ثلاثة ظواهر وعوامل شتى، متشابكة متداخلة، قد تقودنا إلى تلمس الملامح الرئيسية للحروب الأهلية والنزاعات الداخلية ومُسبباتها في مُقبل السنوات. نشبت الحروب والنزاعات الداخلية في بلدان كثيرة في العقود المنصرمة لأسباب عديدة، منها المظالم والمطالب الإقليمية والجهوية والقبلية والدينية، وما دون ذلك كما حدث، ويحدث الآن، في الصومال. وبعض هذه الأسباب حقيقي، وبعضه متوهم؛ وبعضه ضارب في التاريخ (مثل الحرب "الأهلية" في يوغسلافيا وليبيريا في التسعينات)، وبعضه مُحدث جاء بعد خيبات الأمل في فترة بعد الاستقلال في افريقيا، وفشل الحكومات الوطنية في تسيير أمور بلدانها بما يُعضد الانتماء "للأمة" الوليدة، ويحقق قدرا من العدالة والتنمية المتوازنة، ويُعطي هذه الشعوب الأمل في الغد. ثم عصفت بالعالم تحولات هائلة، سياسية واجتماعية، وطفرات عملاقة في تكنولوجيا المعلومات والاتصال، قد تقود إلى إعادة تشكيل طبيعة الصراعات الداخلية في مقبل السنوات. وأول هذه التحولات هو ظاهرة العولمة المتسارعة التي تأخذ بتلابيب المجتمعات، على اختلاف الجغرافيا والتاريخ والديانة، ودرجة التقدم العلمي والتقني والاقتصادي، وتحشرها حشرا في بوتقة واحدة، أو في "ثقافة" – إن شئت – موحَّدة، موحِّدة، تجعلهم يلبسون نفس الألبسة، ويأكلون نفس الأطعمة، ويُشاهدون نفس البرامج، ويستمعون إلى نفس الموسيقى، ويُريدون نفس الأشياء، ويحلمون نفس الأحلام. غير أن مجتمعات اليلدان النامية لا تأخذ من هذه "الثقافة" المعولمة الغالبة (وهي غربية-أمريكية) إلا قشورها وزبدها، وتترك اللباب وما ينفع الناس: تأخذ الأنماط الاستهلاكية المُفرطة، وتصفيفات الشعر، وجديد الأزياء والرقصات، وتترك احترام الوقت، وتقديس العمل ، والحفاظ على البيئة، وحماية الممتكات العامة والمال العام. وثاني هذه التحولات هو النمو المُفزع للفوارق الاقتصادية والاجتماعية في معظم بلدلن العالم "الثالث" وبعض بلدان العالم "الثاني" القديم، بين قلّة تزداد غنى، وأكثرية تزداد فقرا؛ قلّة تزهو بثرائها، وتريدك أن تراه في مساكنها وسياراتها وملبسها ومناسباتها وفي تصرفاتها وأنماط حياتها عامة؛ وأكثرية تُجاهد في أحياء مهملة لإبقاء الرؤوس فوق سطح ماء الفقر. وقد عمّق هذه الفوارق اعتناق معظم هذه البلدان لما بشّر به المحافظون القدامى والجدد في الغرب، وهو اعتماد النظام الراسمالي واقتصاد السوق الحر الذي سيملأ هذه البلدان عدلا ورخاء كما حدث في أوروبا الغربية وامريكا الشمالية. وقد سارعت النُخب الحاكمة في البلدان النامية (وبلدان المحور الروسي) باتباع هذه الوصفة فأقامت نُظما اقتصادية "محررة" في الظاهر، ولكنها محتكرة لهذه النخب في واقع الأمر، وسارعت في خصخصة أصول الدولة بتحويلها (بأزهد الأثمان) لمصلحتها، كما حدث في بلدان عديدة من روسيا إلى السودان، وتبعت ذلك بتحويل عبء تسيير دولاب الدولة المترهل على كاهل المواطن عن طريق الضرائب والجبايات، وخفض الانفاق على الخدمات الأساسية، وتسخير سلطة الدولة لإثراء القلّة الحاكمة. أما أخطر هذه التحولات الهائلة، في رأيي، فهو تضخم قاعدة الهرم السكاني بحيث أصبح أكثر من 60% من السكان من هم دون سن العشرين ، وربما بلغت النسبة أكثر من 70% لمن هم دون الثلاثين. وقد تكون مثل هذه الأعداد الهائلة من الشباب نعمة إن أحسن تعليمها وإعدادها، ونقمة إن اهملت وفقدت الرعاية والاهتمام من الدولة والمجتمع. وهم طاقة جبارة، بناءة إذا استغلها من أراد البناء، ومدمّرة إذا استغلها من أراد الهدم. غير أن تردي ظروف بلدانهم، واهمال حكوماتهم وقادتهم، والإحباط العميق، واليأس من الغد، والبطالة والفقر، والاحساس بالظلم، جعلتهم ضحايا سهلة الإيقاع للثائرين على الأوضاع وللمغامرين، وأصحاب القضايا الحقيقية والمفتعلة، والباحثين عن العدالة لشعوبهم، أو عن السلطة والثروة لأنفسهم. وانظر إلى دور هذه الفئة في حروب غرب أفريقيا (ليبيريا وسيراليون)، وووسطها (الكنغو برازافيل والكنغو كنشاسا)، وفي شرقها (أوغندا والصومال)، وفي حروب أطراف السودان. تُسكرهم، وهم يُمسكون بالكلاشنكوف، روائح البارود والدم والجنّة، وأوهام القوة والمشاركة في "القضية"، فيضحون طاقة شرسة متوحشة لا رادع لها ولا هدف مشروع. وفي ظنّي أن أعداد الشباب المتضخمة، وتعمّق احباطهم يأسهم وفقرهم وفقر ذويهم، واشتداد احساسهم بالغُبن، وتضخم طموحاتهم ومحدودية مقدراتهم على تحقيقها، في ظل مجتمعات معولمة، تجعل الجميع يرون ما وراء الحدود، ويريدون نصيبهم مما يرون، وتتسع فيها الفوارق الظاهرة بين الأغنياء والفقراء، ستكون وقودا ملتهبا للنزاعات في بلدان عديدة في مستقبل ليس بالبعيد إذا تواصل جهل أو تجاهل الحكومات لهذه القنبلة الموقوتة، وانصراف النُخب الحاكمة باسم العشيرة أو القبيلة أو الإقليم أو الدين عن واجباتها الأساسية في تغليب المصلحة العامة؛ وفي بسط العدالة وحكم القانون؛ وفي الاستثمار الجاد في مستقبل بلدانها عن طريق التعليم الجيّد المُفيد للجميع، والرعاية الصحية للغالبية العظمى من الفقراء؛ وفي بناء اقتصاد مزدهر يوسع الفرص أمام الجميع دون احتكار أو اقصاء. أردد، دون كبير عشم، المثل السوداني "الله يكضّب (يكذِّب) الشينة –فال الله ولا فالك"، وأسأل الله التخفيف! عن (إيلاف والراية القطرية)