بسم الله الرحمن الرحيم من كتاب من الإنقلابى البشير أم الترابى ؟ تكملة لتأريخ دخول الإسلام فى السودان ! بقلم الكاتب الصحفى والباحث الأكاديمى عثمان الطاهر المجمر طه / باريس [ ربى زدنى علما ] { ربى أشرح لى صدرى ويسر لى أمرى وأحلل عقدة من لسانى يفقه قولى } . من الجانب الآخر كان الإسلام بتنظيمه للعلاقات التجارية أكثر قدرة على التعبير عن طموح القوى الإجتماعية الجديدة ، ويضاف إلى هذا تزايد إرتباط بلاد السودان بمراكز التجارة فى العالم الإسلامى وهكذا إنفتحت الطرق لدخول العرب إلى بلاد السودان بإعداد متزايدة إلى ذلك القبول الذى وجدوه من أهل البلاد . وهناك علاقة مباشرة بين الإسلام ، وقيام مجتمع المدن المستقر فقد نظم الإسلام النشاط التجارى فى تلك المجتمعات ، وأمد النشاط التجارى بالمراسيم القانونية التى يحتاجها فكانت المدن التجارية مثل بربر ، وشندى مراكز للتبشير الإسلامى ، وتتحدث المصادر عن مجئ تاج الدين البهارى إلى السودان بدعوة من داؤد عبد الجليل أحد تجار أربجى ، وقام تاج الدين إثر تلك الدعوة بنشر الطريقة القادرية . لقد كان المزج بين النشاط التجارى ، والتبشير ظاهرة تميزت بها المجتمعات التى تقع فى أطراف العالم الإسلامى وعلى تخومه . وبرزت أرستقراطية عسكرية محلية عن طريق التراكم البدائى ثم إنتقلت إلى التجارة الخارجية ، ومع بروز تميزها الإقتصادى رأت ضرورة تميزها الإجتماعى ، وتمثل ذلك فى تبنيها لتعاليم الإسلام وفى أنماط سلوكها الظاهرى كأحد أشكال تميزها عن العامة فقاموا بتشجيع العلماء ، وكانت خدمات العلماء الفقهية المطلوبة بصفة خاصة لإستكمال البناء القانونى لمجتمعات المدن ، ومراكز التجارة فقام نفر من العلماء بإجتهادات بارزة لإيجاد تشريعات تناسب المجتمع السنارى . أحدثت تلك العوامل تغيرا فى التركيب الإجتماعى أخل بتوازن القوى ، وهو الذى قاد إلى ذلك التغيير السياسى الذى تمثل فى إنهيار مملكة علوة . إن تفكك مملكة علوة إلى دويلات ليس سببا فى ضعفها وسقوطها بل هو مظهر ذلك الضعف ، ونتيجة لعوامل كانت تنخر فى بنيانها ولا شك أن البحث عن أسباب سقوط تلك المملكة يحتاج إلى المزيد من البحث فى التغييرات التى حدثت فى البناء التحتى كما أن الحديث عن أثر العامل الخارجى فى هذه الوجهة أو فى تلك . يدعو لوقفة ، وتأمل ، وعند الحديث عن سقوط مملكة علوة تستوقفنا عدة أمور بعضها درس بإستفاضة , والبعض الآخر لم يحظ بنفس القدر من الدراسة فالتحالف بين العبدلاب ، والفونج الذى إنبثق من إختلال توازن القوى قد كتب عنه ما يكفى ، ولكن ما الذى حدث للمسيحية ، والمسيحيين بعد إنهيار مملكة علوة . عندما إنتشر الإسلام فى السنوات الأولى للدعوة الجديدة ثم إستيعاب المسحيين فى الدولة الإسلامية الوليدة مقابل دفعهم للجزية وعاش المسيحيون مع المسلمين جنبا إلى جنب على إننا لا نكاد نسمع إلا النذير اليسير عن خبر المسيحيين فى مملكة الفونج التى قامت على أنقاض دولة علوة فما الذى أصابهم ؟ وأين إختفت كنائسهم ؟ ودور عبادتهم ؟ لعل الإنتقال التدريجى من المسيحية إلى الإسلام قسرا أو عن طيبة خاطر له دوافعه . إن الحديث عن " خراب سوبا " قد يحمل فى تضاعيفه إشارة إلى العنف لا ضد الدولة فحسب بل ضد المسيحيين الذين بقوا على أنقاض تلك الدولة فإختفاء المسيحية بذلك الشكل الدرامى تم عبر الذوبان التدريجى ، والإنتهاء القسرى ، ولعل روح التسامح وسعة الأفق التى عرف بها المسلمون الأول قد تلاشت كثيرا بين حنايا المجتمعات التى وفدت إلى بلاد السودان ، ولعل الرواية التى أوردها ود ضبف الله عن الشيخ إدريس ود الأرباب توضح أسباب العنف الذى مورس ضد الدولة المسيحية تقول الرواية : إن الملك بادى بن رباط جمع كبار الفونج ، وقال لهم : إن الشيخ إدريس شيخه ، وأبوه ، وسوف يقسم معه خيرات بلاده مناصفة من العسل إلى البصل فإمتنع الشيخ إدريس ، وقال لهم : " هذه دار النوبة ، وأنتم إغتصبتموها منهم أنا ما بقبلها " . ويعلق البوفيسيور يوسف فضل على رد الشيخ إدريس بأن فيه تكثيفا ، وتبسيطا روائيا لحقائق تأريخية كبرى تحكى كيف بسط الفونج نفوذهم على بلاد النوبة ، وهو إنتصار لا يخلو من الحروبات والقهر . ترك ذلك التحول بصماته على وجه الحياة الدينية فى السودان فبينما ساد جو من التسامح بين المسلمين من أهل بلاد السودان داخل المؤسسة الإسلامية إنعدم ذلك التسامح نحو المسيحيين ونحو أصحاب الديانات الأخرى خارج المؤسسة الإسلامية وإزدادت حدة ذلك التعصب مع التفوق الإقتصادى ، والسياسى ، ولعل تعبير " الكفار حطب النار " الذى يصف به مسلمو السودان غير المسلمين سواء كانوا مسيحيين أو وثنيين يعبر عن ضيق الأفق الدينى لدى أهل البلاد ، وهكذا أخذت تتكون تربة لنمو معتقدات لا تقوم على الفهم لأمور الدين فإذا أضفنا إلى هذا ماتم ذكره سلفا من إنتشار الإسلام فى السودان فى القرن الأول لم يتم على يد مبشرين مقتدرين ‘ وإنما تم تلقائيا عن طريق التجار ، والقبائل الرعوية إتضحت لنا بعض الجوانب من الإطار العام للوضع فى البلاد عشية قيام دولة الفونج ، وبداية الإنتشار المنظم للإسلام فى ربوعها . خضعت الطريقة التى إنتشر بها الإسلام على أيام الفونج للعديد من الدراسات ، وأصبحت معالمها الأساسية واضحة فقد إنتشر الإسلام فى هذه الفترة على يد رهط من العلماء لهم دراية بأمور الدين وجاءوا من أجل التبشير بالإسلام . على إن إهتمام أولئك العلماء كان منصبا فى البداية على نشر تعاليم الشريعة فى مجال الفقه ، والمعاملات ، وتطبيقها ، وليس نشر درجة الوعى الدينى . فهم جاءوا لدعم المؤسسات الإقتصادية ، والإجتماعية بقوانين تنسق نشاطها ن وتنظم حركتها ، ولم يكن يقودهم وهج التبشير على أن ذلك الوهج أضاء نفوسهم بعد أن إصطدموا بالممارسات الوثنية وبعد أن برز التفاوت بين العقيدة ، وتلك الممارسات مما إستوجب القيام بنشر الوعى الدينى للحد من ذلك التفاوت .وكانت الصوفية رأس الحربة فى توغل الإسلام فى فجاج البلاد وسهولها ، وتحمل رجال الصوفية العبء الأكبر من هذه المهمة الشاقة ، وقد لعبت الصوفية ذلك الدور فى إطار تراثه الروحى الذى كانت هى جانب من جانبها إمتدادا له ، وما كان رجال الصوفية مجرد مجموعات تهيم فى فراغ ، وتسعى بلا هدى وتتحرك خارج إطار ذلك المجتمع ، ولم تكن تجربة رجال الصوفية وجهدهم صراعا فكريا مجردا ، وإنما جهد فكرى ، وروحى فى مجتمع كانت تتبلور معالمه ليتقبل ذلك الجهد الفكرى ، والروحى . نواصل فى الحلقة القادمة كيف إستطاعت الصوفية الإنتشار فى السودان ولعب دورها بجدارة ؟ بقلم الكاتب الصحفى والباحث الأكاديمى عثمان الطاهر المجمر طه / باريس osman osman [[email protected]]