أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه بجامعه الخرطوم تمهيد: تتناول هذه الدراسة المواقف المتعددة من طبيعة العلاقة بين مستقبل السودان وثوره الشباب العربي التي اندلعت شرارتها الأولى في تونس، ومنها انتقلت إلى مصر، ثم إلى اليمن وليبيا وسوريا، والتي أثمرت سقوط العديد من النظم الاستبدادية، والتي ما زالت آثارها تتفاعل ، ويمكن إجمالها في ثلاثة مواقف أساسيه هي: الموقف الأول: التطابق: يرى أن هناك علاقة بين المستقبل السودان وثوره الشباب العربي ، وهى علاقة تطابق، اى تطابق مستقبل السودان مع مصير الدول العربية ، التي قامت فيها ثوره الشباب العربي، من حيث قيام ثوره شعبيه أدت إلى سقوط النظم السياسية الحاكمة في هذه الدول. هذا الموقف يلزم منه منطقيا( وقد لا يعى أصحابه هذا اللزوم المنطقي، بل قد يتبنون إيديولوجيات تتناقض معه) أن الوجود العام يلغى الوجود الخاص، وبالتالي فان تقرير الوجود العام القومي(العربي) يترتب عليه إلغاء الوجود الخاص الوطني(السوداني). كما أن بعض من يتبنى هذا الموقف يستند إلى تصور مثالي للتغيير مضمونه القفز مما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون ، وهو ما يتناقض مع التصور العلمي للتغيير ،والقائم على التدرج بالانتقال بالواقع مما هو كائن، إلى ما هو ممكن ، إلى ما ينبغي أن يكون. الموقف الثاني: الفصل: ينفى وجود اى علاقة بين المستقبل السودان وثوره الشباب العربي، هذا الموقف يلزم منه منطقيا ( وقد لا يعي أصحابه هذا اللزوم المنطقي)، تحويل الجزء إلى كل قائم بذاته ومستقل عن غيره، فضلا عن إنكار سنه(قانون)التأثير المتبادل. وهو موقف يقوم على ترك الامتداد التلقائي للظروف، مما يؤدى (موضوعيا) إلى اكتمال نضح الشروط الذاتية للثورة، ومن ثم حتمية قيامها، بصرف النظر عن النوايا (الذاتية) لأصحابه. القبول المطلق للخصخصة : فهو موقف يقوم في المجال الاقتصادي على الاستمرار في اتخاذ موقف القبول المطلق للخصخصة(الاليه الاساسيه للنظام الاقتصادي الراسمالى)، بحجه انه في ظل هذه الخصخصة تم تحقيق قدر كبير من التقدم الاقتصادي، لكن هذا الموقف يتجاهل حقيقة أن الذى يستفيد من التقدم الاقتصادي في اى نظام اقتصادي راسمالى هم الاقليه وليس الاغلبيه، لذا كانت بداية ثوره الشباب العربي في الدول العربية التي اتخذت موقف القبول المطلق من الخصخصة ( تونس ومصر)، فضلا عن العديد من الثورات الشعبية التي قامت من قبل(نهاية القرن السابق وبداية الالفيه الجديدة)، في العديد من دول العالم الثالث (كإندونيسيا والأرجنتين والإكوادور وبوليفيا وغيرهم)، ضد انظمه اتخذت ذات الموقف من الخصخصة( تحت شعار الليبرالية الجديدة، وبتوصية من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ). المقياس الخاص للاستقرار: كما أن هذا الموقف يقوم في المجال القانوني على وضع مقياس خاص واستثنائي للاستقرار غير المقياس القانوني له ،وهو الذى لن يؤدى فى خاتمه المطاف إلا إلى عدم الاستقرار ، إذ لا يستطيع أحد من الناس وهو يمارس حياته ويدخل في علاقات خاصة أو عامة مع غيره أن يعرف مقدما أن ما يقوم به يطابق أو لا يطابق مع هذا المقياس الخاص. الانفصال الاجتماعي: كما أن هذا الموقف يقوم في مجال العلاقة بين دولتي السودان على العمل على محاوله إلغاء الروابط الموضوعية(الجغرافية،التاريخية،الاجتماعية،الحضارية...) بين الشمال والجنوب ، بعد الانفصال السياسى للجنوب ، هذه المحاولة وان كان مصيرها الفشل ،إلا أنها قد تمهد الطريق، أمام مزيد من التفتيت،على أساس شعوبي أو قبلي. التركيز على العوامل الخارجية : كما أن هذا الموقف يركز في تفسير الأحداث على العوامل الخارجية،ويتجاهل - او يقلل من أهميه -العوامل الداخلية. وهو بذلك يتبنى نظريه المؤامرة التي تحمل القوى الخارجية المسئولية وتوجه الادانه إليها ، و تعفى القوى الداخلية من اى مسئوليه أو ادانه. الموقف الثالث : الارتباط والتمييز: أما الموقف الثالث من العلاقة بين مستقبل السودان وثوره الشباب العربي فيرى أن هناك علاقة بينهما ، و يجعل هذه العلاقة علاقة ارتباط وتمييز ، لأنه يستند إلى فكره مضمونها أن الوجود العام لا يلغى الوجود الخاص، بل يحده كما يحد الكل الجزء فيكمله و يغنيه. هذا الموقف يرى أن تأثر مستقبل السودان بثوره الشباب العربي (وتأثيره عليها ايضا)هو محصله للتأثير المتبادل كسنه إلهيه (قانون) كليه ، كما انه محصله للروابط الموضوعية(الجغرافية،التاريخية،الاجتماعية،الحضارية...)التي تشد أجزاء الامه رغم التجزئة، غير أن هذا التأثير مقيد وليس مطلق ، ويتمثل هذا التقييد في أن توفر أو لا توفر الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية (الخاصة بالواقع السوداني)،الشروط الموضوعية والذاتية للثورة. دور المثقفين : هذا الموقف يرى أن من واجب المثقفين (كطليعة للشعب وليس كنخبه منفصلة عنه) هو احترام اراده الشعب في اختيار الكيفية المناسبة للتغيير وتوقيته...، وان يقتصر دورهم على الكشف عن السنن الالهيه(القوانين) التي تضبط حركه التغيير،والكشف عما يتسق أو يتناقض معها من آليات التغيير، أما دعوه الشعب إلى الثورة ، بدلا من العمل على توفير الشروط الذاتية لها (كما عند بعض أنصار الموقف الأول)،أو دعوته إلى عدم القيام بالثورة، بدلا من العمل على القضاء على العوامل التي تؤدى إليها( كما عند بعض أنصار الموقف الثاني)، فهو يتناقض مع حقيقة أن الثورة ليست فكره( ذاتيه) ، بل هي فعل جماعي تلقائي، تضبط حركته سنن إلهيه (قوانين) موضوعيه، (غير متوقفة على الوعي أو عدم الوعي بها)، كما أنها ليست قرار فردى ارادى (اختياري)، بل هي ظاهره اجتماعيه تتحقق (حتما) في حال توافر شروطها. الفعل التراكمى:كما ان هذا الموقف يرى ان تعريف الثوره بانها تغيير فجائى هو تعريف صحيح من ناحيه شكلها النهائى ، لكن هذا الشكل النهائى له جذورسابقه ،وبالتالى يمكن وصفها - بالنظر الى هذه الجذور- بانها الفعل التراكمى .وهنا يتضح لنا خطاْ الموقفين السابقين لان كليهما يتجاهل هذه الخاصيه التراكميه للثوره، من خلال الحديث عن فوريه الثوره فى الموقف الاول ، او من خلال نفى صفه الثوره عن الاحتجاجات والانتفاضات الشعبيه فى الموقف الثانى. الواقع السودانى: كما ان هذا الموقف يرى أن التحليل المنهجي للواقع السوداني (السياسى الاجتماعي الاقتصادي ...) يكشف لنا عن عدم اكتمال توافر الشروط الذاتية للثورة (والتي تتمثل في أن هذه الظروف ، لم تسمح للممارسة الديمقراطية ،بان تتعمق وتنمو إلى الحد الذي تستطيع فيه الجماهير امتلاك المقدرة الشعبية على فرض إرادتها ) نتيجة لعوامل متعددة (كشيوع القبلية والطائفية ، وضعف مؤسسات المجتمع المدني...)، رغم توافر شروطها الموضوعية(وتتمثل في أن هذه الظروف تحول دون تغيير هذا الواقع ، من خلال حل المشاكل التي طرحها هذا الواقع). خياران: وطبقا لهذا التحليل فان هناك خياران يحددان مستقبل السودان: الخيار الأول: يقوم على ترك الامتداد التلقائي للظروف، مما يؤدى موضوعيا إلى اكتمال نضح الشروط الذاتية للثورة، ومن ثم حتمية قيامها، وقد اشرنا إلى هذا الخيار بالتفصيل عند الحديث عن الموقف الثاني من العلاقة بين مستقبل السودان وثوره الشباب العربي. الخيار الثاني: الحيلولة دون الامتداد التلقائي للظروف (من خلال المعرفة بالماضي وقوانين وقوعه وتعديل شروط تحقق تلك القوانين)، والانتقال بالواقع مما هو كائن إلى ما هو ممكن تغيير الواقع بالممكن، هذا الخيار مقصور على حاله عدم توافر شروط الثوره فى واقع معين ،،كما انه الخيار الوحيد الذى يمكن أن يحول دون قيام الثورة ، لأنه يحول دون اكتمال توافر شروطها، خلافا لاستخدام القوه للحيلولة دون قيام الثورة ، الذى يساهم في اكتمال توافر الشروط الذاتية للثورة، ومن ثم يساهم في قيام الثورة(كظاهرة حتمية متى توافرت شروطها)، كما يساهم في إلغاء طابعها السلمي أيضا. هذا الخيار يقوم على: الموقف النقدي من الخصخصة: تجاوز موقفي القبول المطلق أو الرفض المطلق للخصخصة ، إلى الموقف النقدي منها و قائم على: التأكيد على دور الدولة في الاقتصاد ، مع العمل على إصلاح القطاع العام ،وعدم خصخصة المؤسسات الإستراتيجية والسلع الضرورية،وضمان ديمقراطية خصخصة القطاعات والسلع الأخرى بالرجوع إلي الشعب ورقابه الدولة ، وتوجيه القطاع الخاص والاستثمار الاجنبى نحو المجالات الانتاجيه التي تحقق الفائدة للمجتمع لا المجالات الاستهلاكية على حساب المجتمع، وتفعيل مؤسسات الضمان الاجتماعي، وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني ذات الصلة كالجمعيات التعاونية والنقابات... الانفصال السياسى: اعتبار أن انفصال الجنوب وإعلانه الاستقلال هو خطوه للوراء، وان كانت قد أملته جمله من الظروف التاريخية والسياسية والدولية...المتفاعلة، لذا يجب العمل المشترك على: ضمان عدم التراجع خطوات أخرى للوراء بمزيد من التفتيت ، وذلك عبر التوافق بين النخب السياسية السودانية في الشمال والجنوب ، على جمله من القواعد والقوانين والاتفاقيات..القانونية والسياسية والاجتماعية والاقتصاديه...التي تتيح للروابط الموضوعية(الجغرافية،التاريخية،الاجتماعية،الحضارية...)التي ستظل تشد أجزاء الوطن الواحد رغم الانفصال السياسي، ان تعبر عن ذاتها بأقصى درجه ممكنه في ظل هذا الانفصال السياسي، و تقلل من مقدره الحدود السياسية على تعطيلها، و العمل على اتخاذ كل الخطوات الممكنة للأمام باتجاه الوحدة . المقياس القانوني للاستقرار: الحفاظ على الاستقرار طبقا للمقياس القانوني،اى اتفاق علاقات الناس مع القانون . مكافحة الفساد: : وضع آليات وقوانين لمكافحه الفساد مثل : وضع ضوابط للمنافسة بين القطاعين العام والخاص كدعم القطاع العام ، وتفعيل الرقابه فيه ،وتحفيز العاملين به ، وان يكون لكل قطاع مجالات محدده مقصورة عليه وحده .و بالتالي بحيث يصبح من غير الممكن أن تنتقل قوة العمل أو الاستثمارات أو الأدوات أو البضائع أو الخدمات... من القطاع العام إلى القطاع الخاص أو العكس .و تطوير نظام اختيار وتعيين وترقية العاملين اعتمادا على مبدأ الكفائه وليس الولاء، و إصدار قوانين صارمة لمكافحة الفساد وتطبيق مبدأ من أين لك هذا. الربط بين الداخل و الخارج: الربط بين مشكلتي الاستبداد الداخلي والاستعمار الخارجي،باعتبار أن الأول هو قيد داخلي على حرية الشعوب ، بينما الثاني هو قيد خارجي عليها. مشكله التهميش : الإقرار بمشكله التهميش باعتبار أنها مشكله ذات أبعاد متعددة(تاريخيه ، اقتصاديه ، سياسيه، عرقيه...)، وليست ذات بعد واحد،وإنها مشكله عامه وليست مشكله خاصة، وأنها محصله تراكم تاريخي طويل، وبالتالي فان حلها على المستوى العملي يكون بالعمل المشترك والتدريجي (بالانتقال من ما هو كائن ،إلى ما هو الممكن، إلى ما ينبغي أن يكون),أما حلها على المستوى الفكري فيكون من خلال رفض مذاهب الوحدة المطلقة في مجالات الهوية، المجال السياسي ،الاقتصادي، القانوني،الثقافي... وتبنى مذهب العلاقة الجدلية بين الوحدة والتعدد في مجالات الهوية، المجال السياسي، الاقتصادي ،القانوني،الثقافي.... - للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة العنوان http://drsabrikhalil.wordpress.com) ). Sabrimohamedkhalil Khairi [[email protected]] /////////////////