و أخيراً صدر قرار المحكمين الدوليين النهائي و الملزم ليفصل لنا في خصوص أيلولة أراضي "أبيي" المتنازع عليها في الملابسات المشهودة. أتؤول إلى كردفان الشمالية، أم للعموديات التسع تتيمم بها صعيد بحر الغزال الجنوبية. و أما بقية الخبر، حتى المغالطات الأخيرة حول تفاصيل و متعلقات، فهي من المعلوم للجميع بالضرورة، و بالذات تلك الفرحة العامة التي انتظمت ردود الأفعال الأولية. من هؤلاء الفرحين علناً، و في أولهم، نجد جماعة التفاوض و ناطقيه من آل المؤتمر الوطني الذين لم تخفَ بهجتهم بآبار بترول هجليج أن "بردت" لهم (ليس بعد، حسب الأخبار!). و لم يمتنع لعابهم أن يسيل على ريعها كما سال لعاب كل الحكومات علي ريع البوادي السودانية، و ذلك واضح منذ أول تصريح أدلى به ناطقهم الدرديري محمد أحمد. و قد يجوز أنّ السيد الناطق إنما يرسل رسالة بعينها إلى حزبه أو إلى أهله يهدئ من روعهم. كما يكمن في دواعي السرور المؤتمري، أن القرار و على حاله هذا، قد يساعد في حفظ ماء وجه المؤتمَر و مفاوضيه أن فلح دفعهم بتجاوزات ارتكبتها لجنة حدود أبيي السابقة حتى و لو رأت المحكمة الأخيرة إنها كانت تجاوزات جزئية فلم تدحض بها منطق التحكيم الأول بالكلية. و من الفرحين، حتى و لو تململت، الحركة الشعبية، التي و إن لم يمنحها التحكيم كل ما طلبت، فقد أثمرت خطتها التفاوضية التي صبرت عليها صبراً طويلاً، ثمراً و لا أطيب منه، نفعتها إليه مزايدات التحكيم الأول كما جلد سياسييها في الصراع. كما و إنها، أي الحركة، تضمن بهذا القرار رضا الرابح الأكبر منه هم سادة الفرحة ذاتها، أي أبناء "الدينكا أنقوك"، و هم من هم في ذؤابتها، أنالتهم بنضالاتها غالب ما صبت إليه أحلامهم في نصيب الأسد من الجائزة الحقيقية لقرار التحكيم الأخير و التي هي الأرض لا غيرها، و لطالما اعتبروها أرضهم، فما أحلى ألا ينازعهم عليها و لا على أنهارها ساغت لهم، بعد الآن منازع. و طبعاً، بصدور القرار فقد حلّت عقدة كبيرة من عقد الشراكة الحكومية التي لا تحصى، مع إمكانية مؤكدة أن تتعقد من أول و جديد كما سارت عليه التجربة السودانية. و كذلك فقد استبانت على ضوء هذا القرار واجبات أساسية في درس استحقاقات السلام، و أصبحت برسم الإنجاز العاجل عبر جهد الشريكين. فمنها موضوع منطقة أبيي نفسه و إلى حين ترسيم حدودها النهائي، و من ضمنها تعريف المتبقي من الحدود بين الشمال و الجنوب بما ينزع فتيل النزاعات، و فيها إصدار قانون متوافق عليه لإجراء الاستفتاء في المنطقة المعنية أولاً لحسم تبعيتها، ثم للاستفتاء في كل الجنوب. فهذه، بالصلاة على النبي، ثلاث مشاكسات مما اعتدناه عن الشريكين، أرجو ألا يعودا إليها مطلقاً، لا في داحسهم و لا بالغبراء التي غبرانا. بل، علّهما فترا من الشد و الجذب السياسوي، فينيطاها بخبرات البيروقراطية المهنية و بأفانينها ... ألا ليتهما يفعلا... يريحان و يستريحان. و لقد رجوت لنا كسودانيين أن ننضج وطنية بعد هذه التجربة، و أن يكون هذا التحكيم هو آخر مظاهر التباكي بالمستشكل السوداني، الذي لن ينفد، إلى العالم. و لكم أتمنى الآن أن ينفذ هذا الحكم النهائي دونما استئناف عليه و لو كان عن ظهر غيب في القلوب، فاستئنافه عند المحكمة من المستحيلات، و أدعو أن يقع قضاؤه من نفوسنا موقع رضا حسن فتتقبله جميعاً عن قناعة أو أمل في خيره، و سواء عن احتساب في الفقد، أو عن حمد للكسب. و أن نحيطه مشمولاً بالنوايا الحسنة و الرغبة الصادقة في التعايش السلمي، و عبر حفظ الحقوق كلها للمستحقيها تاريخاً و جغرافية و معاشرة و إنسانية، و كما نُصّ عليه في إضبارة القرار. أو بكل ذلك أو أجدى منه أريحية. و لكن، و العياذ بالله من اللكننة، أخبار السويعات ثم الأيام التي تلت النطق بالحكم مباشرة، قد تخبرك أن ذلكم الرجاء ليس إلا محض أمنيات فلا يطمعن عاقل في كلها. بل هو أشفى له لو يتواضع إلى بعض الممكن منها ثم يعمل لتحقيقه. فبحسب مايكل ماكوي لِوِث و إدوارد لينو و دينق ألور و باقان أموم و ريك مشار و الدرديري محمد أحمد، و فيما أوردته عنهم واردات الإعلام من تصريحات بشأن "مناطق رمادية" على الحدود أو عن حق المشاركة في الاستفتاء لمن يكون، أو عن مناطق البترول و حدود المنطقة و تلك "الشمالجنوبية"، و عن غير هذا، و كله بعد برهة من صدور قرار التحكيم! فإن إشكالات جديدة قد أطلت برأسها، و هذا بلا شك، مما لن يدعك تتواطأ على التهاني مع الفرحين بغير ما ترس من حذر نافع تصطنعه من الحقائق. و من الحقائق التي أضحت معروفة بعد قرار هيئة التحكيم الدولية الأخير بخصوص أبيي، إنه كما قد أفرح كثيراً من الأطراف فرحة لا تخفى مظاهرها و لا أسبابها كما رصدناها في البداية، فإن طرفاً أصيلاً، هم المسيرية، لم يبد عليهم من البهجة ما يكفي لدحض كل داعٍ للارتياب في حقيقة مشاعرهم أن خالطها الغضب عن مظلمة قد حاقت بهم. و من غير طرفي الحكومة و طرف الأنقوك، نجد أن غالب الفرحين هم ممن لم يثبت قبلاً إنهم قد جعلوا لموضوع تلك الأرض بالذات أي قيمة غير قيمتها في المساومة السياسية و الوطنية.كانوا يستغلونها مرة للتحريض أو يستعيضون عنها في أخرى بآمالهم في السلام المستدام، أو ثالثة تصيبهم بالملل فيصرفونها كما طنين ذبابة عن أمانيهم في تراض وطني ذي جذب وحدوي، أو كانوا أصلاً في غنى عنها بيوتوبيا من هذا و ذاك تراوح في الأضغاث و ليس يتعللون إليها في التعلات سبباً. فلو زدت على هذي و تلك، حقيقة أن هذه الأرض بالذات ليست أرضهم التي شهدت دفن سرتهم و أول حبوتهم، و لا نشأتهم كانت بها، و لا مدافنهم كان يجب أن تكون هناك، و لا عليها سطرت تواريخ حيواتهم، و لا لهم فيها دُمر، و لا منهم نحوها شوق و لا نشوق. فلا تستغرب فرحة الجميع إذن. و أما الذين عنت و تعني لهم هذه الأرض ما هو أبقى من حقل بترول "مريوع" سينضب عاجلاً أو آجلاً، و أقوم من خطوط طول و عرض، و أطول من مسار واحد في ضمن مسارات عدداً، و أغلى من ترضية بخردلة من نسبة المائة لا تقيهم الصيف و لن تسقيهم اللبن، فهم هؤلاء المسيرية. هؤلاء الذين لن يتوقع عاقل أن رأيهم عن حقوقهم في المنطقة سيكون بأوهى من ذلك الرأي المفارق و المرجوح رغم حججه الهادرة، كما أصدره القاضي عون الخصاونة منشقاً به عن الرأي الغالب كما صدر به الحكم عن جماعة التحكيم. المسيرية و حتى الآن لم تسمع لهم نأمة رفض فتفسد تلك البهجة العامة بالكلية. و لكنهم أيضاً لم يتأخروا في الجهر بالشكاة المحقة و في رفع المطالبات السديدة. و ربما أرضاهم حتى الآن، ما أقرته لهم المحكمة من الحقوق التاريخية في الرعي هم في العادة الأكثر معاشاً به عن أنقوك. غير إنهم و قد فقدوا أراضٍ لطالما كانت من بعض دارهم التي عرفوا عن يقين، فرضاهم النهائي الكامل سيبقى أمراً مشكوكاً فيه، و بالذات لو لم يستبن لهم الخيط الأبيض في أمر المسار إلى الصعيد، خاصة فيما بعد الاستفتاءين، لو وقع بهما الانفصال أو غمّت فيهما الرؤية. فمن غير مواطن الاستقرار التاريخية كمثل "فول و الدنبلوية و سبّو و عمار الضبيب" و سواها، قد طمستها الحدود الجديدة، فإن المحتمل جداً و الراجح الورود هو؛ أن مسارات الرعي المعهودة لدى المسيرية إلى جهة البحر (نهر كير أم بحر العرب؟) أو إلى موارد الماء في الرقاب (رقبة الشايب و الرقبة الزرقا و رقبة أم بييرو) ستغلق و تنسد أمام قطعانهم. فبعد الآن ستكون كامل مراعي المسارات الوسطى قد آلت إلى حدود أبيي الجديدة، و الطريق الصاعد إلى المناهل الصيفية في مسارات الشرق و الغرب من الحدود الجديدة، قد قضمت الخريطة الأخيرة من غاياته، و استتبعت كل ذلك لإحدى المشيخات التسع يرجح منطقاً بعد الآن أنها ستكون في غزية الجنوب ثم كيفما يرشد أو يغوى، فهي سترشد أو يغويها الانفصال. إذن، فهاتيك هن الجافلات، خَلّهن، و لنقرع الواقفات. و من سيمسك بقرني ثورهن أب قَبة فحل أم صراصر لا يكاد يكظم الغيظ!؟ إنّ هذا الثور قد اعتاد على ذاك المسار كما قد يعتاد أي ثور فحل على مرعاه كنطاق حماية معلن الملكية. فلو انسد عليه الخروج و الدخول إليه بحائط حدودي أو كمثله، ناطحه نطح الحانق فلا يوهن منه القرن قبل أن يتشظى جراء نطحه خزف السلام الرهيف. إنها سيرة معروفة هي التي "جابت" الدم فيما قبل و في الراهن، فاحذروها! و سيكون من الواقعية الحميدة إذن، و بعيداً عن أضغاث الأماني، أن يفترض الحصيف، عن الاستفتاء الموعود، إنه على الأرجح سيتمخض عن دولتين تكون خارطة أبيي الجديدة من ضمن الجنوبية منهما. ثم سيجمل به من بعد تلك الواقعية أن يبنى على معطياتها بناءً راشداً يكرس لسلام مستدام على طول تلك الحدود الجديدة. و لا يهدد مثل هذا السلام على الحدود الجديدة كمثل حرب بين ثوريين يتناطحان على الماء أو على نطاق الفحولة. من تلك المعطيات الجديدة في حال الانفصال، أن رعاة المسيرية سيواجهون بسلطان دولة أخرى تفرض عليهم سطوتها و قوانينها و سلطاتها كما لم يعتادوه على مدى تاريخهم. ستضيق عليهم السافنا بما رحبت، و ستنضب عنهم مصادر الكلأ و المياه حيثما سرحوا حتى لن يكون لهم خيار غير التنافس عليها فيما بين بطونهم و أفخاذهم و حتى خشوم البيوت، ثم سيضطرون مكرهين إلى مشاركة خشنة مع جيرانهم من النوبة و الحوازمة شرقاً و الرزيقات غرباً. و مكره أخاك لا بطل، أو هم كالمستجير من الرمضاء بالنار... فالآخرون أيضاً وعلى برمكيتهم، ليسوا في وفرة من الماء و الكلأ أو على إثرة بخصيصة حق الدار و حد المرعى. و ثَم حديثاً فقد أصبح الشيء الوحيد من ذاك الثلاثي المذكور في مقترح المشاركة الأشهر، الذي وسعته تحديات حيواتهم المعاصرة، هو تلك النار التي كم اصطليناها، و التي كثيراً ما تعاجلوا إلى حصدها القاني بمناجل الكلاشكنوف و أخواته من الفاتكات الأُشر. و شهران بعد ما انصرما، منذ شهدنا تلك المقتلة الكارثية تعد ضحاياها بالمئات، و ذلك فقط في بعض من ضحوية دواس واحدة بين الأخوين على تخوم مرعى الميرم. و ما العمل؟ الإجابة عندي واحدة لا غيرها و لا سواها... فبعاجل ما أمكن، يجب درس المعطيات في الواقع و التخطيط بناءً عليها ثم العمل سريعاً على تحقيق انتقال سلس من نمط الإنتاج الرعوي المفتوح كما عبرت عنه العبارة المأثورة عن بوادي السودان (الرحيل عز العرب)، إلى نمط المزارع الرعوية المكثفة (Ranches) الأقرب لفكرة الاستقرار عنه إلى أبدية الذهاب و الإياب في فيافي المسار. فعلى الدوام ظلت رعاة السافنا السودانية كما سعيّتهم، مجرد مورد ريعي رخيص تنهبه الدولة السودانية بلا جزاء و لا إحسان. و ما كانت تصدره و لا تزال تلك المراعي إلى غياهب الخزينة العامة أو نحو جيوب السماسرة و المصدرين، ظل هو الأرخص تكلفة من بين كل مثيلاتها في العالم، ذلك لأنه لم ينصرف عليها أصلاً، من بعد مطر الله في خلاه، و لا مليم واحد يتعدى ضرورة الإبقاء على تلك المواشي حيّة تتكاثر فتدر الأموال إدراراً لغير رعاتها. التحرك من فكرة السعِيَّة إلى أعمال الإنتاج الزراعي و الحيواني في المراعي المكثفة لن يكون سهلاً على أي معني به و لا في أي مرحلة من مراحله و خاصة عند اتخاذ القرار. و لكنه ضرورة من إملاءات الواقع و العصر التي لا تني تترى علينا. و خيره، فوق تعزيزه للسلم، ليس ببعيد. الإنتاج الحيواني المستقر لن يكون بلا مسالخ و محالب أو بدون أن تواكبه صناعة زراعية و غذائية حديثة تتعلق به. و كما يحتاج إلى تقنيات الزراعة العلفية و الغذائية المسترشدة و المنتظمة، فهذا النمط الإنتاجي لا يقوم إلا برعاية بيطرية وافرة، و قريباً من قرى مستقرة آمنة يتوفر فيها التعليم و الصحة و تربطها الطرق و تزدهر فيها التجارة و الأعمال كما تتقلص بها أعداد الشبيبة العاطلة التي ترى إلى ظل الحراب، أينما صوبت أسنتها، كخيار أفضل لها و أكرم من خيار "ضل الحيطة".... عليه، و نعم، هذا البترول المنتج الآن من تلك الناحية، و ربما قريباً منها سيتفجر المزيد منه، يجب أن تذهب نسبة من مبيعاته، أكبر بكثير من تلك النسبة الضئيلة المتوفرة حالياً، إلى تحقيق و تمكين مثل هذا المشروع في هذه المنطقة المهددة بالاشتعال العاجل لو يستمر الحال كما هو عليه. ثم يجب أن ينظر في هذا الخيار لكي يعمم في البيئات الشبيهة حول جبال النوبة و في النيل الأزرق و جنوب النيل الأبيض و بالخصوص في غرب و جنوب دارفور حيث التحديات لا تقتصر على جهة واحدة و فقط. و الفنيون من أهل التخصص أعلم بالتفاصيل. و عموما، لا يسمع لقصير، و لكن الصحافة أوردت التالي: ((فمن ناحيته طَالبَ الأمير مختار بابو نمر ناظر المسيرية، رئاسة الجمهورية بتعويض أبناء المسيرية جراء ما وصفه بالظلم الذي لحق بهم بسبب قرار التحكيم بشأن ترسيم حدود أبيي، ووصف القرار بأنه أفقد المسيرية بعض أراضيهم حسب قوله. وقال نمر «لمرايا أف أم»، إنّه لابد من إنشاء قرى نموذجية بالمنطقة إضافةً لتوفير الخدمات الصحية والتعليمية لأبناء المسيرية لتمكينهم من الاستقرار، وجدّد الالتزام بتعهد المسيرية بقبول قرار المحكمة.)) انتهى! بالناس المسرة و على الأرض السلام. و قد أعذر من أنذر. و من بعده، فلا تجنين براقش إلا على نفسها. فبالله يا جماعة التمكين، و بالتي هي أحسن، مكّنوا للناس في حِلّهم، و أقرعوا ثور المسيرية عن مساره الحتمي على خزف ذاك السلام، فهو عاجلاً أم آجلاً، لابد أن سيفعل! هذا أو!