بسم الله الرحمن الرحيم قال تعالى: ( هَذَا بَلاغٌ لِلْنَّاس وَلِيُنْذَرُوْا بِه وَلِيَعْلَمُوَا أَنَّمَا هُو إِلَهٌ وَاحِد وَلِيَذَّكَّر أُوْلُو الألْبَابْ) ..الآية هذا بلاغ للناس بقلم: د. أبوبكر يوسف إبراهيم* توطئة: يبدو أن الغربة الطويلة عن أرض الوطن تغرس نبتة رومانسية في دواخلنا بعيدة عن الواقع المعاش في لحظة لا وعي، الصورة الذهنية التي نرسمها للوطن وحبه وأهله في دواخلنا يكون(الحنين)هو الفنان الذي رسم لوحته في وجداننا، ودون أن نشعر أو يتصور مخيالنا أن الوطن وأهله على مختلف مستوياتهم التعليمية والثقافية والاجتماعية لا بد وأنهم ما زالوا متمسكين بالمنظومة القيمية والتقاليد السودانية التي عاشها وشب عليها جيلنا وكأن التاريخ قد توقف لحظة اغترابنا، ودون حتى أن نتصور أن هناك عوامل اقتصادية وتحولات إجتماعية تصيب المجتمعات وأن ناموس المجتمعات هو الحركة لا السكون. هذا العوار الفكري يقع فيه تحديداً الكثيرون من أمثالنا الذين طالت غربتهم وأصبح هاجس غربتهم يتمثل في العودة وتقبيل تراب الوطن وتقبيل أهله فرداً فردا، هؤلاء شدهم الحنين للوطن والأهل فشيدوا أحلاماً ربما يرى غيرنا أنها أوهام لا مكان لها في أرض الواقع المعاش، ورصفائنا في داخل الوطن منافحو الداخل الذين نحسب أنهم مسكونون أيضاً بأطر وصور رومانسية وطنية، نفاجأ ونصطدم بالواقع المرير ونجد أن الاثنان يغردان في سرب واحد يمجدان الوطن وأهله ولكن كلٌ على ليلاه، حالئذٍ نسمع لحناً لا يخلو من نشاز، ففي حقيقة الأمر أن أهل الخارج هم مفصومون عن المعاناة الواقع المعاش، ودونما اعتبار منهم لتعاقب الأجيال والآثار التي نجمت عن أحداث وتطورات سيسولوجية، فمن بالخارج يعيش في حلمه الوطني برومانسية الأدباء والشعراء والمناضلين والثوار ويفترض أن من يلتقي معهم فكرياً من رومانسيي الداخل يعتقد أنهم يعيشون نفس ظروفه المستقرة مهما تفاوتت مستوياتهم، ودون أن نشعر بمعاناتهم لأن المظاهر أحياناً تخفي الكثير من المعاناة النفسية التي تنتجها ظروف معيشية اقتصادية متغيرة. ففي الوقت الذي يخرج فيه رومانسيو الخارج إلى أعمالهم ودوامهم تبدأ معاناة رومانسيو الداخل في توفير لقمة العيش ومصاريف الأولاد وهم يبدأون يومهم المدرسي، وهموم الطبابة في حال المرض. أسباب هذه التوطئة هي الرومانسية غير الواقعية التي يعيشها الطرفان كلٌ من منظوره وظروفه. ما أقسى أن يكون البلد طارداً لبنيه ، وما أقسي أن تتهدم كل أحلامك الوطنية الرومانسية حين تصطدم بواقعية المشهد!! المتن: دائماً ما كنت أعتقد أن من السهل على المرء أن يخلق له أعداء ومن الصعب أن يكسب أصدقاء، ولكن بدافع من رومانسية المغترب الذي يضع الوطن ورموزه في السماك الأعلى، يصعب عليه أن يسبر غور ماذا تستر ثياب المرء من معاناة يعانيها وذلك حين يظن بهم الخير ويحدث العكس، دون أن نراعي أو نأخذ في الحسبان أن تصرفه ربما نتيجة هفوة غير مقصودة ، أو في لحظة غياب الوعي فيأتي بما هو لا إرادي وليد لحظة معاناة نفسية مليئة بالإحباط الذي يعيشه رومانسيو الداخل، دون حتى أن يتلمسه رومانسيو الخارج !! قال الحبيب رسولنا الكريم محمد صلوات الله عليه:(إن الخير فيّ وفي أمتي حتى تقوم الساعة)، فما أن نشر مقالي عن طواويس الصحافة حتى إنهالت علي المهاتفات من داخل الوطن ومن خارجه ومنهم من كان يريد معرفة المعني بالمقال ومنهم من من حدده بالاسم ومنهم من استنكر وأبدى استغرابه واستبعد هكذا تصرف أن يبدر من شخص مشهود له بالكياسة والخلق الرفيع وبالرغم من اصراري على عدم ذكر الإسم إلا أن صديقي الاعلامي عبدالمنعم سليمان وهو زول مشهود له بالفراسة آلمه الموقف وقرر أن يزيل (سوء التفاهم) إذ تصادف انه صديق مشترك. لم ينم عبد المنعم ليلته، وفوجئت بأنه اتصل بالأخ مكي المغربي ليزيل ما علق بالأنفس في مسعى حميد منه، ولأن عبدالمنعم بطبعه إنسان وفاقي وصديق عزيز وذو صلة قوية بي، ساءه ما حدث خاصة أن عبدالمنعم أيضاً صديق حميم لأستاذنا الصحفي محمد مبروك الذي كنت في معيته حين حدث ما حدث ونحن في دار اتحاد الصحفيين!! زارني عبدالمنعم عصر اليوم(الجمعة) وإذا به يهاتف الاستاذ مكي المغربي، وتحدث لي الأستاذ مكي وسمعت ملابسات الظروف التي أدت إلى ما أساءني والأستاذ مبروك، شعرت حقيقة بصدق ما يقول وعذرته رغم أن ما رواه من معاناة تنوء بحمله الجبال وأنه كان يعيش لحظة إحباط أدت إلى فعلٍ غير إرادي قد تسسب في مضايقة شخص يلتقيه للمرة الأولى وجاء مجاملاً لا يبحث عن منصبٍ ولا جاه. يقال أن العتاب صابون القلوب وبطبعي المتسامح الوفاقي، لا أقبل أن أنام وأنا غاضب من أو على أي شخص مهما علا أو تدنى قدره مكانته العلمية والاجتماعية لأنه في المنتهى هو الانسان الذي كرمه الله!!، دعك عمن نحبهم حتى ولو كان حبنا وتقديرنا اسفيرياً لهم، فما بالنا وقد التقيناهم؟!... هذه عيوب رومانسية الاغتراب المتجذرة في نفوس هذه الشريحة، خاصة تلك التي طال بهم أمد الاغتراب وشعرت يأنها أعطت الوطن بلا منة، ودون أن تنتظر منه وأهله غير التبسم عند اللقاء وتبسمك في وجه أخيك صدقة، ولكن لأننا غارقون في رومانسية لا وجود لها إلا في مخيالنا الذي ربما يمكننا أن نصفه بالمريض، لم نتصور ولو للحظة أن رومانسيي الداخل هم أكثر إحباطاً منا.. والآن فقط أدركت لماذا قيل أن الثورات تأكل أولادها!! في النهاية تصافينا وقد كسبت أخاً وصديقاً هو الأستاذ مكي المغربي في لحظة إحباطٍ أدت لسوء تفاهم ولا أقول خصاماً ولكن كما يقول الإنجليز كسبني وكسبته ولكن(The Hard way)؛ فإن خلصت النوايا فمن رحم سوء التفاهمات،هذه على وزن(استفهامات صديقنا أحمد المصطفي) تولد صداقات وعلاقات انسانية وطيدة. فعفواً مكي المغربي فإن بدر مني ما يسيئك فاغفر فالقلوب النبيلة لا تمل الغفران، أما عني فقد نسيت وسامحت وتسامحت، فشكراً لك عبدالمنعم يا أيها النقي الذي أشعرني بأن مجرد هذه الخلاف أرّقه فلم يهدأ له بال حتى يزيله، ومثلما أرقَّ صديقي الودود اللدود الأستاذ محمد المبروك وكذك حبيبنا المشاكس الأستاذ أحمد المصطفى، فالمساعي الحميدة لا تأتي إلا من نفوس تجذرت في أعماقها غرسة الخير والود وظلت وستظل يانعة مزهرة تعطر الأنفس بعبق أريجها من كل طيب هو نفوسهم الطيبة!! الهامش: أخاطب الوطن ثم الأخ مكي فأعيد على مسمعيهما ما قاله المتنبي عندما تجاهله سيف الدولة، فألقى قصيدته الشهيرة بين يدي سيف الدولة معاتبا ومعتزا بنفسه وبشعره الذي أبى سيف الدولة أن يسمعه. وا حر قلباه ممن قلبه شبم *** ومن بجسمي وحاله عنده سقم مالي أكتم حبا قد برى جسدي *** وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته *** فليت أنا بقدر الحب نقتسم يا أعدل الناس إلا في معاملتي *** فيك الخصام ، وأنت الخصم والحكم أعيذها نظرات منك صائبة *** أن تحسب الشحم فيمن شحمه ورم وما انتفاع أخي الدنيا بناظره *** إذا استوت عنده الأنوار والظلم أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي*** وأسمعت كلماتي من به صمم فالخيل والليل والبيداء تعرفني*** والسيف والرمح والقرطاس والقلم يا من يعز علينا أن نفارقهم *** وجداننا كل شئ بعدكم عدم إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا *** ألا تفارقهم فالراحلون هم شر البلاد مكان لا صديق به *** وشر ما يكسب الإنسان ما يصم هذا عاتبك إلا أنه مقة *** قد ضمن الدر إلا أنه كلم قصاصة: عفواً وطني .. عفواً مكي المغربي .. فهدهد سليمان جاء سبأ، فأتاه منهم بنبأ!! عوافي...... Abubakr Yousif Ibrahim [[email protected]]