حين بلغ بالشعب السوداني الصابر المكلوم العنت مبلغا عظيما، وأصابه القنوط واليأس الحزين، طفق يتساءل: "والحل؟" بدأ التساؤل أولا في حلقات بيوت المآتم والمناسبات الأخرى بعد استعراض آخر أخبار سياسات النظام الفطيرة، والتصريحات العجيبة المتضاربة، وحالات الفساد المُنظم، وشطط الأجهزة الأمنية، وتطورات الوضع في حروب الهامش، ومؤتمرات الحركة الإسلامية التي انعقدت تحت شعار "كل حركة وفيها بركة"، ثم تمخضت عن فأر صغير. ثُم يُخيّم صمت مفاجئ على الحلقة، حتى يقول أحدهم بصوت مُنهك:"أها، والحل؟" سنوات طوال ونحن نهيم على وجوهنا ونقلِّب اكفّنا في حيرة، وننظر إلى بعضنا البعض، ثم نتساءل، أفرادا أو فى (كورَس): "والحل؟" ولا من مُجيب. وقد يُشير البعض إلى اللجوء إلى من حلّ (بلّة)، أو إلى تفويض أمرنا لله. ثم لا نلبث أن نعود إلى التساؤل: "والحل؟" ثم استيقظنا ذات صباح فإذا بأركان شوارع العاصمة الحضارية تمتلئ باللافتات الكبيرة والصغيرة، تهتف بألوان براقة: "الحل في البطاطس!" "تَقالَدْنا" نُهنئ أنفسنا، ونحمد الله الذي سخّر لنا البطاطس، يملأ بطوننا، ويستر عرينا، ويفثأ غضبنا، ويحمي سماواتنا ، ويحل ضائقتنا الاقتصادية، ويُصلح حال مدارسنا ومشافينا، ويدفع بالسودان إلى مصاف الدول المتقدمة، أو يُحيله إلى دولة عُظمى ترد كيد الأعادي كما بشّرتنا الاستراتيجية ربع القرنية. وانتظمنا في مسيرات هادرة، نهتف: "البطاطس هو الحل!" وكنت أظن إلى حين قريب أن أصل البطاطس هو (الشهيناب والفكي هاشم)، من أعمال مديرية الخرطوم. وحين استقصيت الأمر من مظانه، كما يقول فلاسفة النظام، فوجئت بأن العالم القديم برمته (آفريقيا وآسيا وأوروبا)، بما في ذلك السودان، لم يعرف البطاطس إلا في بداية القرن السادس عشر بعد اكتشاف (الأراضي الجديدة) في الأمريكتين، واستقدام البطاطس عبر المحيط الأطلسي. وكان الغزاة الأسبان أمثال فرانسسكو بيتزارو وهرنان كورتبز، قد أفلحوا، ببضعة مئات من الجنود (مُعظمهم من المرتزقة وشُذاذ الآفاق الفارين من فقر أوروبا وأوبئتها الفتُاكة) ، ومثل ذلك من البنادق، وعدد أقل من الخيول (التي لم يرها سكان الأراضي الجديدة من قبل)، في تدمير ممالك أمريكا الوسطى والأنديز مثل الآزتك والإنكا والمايا في بيرو والمكسيك وقواتيمالا ، وهي حضارات متقدمة راسخة ذات انجازات حضارية باهرة ، بنت الاهرامات الضخمة، والمدن بديعة التخطيط ،ونُظم الري المُعقدة، ونسجت من القطن أعاجيب نذكر منها الدروع الي لا تخترقها النصال. وصلها هؤلاء الغُزاة باسم فردناند ملك أسبانيا، يحملون أطماعهم في ثروات الأراضي الجديدة في يد، والإنجيل في اليد الأخرى. هزموها بأسلحتهم النارية، وأوبئتهم الأوروبية، وتفكك جبهتها الداخلية، وعادوا، بعد أن تركوها خرائب ينعق فيها البوم، محملين بالذهب والفضة - والبطاطس! (وأصله بيرو). انتشرت زراعة البطاطس في أوروبا أولا، ثم في باقي قارات العالم بعد ذلك حتي أصبح البطاطس الآن غالب قوت أهل الأرض (مع الأرز والقمح والذرة الشامية، بذلك الترتيب). تجده الآن في مختلف المناخات وأنواع التربة. وتعجب ماذا كان سكان شرق أوروبا يأكلون قبل استقدام البطاطس. وما زال يُواصل الانتشار بعد أن غزا الصين ودول آسيا الأخرى. يأكله الناس شرائح ورقائق ومهروسا؛ مطبوخا ومقليّا ومسلوقا؛ ويشربونه مرقا وخمرة؛ ويأكله أهل السودان غموسا مطهيا باللحم، أو بمرقة (ماجي) لمن لا يستطيع إلى اللحم سبيلا؛ ويأكله أطفال السودان مُسرطَناً ومُسرطِناً في عبوات براقة لها أسماء ما أنزل الله لها من سلطان، تُطالعك إعلاناتها كلما نظرت حولك أو جلست أمام التلفاز. تجد هذه العُبوات في بقالات المدن وأطراف المدن، والقرى والدساكر؛ دلالة على العولمة التي جعلت سكان العالم، الغني والفقير، يأكلون نفس الطعام، ويلبسون نفس الملبس، ويستمعون لنفس الموسيقى، ويُريدون نفس الأشياء- مع اختلاف طول الألحفة والأرجل! والبطاطس مثل التمر، يُشكل وجبة غذائية كاملة مع اللبن أو السمن، يُمكن للإنسان أن يعيش عليه. ورغم أن هنالك نحو 4,000 نوع من البطاطس (بعضه أزرق اللون)، إلا أن عدم تنوع تركيبته الوراثية تجعله عرضة للأمراض، مما قد يفتك بالمحصول كله ويقود إلى المجاعات، كما حدث في أيرلندا (1845- 1852)، وفي اسكتلندا (1846- 1857)، دافعا هؤلاء إلى الهجرة صوب أمريكا الشمالية. غير أن سهولة نموه في مناخات متعددة، وزراعته بالري وبالأمطار، وامكانية زيادة انتاجيته، وسهولة تخزينه، وارتفاع قيمته الغذائية، تجعله أداة ممتازة لتحقيق الأمن الغذائي ومحاربة الفقر واقامة مجتمع العدل والرفاهية. إذن، البطاطس هو الحل!