1-ثورة الترابي الثقافية عبد الله علي إبراهيم (في كل جمعة وسبت أنشر بجريدة القرار بعضاً من أرشيف "ومع ذلك" في مناسبة مرور ربع قرن على بدء كتابته في 1987 . وأنشر اليوم كلمة عن الشيخ الترابي بعد مفاصلة الإسلاميين في 1999. وبعده ننشر ردة فعل الأستاذ على عثمان محمد طه على حركة الترابي الموصوفة في المقال. وكل هذا بعض تاريخ الحركة الإسلامية) يحاول الدكتور حسن الترابي منذ قبل قرارات رمضان استثارة "ثورة ثقافية" على غرار الرفيق ماوتسي تونغ . وقد دشن هذه المحاولة حين قال لمؤتمر شبابي إسلامي انعقد قبل قرارات رمضان إن نسبة 9 من طاقم الحكم الإسلامي القائم متورطة في فساد فاحش . والثورة الثقافية "الماوتسية هي عودة الزعيم الأيدلوجي إلى البراءة الأولى بخروجه كالشعرة من عجين نظامه السياسي الفاسد ليحمل الكادر المتسلط في الحكم أو الحزب كساد العقيدة وخبو نارها . فالثورة الثقافية بإختصار هي عودة الشيخ إلى صباه في محمول فكري لا جنسي . وجُند الثورة الثقافية هم الشباب ممن لم تسنح لهم طراوة العمر بالتورط في إفساد الدولة المؤدي إلى ضيعة الأيدلوجية . فالشباب يعتصم بطهر الأيدلوجية الأساسي لمحاكمة الدولة المفتونة عن العقيدة . لا تخلو الثورة الثقافية مما يحاوله الترابي حالياً من "انتهازية" . فبهذه الثورة يريد قطاع عمري أن يتسلط في الساحة السياسية بمحض براءته التي لم يعركها الواقع بعد وبمصداقية أشواقه البكر التي لم تتسخ في التنفيذ . والثورة الثقافية انتهازية في معنى آخر. فبها يستأثر الشباب بالزعيم الأيدلوجي (صاحب السجادة) المخذول من الجيل الحاكم من الآباء والأخوان الكبار. فالشباب يقبل بالزعيم "ويتبناه" ليلوح به كقميص عثمان طلباً لثأر من جيل السلف الذي أفسد العقيدة . وفي مقابل ذلك يسقط الشباب الحساب عن الزعيم لمسايرته للسلف في السقطة السياسية للعقيدة . فالثورة الثقافية ، في لغة الأسرة ، هي تحالف الجد مع الحفيد ضد الابن/الوالد . وأظن الطيب صالح قد قدم لبعض قصصه بإشارة إلى متانة هذا الحلف . شباب الإسلاميين السودانيين ربما كانوا أحق الناس بثورة ثقافية لأنهم أهدوا الدولة بغير مَنٍّ ولا تحفظ رحيق عقيدتهم وأرواحهم دبابين: وكل شي لله . وكانت المفارقة بين استشهادهم في الأدغال الموحشة وبين فقه تظليل العربات الليلى علوية والدشوش المرتاحة مفحماً . وقد دخل الترابي على الشباب بهذا المدخل حين تحدث إليهم عن حربهم في الجنوب التي لم يقصدوا الحصول بها على عرض الدنيا . وككل ثورة ثقافية احتاج الترابي إلى كتاب "أحمر أو أخضر" مختصر بسيط قريب من أفهام ومزاج وغضب شبيبة الأيدلوجية . فقد ظل في أحاديثه يربط بين ابتلائه مع الحكومة وبين ابتلاء الإسلام ذاته جاعلاً من استنقاذه من براثن البشير استنقاذاً للإسلام . وقد أترع أحاديثه بمجازات سائغة تخاطب أقاليم الطهر في الشباب النزَّاع إلى المثالية والنفرة من محض السلطة وكل سلطة . وصف الترابي السلطة بأنها الفتنة الخطيرة التي أضعفت في الإسلاميين أمانة السر وأمانة المال وكشفت أن متوسط التدين والتربية بينهما كان ضعيفاً . وأتهم تجربة حكم الإسلاميين بأنها مما اختلطت فيه رابطة الدين برابطة السلطان ، وأنها أيقظت شهوة الحسد والغيرة . والأصل في بساطة الكتاب "الأحمر أو الأخضر" أنه ، رغم أنه من تأليف أو نسج الشيخ الأيدلوجي ، إلا أنه في واقع الأمر تحالف لأصداء غضبة الشباب واحتجاجهم ونقداتهم لسطان عقيدتهم الهادم لها . ولذا رد الترابي للشباب بضاعة أصدائهم الحانقة ضد "تجار الجبهة" الذين خرجوا من الدين بدخولهم في الاقتصاد وانحطت لجشعهم الاخلاق . ثورة الترابي الثقافية ناقصة في شئ هام . فهذه الثورة هي مما يشعله الزعيم المفجوع في دولته من موقع الشوكة والحكم . فهي ثورة قل أن تدار من ضفة المعارضة التي يبدو أن الترابي قد آل إليها في صراعه مع القصر. فأكثر ما يقال عن الترابي، بأفضل تفسير، إنه في ميزان القوة شريك مُناصِف لحزب حكومي لم يقل الترابي نفسه كلمة حسنة واحدة عنه في حديثه الذي امتد لساعتين أمام جمهور بلغ 8 ألف من الشباب وغيرهم . إن مآلات ثورة الترابي الثقافية لا تبشر بالنجاح . 2-وركن نقاش لعلى عثمان محمد طه عاد الدكتور حسن الترابي ، بندوته البكر في الميدان الشرقي بجامعة الخرطوم ، إلى سوح بداياته السياسية في تلك الجامعة التي كان طلابها الإسلاميون من أقوى مناصريه . فمن جهة، نصره " الاتجاه الإسلامي" بالجامعة وآزره ضد "مدرسة التربية" في الحركة الإسلامية التي كان قوامها أبناء جيل الترابي الأشداء مثل المرحوم محمد صالح عمر والدكتور جعفر شيخ إدريس . ومن الجهة الأخرى، شكل هذا الاتجاه الإسلامي رأس الرمح في بناء قواعد الحركة الإسلامية على النطاق الوطني . فقد استثمر الاتجاه ، الذي سيطر على اتحاد طلاب جامعة الخرطوم دهراً طويلاً منذ 1973 ، إمكانات ثقافية سنوية للدعوة من منصة ذلك الاتحاد. وأحسب أن التربي حين عاد في ندوته الأولى بعد خصومته مع البشير ربما وقف وقفتة الكارزمية العتيقة التي يتسيد فيها "بنبراته القوية وعباراته المتراصة ، وابتسامته الجاذبة بضحكاتها الجزلة عندما تتسع بتهكم السرد وتورية المعنى والقصد "كما وصفها الأستاذ خالد حسن لقمان الذي حضر له لقاءً ثانياً في جامعة القرآن الكريم بأم درمان . وقد رأيت من خصوم الترابي الأوربيين من وصف بسمة الترابي ب"الطُعم" مستشهداً بمقطع من شكسبير عن ذلك الذي يبتسم ويبتسم ولا يضمر إلا شراً . لم يمض أسبوعان على عودة الشيخ إلى الجامعة حتى كان نائب رئيس الجمهورية ، السيد علي عثمان محمد طه ، والرجل الثاني في الحركة الإسلامية الذي انحاز لطريق البشير في خصومته مع الترابي ، عقب الترابي إلى جامعة الخرطوم . وهي الجامعة التي شهدت نضوجه وتدرجه في قيادة الحركة الإسلامية حتى أضحى رئيس اتحاد طلاب الجامعة في دورة 1970 . وقد أدار على عمان واحدة من أعنف مواجهات الطلاب ضد نظام الرئيس النميري في أصيل طوره اليساري في 1971 حين رتب النظام غزو الجامعة بالدبابات التي كانت تحت إمرة السيد أبو القاسم محمد إبراهيم (وزير الصحة الحالي) ، لإخضاع الطلاب المعتصمين احتجاجاً عليه . عاد كل من الترابي ورفيقه السابق إلى الجامعة التي مَيَّزتهم وفي نفس الأدوار التي أتقونها فيها . عاد الترابي ، الأستاذ الجامعى الذي استقال ليقود الحركة الإسلامية ، إلى منصة المحاضرة يشيع من عل مخازي الإنقاذ بغضب الجد وذاكرته ليستدرج الطلاب الأحفاد ليثوروا على الأب الذي هو جيل الحركة الثاني المنقذ في الدولة من أمثال علي عثمان وغيره . ومن الجانب الآخر ، عاد علي عثمان إلى موقعه القديم في ساحة ميدان الآداب يدير ركن نقاش (من تلك التي اشتهرت بها الجماعات السياسية في الجامعة) . هتف الطلاب في وجه علي عثمان كما هو متوقع لكنه تماسك وتجلد . وعاد، وهو نائب رئيس الجمهورية ، إلى أيام الطلب ، حين لم يكن يحميه إلا لسانه وإحسان لسانه . ورمى علي عثمان لهم طائفة من عباراته الدقيقة البليغة مثل قوله إن حركة الإنقاذ في الإصلاح مما صدر عن ذاتهم وعن قناعة . وإنها لم تُفرض عليهم من قِبل كائن من كان لأنهم لو شعروا بضغط أجنبي "لوقفنا كالسيف لاتهتز لنا قناة" . وأردف إن الإنقاذ تطلق حمائم الحريات لأن ذلك فرض سياسي عليها لا تصدر فيه عن ضعف أو تنازل. فالإنقاذ في وصفه قوية "واقفة كالأشجار" . وهو هنا ربما اقتبس بكل حذر من مصطلح الطلاب الشيوعيين الذين يكثر بينهم دوران اسم ديوان المرحوم معين بسيسو : الأشجار تموت واقفة . ووقفة علي عثمان مع الأبناء تلك ربما قصد من ورائها أمرين . أولهما القول بغير مواربة ، وفي حرم وطنه السياسي الأول ، إن الإنقاذ لن تجد صعوبة في التفاوض حول فصل الدين عن الدولة لإرساء الوحدة الوطنية . وربما أنكرت أشجار الجامعة الواقفة هذا الحديث عن علي عثمان وهي التي نقشت على لحاها وأوراقها حديث منابره الأولى قبل ثلاثين عاماً عن الحاكمية لله . والأمر الثاني الذي اعتنى به علي عثمان هو إزالة اللبس عن مسألة فساد الحكام الإسلاميين التي هي حجر الزاوية في ثورة الترابي الثقافية . فقد دعا الطلاب إلى دراسة فايل الفساد بروح موضوعية إحصائية لأنهم سيجدون أن نسبة معدلاته في الإنقاذ أقل شذوذاً من دول أخرى . والتمس من الطلاب أن يعينوا الإنقاذ بكشف المفسدين والتبليغ عنهم للأجهزة المناط بها تعقب المفسدين . وقد أراد من التهوين من هول الفساد وبيان حرص أجهزة الحكومة المأذونة بتعقب المفسدين أن يزيل الفتيلة عن ثورة الترابي الثقافية التي فتحت فايل الاختلاس والشهوة والسلطان . لست أدري كيف تكون المردودات السياسية لزيارة علي عثمان بعد التأمين على شحنتها الرمزية للطلاب ولعلي عثمان نفسه . غير أنني لم ألمس أن الزيارة أعطت الطلاب حساً بمهمة أو شوقاً لدور كما فعل الترابي الذي عرض عليهم ثورة ثقافية يتحالف فيها الجد والحفيد على الآباء الظلمة . فالتبليغ عن الفساد حديث يقال ثم يقال . وددت لو انتهز علي عثمان سانحة سماحة الإنقاذ بشأن المفاوضة حول فصل الدين عن الدولة ، وهي المسألة الملغزة المشحونة بالتاريخ والرموز على ضفتي الحكم والمعارضة ، ليضع الطلاب ، ذوي الحس التاريخي العالي بالمهام التي في حجم الوطن ، أمام مهمة لعب دور في تذليل لقاء فرقاء السياسية السودانية ممن ظلموا يجرجرون أقدامهم وأذهانهم إلى الوفاق . حتى بدأ أن القليل الذي يفعلونه في هذا السبيل إنما يجاملون به دولاً أخرى وقادة آخرين . وددت لو ذكَّر الطلاب بسابقتهم في الخمسينات حين أتفقوا رؤوس السياسة السودانية (الموزعين بين من يريدون الوحدة مع مصر أو الاستقلال بمودة مع بريطانيا) على حلال الاستقلال . وهي سابقة أعطت الطلاب دائماً المسوِّغ للقول بأن نشاطهم السياسي قومي في اتجاهه مهما قيل أو فُهم غير ذلك . Ibrahim, Abdullahi A. [[email protected]]