نحن نقف اليوم أمام أزمة نفسية عاشها شاعرنا الطيب محمد سعيد العباسي شاعر قصيدة (يا فتاتي) التي تغنى بها فناننا الشفيف والمرهف الإحساس الطيب عبدالله حيث أسبغ عليها لحناً طروباً يتميز بمسحة حزينة تهز الوجدان وتمزق الأحشاء ... ففي الأغنية أحاسيس صادقة إستنطقتها الكلمة ولحن يتدفق شجناً وحسرة ، وما يحسب لشاعر القصيدة أنه تمكن من تجسيد هذه الأزمة شعراً مكتوباً يتغنى به القاصي والداني وقد يكون في ذلك تنفيس لأي سوداني مر أو يمر بحالة مشابهة لحالة شاعرنا الذي جاءت زفراته الحرى قصيدة ظلت تتناقلها الأجيال صرخة مدوية في وجه تصاريف القدر وظلم بنى الإنسان . في مبتدأ القصيدة نرى الشاعر أراد أن يبعث برسالة لهذه الفتاة ولكل العالمين مؤداها تأكيد أن الهوى والعشق والغرام ليس من شروطه الحدود القطرية ولكن من صفاته التحرر من القيود والانطلاق في جميع الفضاءات ، فالقلب بطبيعة الحال لا يعترف بالحدود وأشواقه تمتد بإمتداد الكرة الأرضية فهو كالطائر له الحق في أن يفرد جناحيه ويطير محلقاً فوق السحاب مجتازاً الحدود والبحار والمحيطات حتى يرفرف فوق ديار الحبيب ثم يتدلى ليقطف من وروده وينهل من عذب حديث الحبيب ما يشتهي من لذيذ القول . لم يذهب الشاعر بعيداً في وصف هذا المشهد الذي يتحدث عن مساحات الحب اللامتناهية ولكنه بسبب شدة إنفعالاته من واقعة حدثت له هو شخصياً مصدرها إحدى الفتيات البيض بمصر أثناء إشارته لها بإيماءة غرامية بإحدى الميادين العامة وردة فعلها التي تمثلت في سيل من السباب وفي قمتها أنها عيرته بلونه الأسود الذي لا يؤهله لنيل رضاها وموافقتها ... فما كان منه إلا أن إنطوى على غبنه وغلبه ليبث آهاته وآلامه من خلال هذه القصيدة مؤكداً لها أنه في بلده لم يتعرض الهوى لمثل هذه الإهانات فيذبح على قارعة الطريق .... فماذا دهاك يا إبنة الناس وكل هذه الثورة التي تفتقر الى الصبر والجلد ؟ هل كل ذلك بسبب إسقاطات اللون الأسود الذي يتلبسني ، عليك أن تعلمي أنه لا يد لي في إختيار هذا اللون وإنما لله في خلقه شئون وهو الذي أراد لي أن أحمل هذا اللون .... وستكشف لك الأيام أنني أنتمي إلى بلاد شاسعة ومترامية الأطراف أمارس فيه كامل حريتي بين الحسان الغيد وأتلذذ بتطويق أذرعهن متى وأنّى شئت ..... يتساءل الشاعر ويسألها ... ما ذنبي الذي جنيته من خلال فعلتي هذه ، هل ذلك بسبب القبلة التي خطرت ببالي مع النسيم العليل الذي يتحرك متثاقلاً ، هل لهذا السبب إرتعش نهدك وإضطرب وعيونك يتطاير منها الشرر ، ثم أنه حتى الصليب الذي يقبع بين نهديك أراه بدأ يرتعد ويتحرك بعنفوان ... إني أسألك يا هذه التي ترتدين معطف من الفراء فقد فقدت رشدي لما رأيتك.... هل يصح أن أكون أنا بجانب الغدير والماء العذب الوفير وأظل ظاميء لا أقوى على الوصول الى هذا الماء السلسبيل ؟ . أيحق أن تمنحين هواك لغيري وتظل أحاسيسي ومشاعري وفؤادي مضطهد لديك ، هل نصيبي منك دائماً الهجر والصدود وتمنحين بكرم حاتمي شفاهك وجسدك لغيري ... أنا لو تعرفين إنسان من لحم ودم ولدي أشواقي وطموحاتي وتطلعاتي وكما غيري فإنه لي قلب يرتعش عندما يمسه الهوى ولي كبد يتفطر من شدة الوجد والوله ... كما أنه لي مثل هؤلاء الذين تهوين فأنا ضاربة جذوري في العراقة والسؤدد ولي حاضر مشرق وغد سيناهز فيه وطني أفق الثريا ... وكأنه هنا يريد أن يقتبس من رائعة الشاعر محمد عثمان عبدالرحيم التي صرخ بها حسن خليفة العطبراوي في وجه المستعمر وتغنى بها في عالم الفخار فيقول لها : أيها الناس نحن من نفر عمروا الارض حيث ما قطنوا يذكر المجد كلما ذكروا وهو يعتز حين يقترن حكموا العدل في الورى زمنا اترى هل يعود ذا الزمن ردد الدهر حسن سيرتهم ما بها حطة ولا درن نزحوا لا ليظلموا احدا لا ولاضطهاد من أمنوا ثم يختم الشاعر كل هذه التراجيديا بكلمات تذوب رقة وحسرة على هذا البلد ومن فيه من الذين لا يأبهون ولا يلقون بالاً للأحاسيس والوجدانيات ويغضون الطرف عن كل هذا الجوهر المشع نوراً بأسمى معاني الهوى والغرام ... مودعاً إياها برغم جفاءها قائلاً لها أنني أزمعت الآن الرحيل عن وطنك وسوف تبتعد خطواتي عن هذا البلد الذي يحضن حواء قاسية القلب ، مع أني سأحتفظ بكل جراحاتي الغائرة التي أنت السبب فيها وهي بلا شك لا تعد ولا تحصى .. وإليكم كامل نص القصيدة لنعيش معاناة شاعرنا والتي هي في الغالب الأعم عاشها كل سوداني حملته خطواته بعيدا عن دياره وخاصة الذين عاشوا في البلدان العربية التي تهتم أول ما تهتم بملامح الإنسان المظهرية دون الجوهرية ، هيا نكابد بشقاء معاناة شاعرنا التي هي في حد ذاتها معاناة كل إنسان قدر الله له أن يكون أسود : يافتاتي ما للهوى من بلد كل قلب في الحب يبترد وأنا ماخلقت في وطنً الهوى في حماه مضطهد فلماذا أراك ثائرة وعلام السِبَابُ يضطرد والفراء الثمين منتفض كفؤادٍ يشقى به الجسد أَلأَن السّواد يغمرني ليس لي فيه يافتاة يد أغريب ؟..إن تعلمي فأنا لي ديار فيحاء ولي بلد كم تغنيت بين أربُعه لحبيب في ثغره رغد ولكم زارني وطوّقني بذراعيه فاتن غرد أيّ ذنب جنيت فأندلعت ثورة منك خانها الجلد أوذنبي في قبلة خطرت مع نسيم اليك يتئد ألهذا فالنهد مضطرب؟ ولهذا العيون تتقد؟ ولماذا هذا الصليب ترى بين نهديك راح يرتعد؟ خبريني ذات الفراء فقد جف جناني وأجدب الرشد أيمر النُمَير بي أَلِقاً وانا ظاميءٌ ولا أرد؟ أو غيري هواك ينهبه وفؤادي لديك مضطهد؟ أَلِيَ الهجر والقلَى أبداً ولغيري الشفاه والجسد ؟ لي كغيري يازهرتي أملٌ وفؤاد يهوى ولي كبد لي بدنياي مثلما لهمو لي ماض وحاضر وغد الوداع الوداع قاتلتي ها أنا عن حماك أبتعد سوف تنأى خطايَ عن بلد حجرٌ قلب حوّائه صلد وسأطوي الجراح في كبدي غائراتٍ وما لها عدد إنها وجدانيات تترنح وتترع بنزف دافق وجراحات غائرة ترعف بدماء سائلة دون إنقطاع وأنات تصدر من قلب مكلوم وخاطر مأزوم، هي حالة إنكسار وهزيمة نفسية تتعرض لها قامة تمتلك ناصية الكلمة والمفردة الرصينة وتناهز بشاعريتها أعلام كثيرة بشمال الوادي إن لم تتفوق عليها . فنم هانئاً يا شاعرنا العباسي بين ظهراني وطنك وأهلك وأدع عنك مكابدة الآلام فأنت عزيز مكرم بيننا ها هنا