أعلنت سوزان رايس الانسحاب من التنافس على منصب وزير الخارجية في الإدارة الجديدة للرئيس باراك أوباما ، وهو المنصب الذي سيخلو بخروج هيلاري كلينتون من تشكيلة الوزارة في يناير القادم. جاء انسحاب رايس على خلفية الهجوم العنيف الذي تعرضت له من جانب الجمهوريين بسبب تصريحاتها حول عملية اغتيال السفير الأمريكي بليبيا في سبتمبر الماضي ، وهي التصريحات التي وصفها الكثيرون بعدم التوفيق. عزت رايس انسحابها من الترشيح للمنصب المهم الذي يعتبر تتويجاً لتجربتها الطويلة في العمل بوزارة الخارجية الأمريكية خلال إدارتي كلنتون وأوباما للجدل الذي من المتوقع أن يصبغ جلسات الاستماع حول ترشيحها للمنصب بالكونغرس ، والذي يرى العديدون أنه قد يشكل معركة برلمانية طاحنة تقول رايس نفسها في خطاب سحب ترشيحها أنه سيكون مضراً بالمصالح القومية العليا. لا يمكن الحديث عن السياسة الخارجية الأمريكية في أفريقيا خلال العقدين الماضيين إلا ويرد اسم السيدة سوزان رايس على رأس قائمة المسئولين الأمريكيين المعنيين بالأمر. وسواء أن كانت رايس داخل الحكومة أو خارجها فقد ظلت دائماً من الخبراء الناشطين في مجال أفريقيا وقضاياها ، واستطاعت بحكم المواقع التي شغلتها أن تعقد صداقات مع العديد من الزعماء الأفريقيين. كانت وكالة رويترز قد أشارت في تقريرها الضافي الذي أصدرته بمناسبة الذكرى الأولى لاستقلال جمهورية جنوب السودان ، إلى أن انضمام سوزان رايس لمجموعة الناشطين التي كانت تعمل من أجل انفصال جنوب السودان والتي تطلق على نفسها اسم "المجلس" كان تحولاً كبيراً في مسار المجموعة وساهم بصورة واضحة في تحقيق الهدف الذي ظلت تعمل من أجله ، وقد كانت رايس تشغل عندئذٍ موقعاً مرموقاً بالإدارة الأفريقية بوزارة الخارجية الأمريكية. والمعروف أن المجموعة كانت تضم شخصيات عرفت بسعيها الدؤوب من أجل استقلال جنوب السودان ومن بينهم روجر ونترز ، وتيد داغني ، وجون برندرغاست. ولا نعتقد أن هناك من بين مسئولي حكومة السودان ، أو حتى من بين قطاعات واسعة من المواطنين السودانيين من سيذرف الدمع على خروج رايس من حلبة التنافس على منصب وزير الخارجية. كان ارتباط رايس بالكثير من القضايا الأفريقية المثيرة للجدل سبباً في أن تكون مثالب سياسة الولاياتالمتحدة في أفريقيا سلاحاً استغله خصومها للهجوم عليها بعد أن طرح اسمها ضمن المرشحين لشغل منصب وزير الخارجية. تناول المعسكر المناوئ لترشيح رايس من الجمهوريين وغيرهم عدداً من القضايا الأفريقية التي يقولون أنها أوضحت الكثير من سوء التقدير في أسلوب الإدارة لدى السيدة رايس ، وقد حفلت أجهزة الاعلام الأمريكية خلال الأسابيع القليلة الماضية بالعديد من الكتابات واللقاءات التلفزيونية التي تناولت أداءها بالنقد. كما تصدى آخرون للدفاع عن رايس ومن بينهم وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت وجون برندرغاست ، فضلاً عن الرئيس أوباما نفسه بالطبع. ولعل القضية التي استاثرت بالجانب الاكبر من الاهتمام هي قضية الحرب في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية ، ويقول منتقدو رايس أنها ظلت ومنذ عملها خلال إدارة الرئيس كلينتون تظهر الكثير من التساهل فيما يتصل بتدخل كل من يوغندا ورواندا في شرق الكونغو. ويشير هؤلاء بصفة خاصة لموقف الوفد الأمريكي عند طرح الموضوع على مجلس الأمن في يونيو الماضي حيث سعى الوفد لعرقلة نشر تقرير الخبراء الذي أدان بصورة لا لبس فيها كلاً من يوغندا ورواندا بالتدخل في شرق الكونغو. وربما كان موقف الوفد الأمريكي سبباً في التهديد من جانب الحكومة واليوغندية بسحب فرقها العسكرية التي تكون الجانب الأكبر من القوة الأفريقية المشتركة في الصومال "أميصوم" إذا لم تقم الأممالمتحدة بسحب تقرير الخبراء الذي تم تسريبه لوكالة رويترز. ومع أن التصريحات اليوغندية بهذا الصدد لم تؤخذ في الكثير من الدوائر مأخذ الجد ، كما أن الحكومة اليوغندية لم تقم بتنفيذ تهديداتها إلا أن ذلك الموقف كان فيما يبدو خطوة محسوبة آتت أكلها لاحقاً عندما تحولت كل من يوغندا ورواندا إلى وسطاء لتهدئة الأوضاع في شرق الكونغو وتناسى المجتمع الدولي الاتهامات التي وردت بحقهما في تقرير الخبراء. لم ينحصر الهجوم الذي تعرضت له سوزان رايس على الجمهوريين في الولاياتالمتحدة وحسب بل تعداه ليشمل بعض الكتابات بأقلام أفريقية تشير بصفة خاصة للعلاقات التي تربط السيدة رايس بعدد من زعماء أكثر الحكومات الأفريقية سوءاً في سجل حقوق الإنسان. بل إن البعض اتهمها بالاهمال الشنيع في قضية العمليات الإرهابية على السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام في عام 1998 ، وهو الأمر الذي لم يؤكده تقرير اللجنة التي بحثت الأمر. كما يرى البعض خاصة في القرن الأفريقي أنها لم تفعل ما يجب من أجل تحقيق السلام في هذا الجزء من العالم. ويقول هؤلاء أنه كان بإمكانها أن تستغل موقعها المميز داخل الإدارة الأمريكية وفي الأممالمتحدة بالإضافة إلى علاقاتها مع عدد من الحكام الإفريقيين لدفع عملية السلام هناك للأمام. ويقول الكاتب الأمريكي ذو الأصول الإرترية سالم سلمون أنه لا زال بإمكان رايس أن تستغل فرصة انتقال السلطة مؤخراً في إثيوبيا لتحقيق سلام تاريخي بالمنطقة ، ويشير في هذا الصدد للدور الذي لعبته السيدة رايس في بداية الحرب الإرترية الإثيوبية في عام 1998 والذي انتهى بالفشل بسبب اتهام الحكومة الإرترية للمسئولة الأمريكية بقلة الخبرة والانحياز للجانب الإثيوبي. بغض النظر عمن سيتم اختياره وزيراً للخارجية خلال الفترة الثانية من حكم الرئيس أوباما ، فإن الإدارة الامريكية ستواجه بالعديد من القضايا الملحة على مستوى القارة الأفريقية. ومن الواضح أن التعامل مع الأوضاع في أفريقيا بأسلوب الحرب الباردة حيث تعتمد الإدارات الأمريكية المتعاقبة على أنظمة متسلطة وفاسدة لن يجدي ، بل إنه قد يقود للمزيد من الاضطراب وعدم الاستقرار في مختلف أنحاء القارة. من ناحية أخرى ، فإن استغلال الحكومة الأمريكية لسطوتها العسكرية في إدارة علاقاتها مع الدول الأفريقية جاءت نتائجه حتى الآن مشكوك فيها إن لم نقل سلبية. ولا شك ان التخوف الذي يبديه الكثيرون في القارة وفي الولاياتالمتحدة نفسها بشأن عسكرة السياسية الخارجية الأمريكية في أفريقيا عبر السلطات الواسعة التي تتمتع بها القيادة العسكرية المشتركة "آفريكوم" أمر ماثل ينعكس على الكثير من التحركات الأمريكية في أفريقيا ولا يمكن تجاهله. وقد خابت توقعات الكثيرين في أفريقيا حيال الوعود التي بذلها أول رئيس أمريكي من أصول أفريقية خلال زيارته الوحيدة للقارة مما جعلهم يستقبلون فترة رئاسته الثانية بالكثير من البرود. Mahjoub Basha [[email protected]]