نعم المجتمعات العربية ماتزال تعتقد وتفترض فى كل متحدث بإسم الدين الصدق وأن كل من يأتي بخطاب سياسي ديني هو من سينقذهم من براثن التخلف والتبعية إلى فضاءات الحرية والتقدم وأن كل حزب يحمل راية ( لا إله إلا الله ) هو الحزب المنشود ، نعم مازالت كثير من المجتمعات لم تتجاوز مربع الإعتقاد فى الأشخاص وأقوالهم ، كما عرفت القوى الإنتهازية مكامن الضعف والقوة فى هذه المجتمعات وإستغلت تلك العاطفة الدينية المتجزرة فى وجدان هذه الشعوب بدغدغتها وإثارتها بخطاب ديني ( رخيص ) محصلته النهائية ( صفر ) ولكن كما هو معروف فإن هذه المجتمعات تعاني من نسبة أمية تفوق ال80% ومن السهل جداً إستغلال هذه الأمية والوصول للمبتغى السياسي والإقتصادي من خلال إثارة تلك العاطفة الدينية ، وهذا بالضبط ما تقوم به الأحزاب الإسلامية فى هذه المجتمعات ، والتى برعت فى إستغلال الشعوب وتخديرها بهذا الخطاب كما برعت فى إلقاء التهم ( التكفيرية ) لكل معارض لسياسة هذه الأحزاب ، وفى تقديري أن أسهل الطرق للصعود السياسي الناجح فى هذه المجتمعات هو ( الخطاب الديني العاطفي ) .. ويحق لكل منا أن يسأل نفسه إذا كان الأمر بهذه السهولة لماذا لم تستغل باقي التيارات المدنية أو ( العلمانية ) هذا الخطاب للوصول للسلطة ؟ ولماذا لا تحارب نفس هذه التيارات تلك الحركات والأحزاب الإسلامية بذات النهج وبذات الخطاب وبذات التهم التكفيرية الجاهزة والمقولبة ؟ وعند الإجابة على هذين السؤالين نكون قد وصلنا لبداية طريق طويل لحوار ( جدلي ) واقعي سيقودنا لمحصلات نهائية نستطيع من خلالها دراسة مجتمعاتنا كنخب مثقفة وصفوة متعلمة ، ووضع نظام يتماشى و ثقافة هذا المجتمع الذي نعيش فيه ونتفاعل بكل تفاعلاته المتناقضة والمتناغمة مع كثير من الأحداث .. وإذا أخذنا الدولة السودانية كمثال حي ، وبنظرة فاحصة لكل تلك التفاعلات والصراعات والتغيرات الثقافية والسلوكية ، سنجد أن كل مايحدث هو ظاهرة إجابية ، محصلتها النهائية الوصول ( للقناعة ) بعدم جدوى وعدم صلاحية كثير من الأيدلوجيات التى لا تتناغم مع متطلبات الواقع الثقافي والإجتماعي والإقتصادي ، فالمجتمع السوداني مجتمع حديث النشأة والتكوين وهو عبارة عن مجموعة قبائل مهاجرة من مناطق أخرى إستقرت فى هذه الأرض ومجموعة دويلات وسلطنات وممالك كانت تدير شؤونها بمفردها والصبغة الغالبة لمجموع تلك الدويلات الصغيرة هو التشابه الثقافي والتناغم القبلي واللغوي ، حتى جاء محمد على باشا وحكم كل هذه الدويلات ككتلة واحدة تشكلت من خلال هذا الحكم ملامح ( الدولة السودانية الحديثة ) التى تحمل بداخلها متناقضات كثيرة بدأت تظهر الآن بظهور التكنلوجيا والعلم الحديث وزيادة معدلات الوعي بدرجات متفاوتة ، أخذت تأخذ شكل الصراع الجهوي والقبلي والثقافي ، فالسمة الغالبة للمجتمع السوداني الحديث هو ( التعدد ) ، ومن المستحيل إدارة دولة بهذا الوصف عن طريق ثقافة واحدة وحزب واحد وقبضة مركزية قوية تفرض حتى نمط الإنتاج على هذه المجتمعات الصغيرة ، وبدأ هذا الصراع يأخذ شكله الصارخ الحالي بوصول ( الحركة الإسلامية ) للحكم بمشروع حضاري معد مسبقاً وبشعارات فوقية لا تلامس قضايا الواقع ، وبقوة السلاح مستغلة القوات المسلحة ، وحاولت فرض رؤية أحادية بالقوة بدعوى أنها رؤية سماوية منزلة لا تخضع للحوار والمناقشة ، ومن هنا بدأ الصراع الحديث يأخذ شكله الحالي حتى بدأ السودان الحديث بالتفكك والتشظي بسبب هذه السياسة الدينية المفروضة على المجتمع من قبل جماعة صغيرة تفرض نفسها بالقوة حتى فشلت حتى فى إدارة نفسها وبدأت بالتفكك وإستخدام العنف بكل أشكاله وإعادة إنتاج الخطاب الديني بشكل أعنف لضرب الخصوم .. ومن هنا يجب ان يبدأ الحوار الفعلي لكل القوى المدنية السودانية ، للوصول لميثاق جديد يحدد بكل وضوح كيف يحكم السودان الحالي ؟ على أن يحمل هذا الميثاق بداخله كل تطلعات المجتمعات المكونة للدولة السودانية الحديثة ، مع التأكيد على عدم فرض رؤية أحادية من قبل قبيلة معينة أو ثقافة معينة أو دين معين ، مع إعمال مبدأ الحرية والمواطنة قبل كل شئ .. ولكم ودي .. [[email protected]]