريباً كثيرة واحترازات مطلوبة. المراقب الحصيف كان يرى أن العلاقات تدور كلاماً يستعاد في جلسات اللجان المشتركة ولا يترجم فعلاً ملموسا. ما كنّا برغم ذلك في حاجة لتبديد مثل تلك الشائعات في أوساط السلك الدبلوماسي، بل آثرنا أن نترك الحبال على غواربها، تجاهلاً واهمالا . وقفتُ على أمرٍ أثار عُجبي قبل أن يثير عجب الدبلوماسيين الغرباء معي في تهران. ذلك أن السفير وقد انتهى أجل مهمته عكفت على ترتيب مقابلات مراسمية ليودع السفير وفق الأعراف المسئولين في منطقة اعتماده ، ثمّ في آخر الأيام وبعد أن قام بوداع رئيس الجمهورية، أخطرتُ وزارة الخارجية كتابة ومشافهة، أن تُهيّىء له قاعة كبار الزوار في مطار "مهراباد" ليلتقي فيها بمودعيه من سفراء البلدان العربية والأفريقية والإسلامية ، كما جرى العرف. لسوء حظ ذلك السفير، أنّ موعد مغادرة طائرته مطار "مهراباد" كان قبل الفجر بساعتين، وقد استجاب عددٌ من السفراء والقائمين بالأعمال، وبينهم القائم بالأعمال المصري، وتداعوا إلى المطار، ولكن ليفاجأوا- ونحن معهم- بأنّ قاعة كبار الزوّار ظلت مغلقة في وجوههم ووجوهنا . سعيتُ - درءا للحرج- أن استعين بمدير مراسم الدولة في تلك الساعة المبكرة من الفجر، ليساعد بإصدار توجيهاته لفتح أبوابها، وفي الحقيقة كنت أتوقع حضوره مشاركاً في وداع سفيرنا وهو يختتم مهمته في تهران ويغادرها بصورة نهائية. لم تفلح جهودي وعدتُ بحسرتي ألقي اللوم على المسئولي الايرانيين، وكان لابدّ من أن نعتذر للسفراء والدبلوماسيين الأجانب الذين جاءوا ليودعوا سفير السودان عن ذلك الموقف المحرج الذي تسببت فيه إدارة مراسم وزارة الخارجية. لم تسقط عن سمعي همهمة القائم بالأعمال المصري لدبلوماسي كان بجواره: (( ما بال هؤلاء القوم يودّعون سفير بلادٍ صديقة لهم على هذا النحو المحرج. . هل نفضوا أيديهم عن التحالف معها. . ؟ )). تمنيتُ لحظتها أن لو أسمعني ذلك القول الذي أشمتهُ فينا، فأذكّره أن يصححوا معلوماتهم ويتحققوا من تفاصيل العلاقات التي تربط البلدين، وأن ينقلوها سِراراً إلى كبارهم وراء المحيطات، الذين يشيعون - من خطلِ التحليل - الكثير عن طبيعة العلاقات السودانية الإيرانية، وهو ما ليسَ فيها. الذي كنت قد التمسته بطرقٍ مستخفية، أنّ رجال بعينهم ، وربّما فيهم رئيس إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الشيخ "حجّة الإسلام خ. . ." ، لا يكن تقديراً شخصياً للسفير المغادر. لا أنفي أني قد سمعت لغواً من هنا وهناك- ولم أصدّقه أول أمري- أنّ الرّجل أفصح لبعض خلصائه رأياً جرى نقله ولم يرق للشيخ المذكور، وصنَّفهُ تبعاً لذلك، ومن موقعه الشخصي، "شخصاً غير مرغوب فيه" ولكن ما تجرّأ وعكس انطباعاته للكبار في قيادة البلاد الذين يعولون على علاقتهم "الاستراتيجية" مع السودان . الذي عضد ريبي أن السفير المغادر كان أكثرنا تسامحاً لما وقع من حرج ، بل شدّد عليّ أن لا أسعى لتصعيد الأمر، وأن لا داعي لرفع الأمر لديوان الوزارة في الخرطوم. ذلك ما لم ألتزم به – غفر الله لي عناداً تلبّسني- وأنا قد أصبحت مسئولاً عن سفارة بلادي، فأبلغت وزارتي من موقع غيرتي على الهيبة والصورة والسيادة ، فاستدعى وزير الخارجية سفير تهران في الخرطوم وأبلغه احتجاجاً مهذبا. . ( 6 ) لربما من نافلة القول وأنا أختتم مقالي هذا، أن أشدّد على أنّ ما كتبت ليس لأمر شخصي، ولا لضغينة تحملها جوانحي لمن تبوأ منهم منصب السفير تعيينا ، من باب السياسة لا من مداخل المهنة الراتبة. ولقد قصدتُ من كل ذلك للقول إنّ من يُعيّن سفيراً من أبواب السياسة- وهو تقليد راسخ لا تثريب عليه وتمارسه أكثر البلدان ومنها الولاياتالمتحدة- ينبغي أن ينال حظاً من فنون المهنة الدبلوماسية وخباياها وقد صارت علماً يدرس في المعاهد والجامعات، قبل ابتعاثه وتكليفه بمهمة قد تكلفه عسراً لا يكون بباله. . الخرطوم – 10 مايو 2012