دولة إفريقية تصدر "أحدث عملة في العالم"    والي الخرطوم يدشن استئناف البنك الزراعي    الناطق الرسمي بإسم القوات المسلحة السودانية: نحن في الشدة بأس يتجلى!    السودان: بريطانيا شريكةٌ في المسؤولية عن الفظائع التي ترتكبها المليشيا الإرهابية وراعيتها    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    البطولة المختلطة للفئات السنية إعادة الحياة للملاعب الخضراء..الاتحاد أقدم على خطوة جريئة لإعادة النشاط للمواهب الواعدة    شاهد بالفيديو.. "معتوه" سوداني يتسبب في انقلاب ركشة (توك توك) في الشارع العام بطريقة غريبة    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تقدم فواصل من الرقص المثير مع الفنان عثمان بشة خلال حفل بالقاهرة    شاهد بالفيديو.. وسط رقصات الحاضرين وسخرية وغضب المتابعين.. نجم السوشيال ميديا رشدي الجلابي يغني داخل "كافيه" بالقاهرة وفتيات سودانيات يشعلن السجائر أثناء الحفل    شاهد بالصورة.. الفنانة مروة الدولية تعود لخطف الأضواء على السوشيال ميديا بلقطة رومانسية جديدة مع عريسها الضابط الشاب    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    موظفة في "أمازون" تعثر على قطة في أحد الطرود    "غريم حميدتي".. هل يؤثر انحياز زعيم المحاميد للجيش على مسار حرب السودان؟    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    معمل (استاك) يبدأ عمله بولاية الخرطوم بمستشفيات ام درمان    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الثلاثاء    انتدابات الهلال لون رمادي    المريخ يواصل تدريباته وتجدد إصابة كردمان    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بعد أزمة كلوب.. صلاح يصدم الأندية السعودية    الإمارات وأوكرانيا تنجزان مفاوضات اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة    القلق سيد الموقف..قطر تكشف موقفها تجاه السودان    السودان..مساعد البرهان في غرف العمليات    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جعفر نميري، جُرم النسيان و جريمة التناسي! ... بقلم: عمر جعفر السّوْري
نشر في سودانيل يوم 28 - 07 - 2009

يصبح التسامح جريمة نكراء حينما يتعلق الامر بالشر و أهله
توماس مان
في منتصف تسعينيات القرن الماضي شيع خلق كثير جلهم من السودانيين القاطنين بمصر موظف سوداني من قدامى العاملين بجامعة الدول العربية وافته المنية بعد معاناة طويلة مع المرض. سارع إلى المقبرة كل من سمع بوفاة ذلك الرجل الفاضل من سياسيين و دبلوماسيين و منفيين و زوار و تجار، و رهط من الناس لم أعرف من أين أتوا و كيف جاءوا. كنت يومذاك في زيارة عابرة إلى مصر. أدرت البصر بين الحشد أتبين من أعرف و من اجتهدت لأعرف بعد أن تغيرت ملامح الكثيرين. بعضهم ازداد قصرا كأنما نقعته في ماء البحر الميت سنين عددا، و البعض الآخر تضخم فاستدارت قامته الرفيعة الطويلة، و آخرون لم يتغير فيهم شيء، رغم مرور السنين، فظلوا على حالهم الأول. رأيته يقف وحيدا عند طرف المقبرة، يتجنب الناس النظر إليه، و يتحاشون الاقتراب منه كأنه مجذوم أو أبرص أو كبعير أجرب، سوى ثلاثة أشخاص صافحوه على عجل ثم اندسوا بين الناس مثل من أتى كبيرة يخشى بعدها التقريع، و يسعى إلى طلب العفو و المغفرة. ساعتئذ، تمثلت بيتين لابن زريق البغدادي من جمان قصيدة يقول فيهما:
رُزِقتُ مُلكاً فَلَم أَحسِن سِياسَتَهُ وَكُلُّ مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
وَمَن غَدا لابِساً ثَوبَ النَعِيم بِلا شَكرٍ عَلَيهِ فَإِنَّ اللَهَ يَنزَعُهُ
و لما انصرف الناس زرافات يعزي كل منهم الأخر و يواسيه، رحل وحيدا بائسا يتلفت حوله لعل أحدهم يسير معه، و قد كانوا في غابر الأيام يحيطون به من كل جانب و يتمسحون بجلبابه كأنه ولي صالح. و من بين القوم في ذلك اليوم الحزين بعاصمة الكنانة مَن كان ِمن أتباعه و صنيعته و سدنته، ثم تقافزوا من القارب الغارق كالفئران المذعورة عند الفيضان العارم.
و في خروجي من الجبانة بعد أن أودعنا الرجل مثواه الأخير تذكرت قصيدة شاكر مرسال التي وصف فيها استيلاء قيادة الجيش السوداني على السلطة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1958 بأمر من الاميرلاي (العميد) عبدالله بك خليل، رئيس الوزراء المنتخب، وزير الدفاع في حكومة يفترض أن إرادة الناس أتت بها عبر صناديق الاقتراع لتؤدي الأمانة و تصون الثقة، فخانت أمانة ثمينة، و فرطت في ثقة نفيسة:
ُولِدتَ سِفَاحَاً فما أنتَ حُرْ فواجِه مَصِيرَكَ أو فانتحِرْ
و ما أنتَ إلا جَوَادٌ ذليلٌ تمطّى عليه رُعَاةُ البقرْ
إلى اخر القصيدة العصماء. ثم عاد بي المشهد أعواماً إلى الوراء حين صحبت جعفر نميري في جولته على النيل الأبيض التي انتهت بمعركة الجزيرة أبا و الهجوم على حي ودنوباوي الذي ولد هو و مات فيه.
درج نميري في بدء عهده على التجول في البلد الممتد الأطراف ليتعرف على أحوال البلاد و العباد، واعداً الناس بإصلاح المآل، و ذهب في بعض الأحيان إلى الوعد باستخراج الماء من الحجر الصوان، و المنّ و السلوى من الصخر الصلد، و الشهد من نحل يتغذى على رمل الصحارى لا الأزهار، و الحليب من ضروع اليباس و اليباب، لا الأبقار و الإبل و النعاج و الماعز.
كانت دور الصحف و وكالات الأنباء (محلية وعالمية) و أجهزة الإعلام الأخرى تداور إرسال العاملين بها من صحافيين و إعلاميين إلى مرافقة الحاكم و صحبه في تلك الجولات. لما عدت من برلين، قال لي الصحافي الكبير النبيل، سعد أحمد الشيخ، صاحب و رئيس تحرير وكالة أخبار الخرطوم، و مدير مكتب وكالة الأنباء الإقليمية (رويتر): انه دورك الآن للالتحاق بجولة النيل الأبيض. بدأت الجولة برحلة على متن باخرة رست في جبل الأولياء بالقرب من العاصمة، إلا إن السيارات الرباعية الدفع كانت تسبقنا إلى حيثما ترسو الجارية. من بين رفاق تلك الرحلة الدامية الزملاء: الفاتح التجاني عن الرأي العام و محمد احمد عجيب عن الأيام و عبد العظيم عباس عن وكالة الأنباء المحلية، و محمد محجوب سليمان عن جريدة القوات المسلحة الذي أصبح فيما بعد مستشاره الإعلامي و مساعده في أمور لا علاقة لها بالإعلام، و آخرين من الإذاعة و التلفزيون و مصورين من وزارة الإعلام. صحب نميري معه عضوين من أعضاء مجلس انقلاب 25 مايو/أيار 1969، هما مأمون عوض أبي زيد، و أبا القاسم محمد إبراهيم، و من الوزراء مرتضى أحمد إبراهيم الذي كان وزيرا للري، و وزير التعاون و التنمية الريفية في تلك الحقبة الدكتور عثمان أبو القاسم، و الدكتور علي التوم، الخبير في منظمة الأغذية و الزراعة التابعة للأمم المتحدة. و كانت في صحبتنا أيضاً سيدتان!
قبل وصولنا إلى مدينة الدويم و الانتقال منها بالسيارات إلى بخت الرضا توقف المركب قبالة بلدة صغيرة ركبنا للوصول إليها من المرسى السيارات ذاتها. هناك قيل لنا إن رجلاً أخفى سكينا في عمامة حاول اغتيال نميري، إلا أن يقظة الحرس حالت دون المعتدي و ما نوى. صعد العقيد نميري منبراً أعد له ليخاطب أهل البلدة، فلم يأت على ذكر المحاولة غير انه أعلن في سياق الكلمة تعيين الرائد مأمون عوض أبي زيد رئيسا لجهاز الأمن القومي. تلك كانت المرة الأولى التي نسمع بها عن هذا الجهاز و وجوده، فكان خبر اليوم. حينما عدنا، فيما بعد، من تلك الرحلة الشاقة إلى الخرطوم بدأ أبو زيد في بناء هذا الجهاز و تولى الألمان الشرقيين تدريب طلائعه الأولى و وضعوا له لبنات الأساس وفق إدارة استخباراتهم المخيفة التي عرفت باسم "استاشي"، ثم سيطرت الاستخبارات المركزية الاميريكية بعد ذلك على شؤون الجهاز بمعاونة أجهزة حليفة، حينما تغيرت وجهة النظام بأسره إلى غير اتجاه.
عدنا من تلك البلدة إلى المركب لمواصلة الرحلة إلى الدويم. عند المرسى، قبل الرحيل، تجمع بعض الأهالي يهتفون للانقلاب و رأسه؛ صعد جعفر نميري إلى سارية الباخرة لتحيتهم فصعدت خلفه. و لما تحركت الباخرة و بدأت تبتعد عن ضفة النهر لحظ وجودي خلفه فبدت على ملامحه علامات الاستغراب، لا الجزع، و نظر إلى رجال الحماية الواقفين على سطح المركب يتملكهم الرعب و الوجل و تنطق ملامح وجوههم بالخوف، ظنا منهم إنها محاولة اغتيال ثانية تلي المحاولة الأولى التي أحبطت منذ حين. أخذت اهبط درجات السلم قبله و هو يهبط خلفي. قلت له قبل أن نبلغ السطح: اليوم هو تمام الشهر العاشر لإمساكك بزمام الأمور في السودان، فهل لي في لقاء تخص به وكالة أخبار الخرطوم و رويتر بهذا المناسبة؟
فسألني: ما التاريخ اليوم؟
قلت له: انه الخامس و العشرين من مارس 1970.
قال لي: سنرى فيما بعد، و انصرف إلى جناح القيادة و المسؤولين في الطابق الثاني من الباخرة و ذهبت إلى الانضمام لبقية الزملاء على مائدة الغداء.
نبهني الزملاء إلى خطورة ما فعلت، لا سيما بعد حادثة الظهيرة. سألني جميعهم عن فحوى الحديث الذي دار بيني و بين نميري أثناء نزولنا من السارية، فلم اجبهم. ثم سألني محمد سليمان عن تفاصيل حادثة البلدة - إذ لم يرافقنا في ذلك المشوار القصير - فروى له كل منا ما رأى من حيث كان واقفا و ما علم، و خبر إنشاء جهاز الأمن القومي فتهللت أساريره فرحاً!
لحظت أثناء توقفنا في الدويم و بخت الرضا توترا متزايدا لدى رجال الحماية و قلقا بادياُ عند بقية الوفد الرسمي، لم أعرف كنهه، لكنني بقيت يقظاً.
كنت قد استأذنت سعد الشيخ، قبل السفر، أن اطرح على نميري أسئلة (من العيار الثقيل)، مثل التوتر الصامت و الخفي بينه و بين قوى اليسار، و خصوصا الشيوعيين، و أسباب هذا التوتر، و ما قد يفضي إليه. فشجعني سعد، و هو صحافي قل نظيره، على ذلك.
في مساء يوم الحادثة-الاغتيال دعانا مدير مكتبه إلى مؤتمر صحافي ينعقد في جناحه، فعرفت إنني لن أحظى بما منيت النفس به، و قررت ألا أطرح أية أسئلة، بل أنتظر حتى نعود إلى العاصمة فأحاول مرة اخرى. لم يخض نميري في ذلك اللقاء مع ممثلي الصحافة فيما حدث في تلك البلدة، غير أن الزميل عبد العظيم عباس ما فتئ يحاصره بأسئلة "محرجة"، و هو يناور، و صحبه يخفون امتعاضهم لتمادي عبد العظيم في أسئلته الجريئة. ألتفت الحاكم إلىّ ليغير مجرى الحديث و قال: ماذا تريد أن تسأل؟ أجبته بأن الزملاء قد طرحوا ما فيه الكفاية الآن، أما الحديث الذي أردته منك، ربما يستحسن تأجيله إلى حين العودة إلى الخرطوم؛ فلم تعجبه الإجابة، و لكنه قبلها على مضض. و هنا انفض سامر الليل و نزلنا إلى مهاجعنا. ذلك الحديث الذي أردته لم يجر قط، رغم لقائي بنميري في مناسبات لاحقة حتى يوليو/تموز 1971.
الأسئلة المتلاحقة التي انسالت من الزميل عبد العظيم عباس تلك الليلة - و هو صحافي بالفطرة، كان يرتجى لمقبل الأيام - و الإلحاف الذي طبع بعضها و الجرأة في متابعتها، أورثته نقمة الزبانية فلاحقوه بلا كلل حتى دفعوه إلى حافة الجنون، و من ثم غيابه الذي لا أراه إلا قتلاً جرى ببطء و قسوة ما بعدها قسوة، مع سبق الإصرار و الترصد. دم عبد العظيم في رقبة الجلاد و معاونيه، و لابد من ضمه إلى بقية ملفات جرائم 25 مايو/أيار يوم يصحو القوم من سباتهم و تُنظر تلك الملفات العالقة.
ظلت المركب تتهادى على صفحة النيل الأبيض الساكنة حتى ضحى اليوم التالي عندما اقتربنا من مدينة الكوة ليرتفع منسوب التوتر حتى يبدو واضحاً في وجوه الوفد الرسمي و حرسهم و عسسهم و خفرائهم، كما أشارت إليه همهمات و خطى مسرعة تذرع الباخرة جيئة و ذهابا أو تصعد و تهبط و تتعثر بين طوابقها الثلاثة. بعد قليل، بدى يلوح في الأفق قارب صغير يتجه صوب الباخرة و على متنه ثمة أشخاص تبين فيما بعد، لما دنا القارب منها، أنهم عضو مجلس قيادة الانقلاب أبو القاسم هاشم و عضوا قيادة الحزب الشيوعي عمر مصطفى المكي و معاوية إبراهيم سورج، و هما من أهل الكوة فيما أظن، و ثلاثة عساكر آخرين.
ساعتئذ بدأ المشهد في التشكل، لا سيما حينما لمحنا عن بعد جنداً يحيطون بجمهرة من الناس في "جبب" الدراويش يرفعون راياتٍ سود و يحملون رماحاُ بيض، و يتمنطق بعضهم بسيوفٍ صوارم، و خناجر في أغمادها تبدو من تحت أذرعهم. تلك كانت نذر المواجهة الدامية التي احتدمت لاحقا بين نظام جعفر نميري و طائفة الأنصار المهدوية. أما القارب و بعض ركابه فقد دل على ما كنا نسمع به همسا من انشقاق في صفوف قيادة الحزب الشيوعي السوداني، و برهان على عمق ألازمة بين النظام و التيار الرئيس من اليسار السوداني و حلفائه في الداخل و الخارج. فقد تزعم عمر مصطفى المكي و معاوية إبراهيم مع آخرين الانشقاق الأكبر و الأكثر تأثيراً في تاريخ الحزب الشيوعي السوداني حتى الساعة.
توقفت الباخرة قبل رسوّها في الكوة، فصعد إليها من كان بالقارب مهرولين نحو جناح نميري و صحبه و وزرائه. ظلت الجارية واقفة لبعض الوقت حتى أُذن لها بالإبحار، فواصلت طريقها حتى المرسى الذي احتشد فيه (الأنصار) المحاطون بالمظليين و الشرطة العسكرية. حينما رست الباخرة كنت و مصور من وزارة الإعلام أول من قفز منها، مسرعين نحو الفريقين المتقابلين فصرنا بينهما. خلفنا ركض الرائد أبي القاسم محمد إبراهيم، و في خفة و استهتار بأرواح العباد أعطى أمره إلى الجنود بالانقليزية (شوت) ليطلقوا النار على بسطاء الناس، هؤلاء الذين غرر بهم من غرر. قعقع السلاح لبرهة. لكن مجيء أبي زيد، الذي تقلد اليوم الفائت منصب رئيس جهاز الأمن القومي، خلفه في سرعة البرق منع وقوع المأساة، إذ أوقف أمر الرجل الطائش... أيضا بالانقليزية، (استوب)! استرددنا أنفاسنا التي انقطعت لحظات تعدها دهراً، فخرجت و ذلك المصور بعيدا عن صفوف المحتشدين قبالة بعضهم البعض.
سار موكب الزوار نحو سرادق أعد لاستقبالهم، مخلفا وراءه جنوداً و أنصاراً متأهبين. كان بين المستقبلين بعض رجال العهد الجديد من أهل البلدة، أبرزهم العميد المتقاعد، عمر الحاج موسى الذي أصبح وزيرا للإعلام لاحقا. و كانت تربطني به علاقة طيبة و مودة، قبل الانقلاب و بعده. و الكوة من حواضر السودان التي أضاءت أنوار العلم في بواكير الأيام، و بها مدرسة أبي دليق، أقدم مدرسة ابتدائية على المنهج الدراسي الحديث، و منها أتى التجاني الماحي، رجل يكاد القلم أن يعجز عن وصف مناقبه.
لم يجر احتفال الكوة كما أُريد له، و لم تسر الأمور كما رسم لها، إذ تعجل أهل السلطة مغادرة المكان بعد كلمة قصيرة من هذا و ذاك و من زعيم الانقلاب، في جميعها وعيد لا وعد، و نذر لا بشائر، فتوجسنا خيفة مما هو قادم.
لما عاد الموكب إلى المرسى، لم نجد الحشدين، فقد تفرق الأنصار، و تراجع الجنود إلى مواقع اخرى. بذل عقلاء فطنين جهوداً جبارة صرفت المتجمهرين إلى حال سبيلهم. فقد قيل لهم أن رسالتهم وصلت، و أن الإسلام بخير! صعد الجميع إلى المركب التي أسرعت نحو مدينة كوستي، و التوتر يتعاظم بين رهط (القائد)، حتى تكاد الأعصاب المشدودة تبرز للعيان. و من فرط التوتر أضحت السيدتان وحيدتين سحابة ذلك النهار لانشغال مَن كان يحوم حوليهما كالذباب الشرس الطنّان بأمور أخرى استجدت، حسبوها خطراً داهماً يستدعي اليقظة و الحسم.
تداعت الحوادث في كوستي بوتيرة فائقة السرعة. ذهب (القائد) و حاشيته إلى استقبال أُعد لهم ليلقي خطاباً فيمن تجمهر هناك. لكن الحفل سرعان ما أتى إلى نهاية درامية بعدما تردد عن إحباط محاولة اغتيال اخرى استهدفت نميري. لم يجر تحقيق في كلتا المحاولتين المزعومتين، بل وجهت أصابع الاتهام و الإدانة في ذات الوقت إلى جماعة الأنصار. هنا تقرر إنهاء زيارة منطقة النيل الأبيض و العودة إلى الخرطوم. لم نرجع إلى الباخرة مرة اخرى لنجمع متاعنا، بل طُلب منا أن نستقل السيارات حتى العاصمة. و قبل أن نبتعد عن كوستي كثيرا، كان دوي قنابل ألقت بها طائرات شاهدناها في غدوها و رواحها يصم الآذان، يتبعه أزيز الرصاص و انفجارات متلاحقة يتردد صداها في الآفاق جعلت أعشاب النيل المتناثرة فوق صفحة مياه النيل الهادئة تترجرج و ترتعد.
سمعنا بالهجوم على ودنوباوي و مسجد الأنصار في ذلك الحي و نحن على أبواب الخرطوم. هرعت إلى ميدان المعركة القريب من حيث أسكن فردني طوق الجنود الذي يحاصر الحي من جميع الجهات، لكن الدخان و الأتربة المتصاعدة من الشرق وصلت إلينا و معها أصوات الرصاص و القنابل و سيارات الإسعاف. تناقلت الأفواه أخباراً عما يجري هناك و القتلى الذين سقطوا، و بينهم ملازم صديق درس معي في ثانوية قريبة من حيث قضى.
لم تكن لتلك المعارك التي دارت في الشهر العاشر من تسلم مجلس قيادة 25 مايو/أيار 1969 أن تجري و لتلك الدماء أن تسيل و لتلك الأرواح أن تزهق، لو حكّموا العقل و ساسوا الأمور و تذكروا القربى و غلبوا روابط المواطنة على الهوى. إلا أن ذلك المجلس يصدق عليه ما قاله عن مجلس آخر قريب (الزعيم)، الشاعر أبوطرّاف النميري:
يا مجلساً فرض الطغيان شرعته بيني وبينك لا قربى ولا نسب
كانت تلك الأحداث بداية إدمان نميري و بعض زمرته و نظامه العنف و الدم و قتل النفس التي حرم الله و كل الشرائع إزهاقها، فقد ولغوا في دماء السودانيين، و أباحوا لأنفسهم تجريم فعل ارتكبوه هم أنفسهم حينما سطوا على السلطة بليل؛ و كذلك فعل من سبقهم و من لحقهم. ففي أعقاب فشل انقلاب 19 يوليو/تموز 1971، نصّب زعيم الجندرمة نفسه قاضياً و هو يترنح سُكراً. فإلى الخمر التي كان يعب منها - كما وصفت فيما بعد الزميلة مريم روبين، مراسلة مجلة المصور المصرية، التي كانت تجلس إلى جانبه طيلة محاكمات معسكر الشجرة – كان الجلاد المخمور يكرع دماء رفاق السلاح، و ينتشي لرؤية أجساد الأخيار و هي تتدلى من حبال المشانق ظلماً، بعد أن رأت محكمة عسكرية شكّلها هو غير ما رأى؛ لكن الخمر و الطغيان حجبا بصره و بصيرته.
إثر عودة نميري إلى السلطة في يوليو/تموز 1971 ساد البلاد عهد من الإرهاب الأعمى و التسلط الغاشم و الرعب. فبعد ليلة مطيرة في الأسبوع الثالث من ذلك الشهر وقفت و زملاء صحافيين خارج مقر جريدة الرأي العام، نطل على ميدان أبي جنزير الشهير، فاذا بموكب أبي القاسم محمد إبراهيم و حرسه من المظليين يعبر الشارع من الشرق إلى الغرب في سيارات تسابق الريح، و هم يطلقون وابلاً من الرصاص في الهواء، يصفق لهم بعض الرعاع و السوقة و الرجرجة و الدهماء، و يلوذ آخرون خوفا بالأزقة و الحواري القريبة. تذكرت ساعتئذ أفلام الغرب الاميركي و العصابات المخمورة التي تغير على البلدات الآمنة عند حدود المكسيك، فأيقنت أن السودان قد وقع تحت حكم عصابة سكرى فاجرة ستعيث فيه فسادا، تقتل و تنهب، و تذل هامات الرجال و تسبي النساء. و هكذا كان.
في ذلك العهد البائس دخل السودان النفق المظلم، و أصبحت الأمور تدار وفق أهواء الطاغية و رغباته و أمانيه، و مشاعر ضيوفه و أصدقائه و ليس وفق مصالح البلاد و أهلها، أكان ذلك الامر متعلق بالداخل أو الشأن الخارجي. فعن ترحيل الفلاشا من شرق السودان إلى فلسطين المحتلة - و قد كُتب عنه الكثير – لم يشر أحد إلى ارتباطه بنصيحة تلقاها الحاكم، همساً في أذنه، من عميد في الجيش السوداني يحمل اسماُ مشابهاً لاسمه، و تأكيد آخرين من البطانة الفاسدة لتلك النصيحة، بان تعجيله (بإعادة هذه القبيلة التائهة من شعب الله المختار إلى أرض الميعاد) سيرزقه ذرية كثيرة صالحة! كان ذلك آخر سهم في كنانة الذرية بعد أن يأس مشعوذو نيجيريا الذين شد الرحال إليهم، في كل المواسم، عن الوفاء بما وعدوا به.
أما مشروع المنطقة الحرة في البحر الأحمر الذي كان سيشكل دويلة مستقلة تقتطع من أرض السودان منذ البدء في إنشائها؛ دويلة كاملة التجهيز بحرسها و جيشها و علمها و حدودها، فقد أحبط بمجهود خارق من قوى لمست فيه خطراً على أمن بلادها القومي. و تلك حكاية تروى بتفاصيلها لوحدها، و كنت قد رأيت خرائط المشروع و خططه في مكتب مَن اختير واجهة لأصحابه الحقيقيين بالعاصمة الإيطالية روما.
و لعل الرواية التالية التي حدثني بها اللبناني البقاعي سهيل سكرية، عضو القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي – جناح سورية، تدل على طريقة الطاغية في إدارة سياسة السودان كما يشاء دون حسيب أو رقيب، يفاجئ أقرب المقربين إليه و أجهزة الدولة و يربكها. جاء سهيل سكرية إلى الخرطوم على رأس وفد حزبه لحضور مؤتمر الاشتراكي السوداني الذي أطلق فيه المطرب المغني عبدالعزيز داؤود طرفته التي ذهبت مثلا حينما أجاب عن سؤال الحضور له عمن يمثل، قائلا: انه يمثل السواد الأعظم! و قد كان عبدالعزيز داكن البشرة، جسيماً، متيناً، سامقاً.
قال سكرية انه أبدى ملاحظة عابرة لمرافقيه السودانيين من موظفي المراسم عن خطاب جعفر نميري أمام ذلك المؤتمر حينما سألوه عن رأيه في الخطاب. ذكر لهم الضيف القادم من سورية أن الخطاب جيد للغاية، "لكنه حزين لان الرئيس لم يشر إلى القضية الإرترية و ثورة الشعب الإرتري." كان حزب البعث العربي الاشتراكي بشقيه السوري و العراقي يضع نصرة ثوار إرتريا و قضيتهم ضمن أولوياته و في صلب نشاطاته المحلية و الإقليمية و الدولية. نُقلت هذه الملاحظة إلى جعفر نميري، فدعا إلى مؤتمر صحافي عاجل حضره جميع الصحافيين الضيوف و هؤلاء القادمين مع وفود بلادهم و المراسلون المحليين و مندوبو الصحف السودانية و غيرهم. خصص نميري مؤتمره الصحافي للهجوم على إثيوبيا، بلا سابق إنذار، و للحديث عن إرتريا و ثورتها و استعداد السودان لمساندتها و دعمها بكل ما هو متاح و غير ذلك. حدّث الصحافيون السوريون المرافقون للوفد السوري سهيل سكرية بما دار. و حينما التقى نميري به في مأدبة العشاء بادره بالسؤال: أما زلت حزينا، أم رضيت الآن؟ قال لي البعثي اللبناني: لقد بُهت و ألجمت لساني المفاجأة و الدهشة، إذ طلبت من أعضاء الوفد قبل العشاء متابعة هذا الامر العاجل و البحث عن مبررات هذا الهجوم الكاسح الذي شنه نميري على إثيوبيا فجأة بينما لم يذكرها في خطابه الذي افتتح به مؤتمر حزبه و رسم فيه سياسات الدولة في المرحلة المقبلة. توقعت أن تكون إثيوبيا قد تحرشت بالسودان أو شنت عدواناً عليه لم تردنا أخباره بعد، أو أن حركات التمرد في الجنوب السوداني، مدعومة من إثيوبيا، قد شنت هجوما ضخماً؛ لكن لم يدر بخلدي البتة أن تكون ملاحظة عابرة ذكرتها أمام مرافقي وفدنا ستصل بهذه السرعة إلى رأس الدولة و ستكون لها هذه العواقب. ثم أردف سكرية تعليقا آخرا على الطريقة اللبنانية!
أما التنمية فنتاجها مسغبة الزمان و مجاعة الثمانينيات التي فاقت أضرارها مجاعة "سنة ستة" 1306 ه أيام الخليفة عبدالله التعايشي.
و بعد هذا يأمر حكام السودان اليوم، الذين زادوا الطين بلة، بجنازة رسمية لمن ارتكب في حق السودان جرائم يشيب لها الولدان، لكن ليس في الامر غرابة، فقد اقتدوا به، و نهجوا منهجه و مشوا على دربه. فالدم الذي بالغ في إسالته لم يزل يجرى انهاراً في البلاد، و الزبانية الذين قفزوا من مركبه قبل أن تغرق تزاحموا على مركب من سطا على السلطة في 30 يونيو 1989.
الشعوب التي تنهض بعد كبوتها تحاكم حكامها الذين أساءوا و تسلطوا أو خانوا الأمانة، و هي تنظر ملياً في تاريخها، تستخلص منه العبر، و لا تمحو من الذاكرة العثرات و المحن و من تسبب بها. لم تصفح فرنسا عن المارشال بيتان، و هو مارشال بحق، و مارشال حقيقي، حاز على نجومه التي رصّعت كتفيه و أوسمته التي زانت صدره عن جدارة في ساحات الوغى إبان الحرب العالمية الأولى؛ لكن البطل خان الوطن في الحرب الثانية، فلم يشفع له صنيعه السابق. و الجنرال قالتييري و زمرته في الأرجنتين لم تمح مغامرتهم لاسترداد جزر المالفيناس (الفوكلاند) جرائمهم التي ارتكبوها بحق الشعب حينما ساموا الناس العذاب و ساقوا الآلاف إلى المعتقلات، و اختفى ألاف غيرهم عن الوجود؛ و كذلك حال بينوشيت في الشيلي. جعفر نميري مثل هؤلاء تماماً. هو ليس كالجنرال عمر برادلي الذي ازدانت كتفاه بنجوم خمس ليستحق المكوث طيلة ستة عقود و نيف في الخدمة الفعلية فيصبح صاحب أطول خدمة عسكرية في الجيش الاميركي، كذلك هو ليس مارشال الاتحاد السوفيتي أندريه قريشكو.
فلينظر القوم في تاريخهم بتمحيص و دقة، و يحاكموا الذين ارتكبوا الجرائم بحقهم و حق الوطن، و سرقوا السلطة بالقوة الجبرية و سفحوا الدم الزكي. ليكن ذلك منذ بداية العهد الوطني في نهاية القرن التاسع عشر، مرورا بأحداث عنبر جودة و مزارعي مشروع الجزيرة و مارس 1954 و انقلاب 1958 و إعدامات 1959 و هلمجرا، حتى يومنا هذا.
كانت جنازة جعفر نميري الحقيقية يوم انصرف عنه الناس في تلك الجبانة بالقاهرة منتصف التسعينيات و ليس في الثلاثين من مايو/أيار 2009. هو الآن في رحاب ملك عادل رؤوف غفور رحيم، و شديد العقاب. لكن على الأحياء أن ينهضوا بمتطلبات الحياة الدنيا التي توجب عليهم الاقتصاص فرضاً لا نفلا.
رحم الله أبا الطيب، فقد قال:
مَنْ لا تُشابِهُهَ الأحيْاءُ في شِيَمٍ أمسَى تُشابِهُهُ الأمواتُ في الرِّمَمِ
عَدِمْتُهُ وَكَأنّي سِرْتُ أطْلُبُهُ فَمَا تَزِيدُني الدّنيا على العَدَمِ
ما زِلْتُ أُضْحِكُ إبْلي كُلّمَا نظرَتْ إلى مَنِ اختَضَبَتْ أخفافُها بدَمِ
أُسيرُهَا بَينَ أصْنامٍ أُشَاهِدُهَا وَلا أُشَاهِدُ فيها عِفّةَ الصّنَمِ


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.