خلال احتفالات المولد النبوي في العام الماضي ،ومن داخل حوش الخليفة بأم درمان شاهدنا نوع من الصراع وصل إلي درجة الاشتباك بالأيدي واستخدام لغة العضلات بين بعض أتباع الطرق الصوفية ، ومجموعة من أنصار السنة المحمدية. كان من الممكن أن تمر المسألة بهدوء لولا وجود مناخ طائفي واحتقان موجود أصلاً بين الطرفين، المهم أن المسألة تطورت باتجاه التصعيد، حيث تم حرق مخيم أنصار السنة ، وصدرت تصريحات عن بعض أعضاء جماعة أنصار السنة تزعم وجود مؤامرة لعبت الحكومة والأجهزة الأمنية دوراً فيها، كنوع من المحاباة وتكريس للطائفية،وتحجيم للسلفية، وتم تلقف الحدث وتصعيده إعلاميا لإثبات وجود تمييز سلبي يمارس ضد جماعة أنصار السنة في السودان. و إن تلك الحادثة لم تكن وليدة لحظة عابرة وإنما كان هناك من يقف وراءها ويزيد من اتساع الهوة بين الجماعة والطرق الصوفية ، رغم ان الجماعة ظلت ملتزمة بالدعوة إلى التوحيد وتصحيح المعتقد بالحكمة والموعظة الحسنة ، وعلى مدى أكثر من سبعين عاماً ،داومت علي المشاركة في ساحات المولد ولم يحدث ما يعكر صفو العلاقة بينها والآخرين ، وتعايشت مع المجتمع بكافة فئاته ما يقارب القرن من الزمان ، باعتبار إن المولد يمثل سوقاً يعرض فيه كلٌ بضاعته ؛ وبضاعة الجماعة هي الحديث من كتاب الله وسنة رسوله. ولكن إذ ما بدأنا من البداية فقد كانت الطرق الصوفية كما نعلم مراكز للقوة السائدة في العصور القديمة في السودان آنذاك،وكان لها تراث فكري، وثقافي، وأدبي، ودعوي هائل، خاصة وأن تاريخ التصوف مرتبط إلى حد كبير بتاريخ دخول الإسلام إلى السودان، وقد تميز التصوف بدور اجتماعي كبير ،مثل حل المشاكل والخصومات ، بين الأفراد والقبائل، ولكن لم يلبث أن تغيرت بعض الطرق إلي أحزاب سياسية وقد تضاءل تأثيرها كثيرا. ثم جاءت جماعة أنصار السنة المحمدية التي استطاعت اجتذاب إعداد كبيرة من الأعضاء ، والسيطرة علي اغلب منابر المساجد وخاصة ولاية الخرطوم، وصعدت جماعة أنصار السنة المحمدية إلى الواجهة ، فقد استطاعت بعد رحيل مرشدها الشيخ الهدية أن توحد صفوفها فيما كان يتوقع أن تتأثر بغيابه تنظيمياً وعلى مستوى خلافته،بل إنها أفلحت في إبعاد شبح التمزق والانشقاقات من المركز العام، بعد اختيار نائبه الدكتور إسماعيل الماحي رئيسا عاما لجماعة أنصار السنة المحمدية بالسودان خلفا لزعيمها الروحي ،مما يدل علي أن المسافة التي كان يضعها التنظيم إزاء الممارسات الديمقراطية ، بدأت في التقلص تدريجياً. كما أصبحت جماعة أنصار السنة مركز لاستقطاب الطلاب في الجامعات وتحولت من تنظيم دعوي وإرشادي إلي إطار شبه سياسي نال استحسان الكثيرين،وأصبح لدي جماعة أنصار السنة دعاة بارزين من أمثال المرحوم محمد سيد حاج ، والشخصية المثيرة للجدل محمد مصطفي عبد القادر الذي انتهج تعرية المعتقد الصوفي وأصبح منهج له. لكن التنافس والاحتقان بين تلك المجموعتين وصل إلي حالة من الشد والجذب والمد والجزر ساعد لتكون العلاقة بين الطرفين عكسية إلي حد بعيد فظن البعض إن الارتفاع عند البعض يعني انخفاض عند الآخر والعكس. ، إذ لا يزال كل طرف ينظر إلى الآخر بحذر وعدم ثقة، رغم الاتفاق على ميثاق شرف بشأن المشاركة في مولد النبي صلى الله عليه وسلم لهذا العام ،لكن في الحقيقة الأمر فإن حوادث العنف دائما ما تتكرر في السودان ، ونكاد نقول إنه منذ التسعينيات حدثت عشرات حوادث العنف الطائفية المعلنة وغير المعلنة،بداية بإحداث الجرافة ،والمحاولات المتكررة لاستهداف وتفجير القباب والأضرحة الكبيرة والصغيرة في سوبا والعيلفون ومناطق أخري، وفي كل مرة تتم معالجة المسألة بنفس الطريقة على طريقة دفن الرؤوس في الرمال دون البحث عن الأسباب الكامنة، ومحاولة علاجها جذرياً بهدوء وببطء وفي وقت كاف، وليس إغلاق الجراح على ما فيها .