بالنسبة للبعض فهو فنان مجدد، وعند آخرين هو ظاهرة تجاوزت السائد والمألوف، ومعظمهم يرفض أن يلصق به وصف أقل من العبقري. تمكن بذكاء بالغ من اصطياد محبة الجماهير، وكانوا محقين أن منحوه حباً صادقاً، وولاءً نادراً. عندما غادر الفنان الراحل مصطفى سيد أحمد خارج السودان انقطع لأكثر من خمس سنوات عن جمهوره داخل الوطن، اعقب ذلك رحلة الاستشفاء الطويلة حتى رحيله في يناير 1995م. وإذا كان طول الغياب لأي فنان يأتي خصماً على رصيد نجوميته نتيجة لبعده عن معانقة جمهوره، إلا أن بريق مصطفى سيد أحمد لم يخفت بسبب الغياب الطويل، بل كانت نجوميته تزداد توهجاً، ورصيد معجبيه يتضاعف يوماً بعد يوم.كان جمهور الراحل مصطفى سيد أحمد هم الشباب والطلاب والمثقفون والعمال وكافة شرائح المجتمع وهو أمر نادر الحدوث أن يتمكن فنان من استحواذ قلوب كل الناس بمختلف الأعمار والمشارب. مصطفى سيد أحمد لم يكتسب قيمته كمغن فقط، بل كمثقف وتنويري، ولم يكن مصطفى فناناً تقليدياً من جهة الكلمات التي يختارها أو الألحان التي يصوغها، بل كان مختلفاً في كل شي، فلا غرو إذن من استحواذه على اعجاب كل الناس، وحتى من اختلف مع مواقفه وأفكاره لكنه لم يستطع أن يكون محايداً أمام موهبته الطاغية، وصوته المتفرد والمفردات الخاصة التي كانت تعبر عن هموم الناس، آمالهم وأحلامهم. لقد كانت جنازة الراحل مصطفى سيد أحمد هي استفتاءً حقيقياً على جماهيريتة برهنت على العشق الفريد الذي يكنه له الناس، ولحظة وصول جثمانه لمطار الخرطوم خرجت الجماهير من كل اتجاه وهي تبكي لتشيعه حتى مقره الأخير في قريته بود سلفاب. وتمضي الأيام والسنون ومصطفى لم يغب عن وجدان الناس، فكان رصيد معجبيه يزداد يوماً بعد يوم، وجيلاً بعد آخر حتى اللذين لم يعاصروا زمنه عشقوا صوته، فكان خيارهم الأول. مصطفى سيد أحمد كان من الظواهر التي يصعب تكرراها كثيراً لكنها ليست مستحيلة. ولأنه كان كذلك فقد ظلت الساحة الفنية بعد رحيله ولسنوات عديدة هامدة ورتيبة تقتات من ماضيها حتى قيض لها عبقري آخر. محمود عبد العزيز هو كذلك حالة فنية استثنائية بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى. فقد تمكن من بناء أكبر قاعدة جماهيرية نالها فنان سوداني في وقتنا الراهن أو ربما في أزمان مضت. بعد خبر وفاته ساد حزن عميق تسرب لقلوب جميع محبيه فخرجت الجماهير تعبر عن حزنها في مظاهر لم تكن مألوفة من قبل، فقد رحل قبل شهور قليلة فنانون وشعراء ملأوا الدنيا وشغلوا الناس إلا أن الأحزان لم تظهر على سلوك محبيهم بالصورة التي كانت عند رحيل الفنان محمود عبد العزيز. لقد تميز بجانب قوة صوته بشخصيته المتواضعه، وملامحه البسيطة القريبة من الناس، وحضوره الآسر الذي أضاف لشخصيته كاريزما من نوع فريد ساعدته في تكوين قاعدة جماهيرية غير مسبوقة. عشقته الجماهير وهامت به خاصة فئة الشباب التي حفظت كل أغنياته عن ظهر قلب فقد عبر بألحانه ذات الشجن والحنين عن جيل الشباب ، ولذا خرج معجبوه يبكون بحرقة لفراقه، وحتى من لم يكن يستمع إليه تأثر وحزن لرحيل محمود عبد العزيز. "كلاهما" مصطفى سيد أحمد ومحمود عبد العزيز شكلا رقماً فارقاً، وأسطورة حقيقية، الفرق الوحيد اختلاف زمنيهما واختلاف ذهنية جمهورهما على الرغم من الظروف المتشابهة للحالة المرضية لكليهما. لقد ظل مصطفى سيد أحمد يعاني من المرض لفترة طويلة حتى وفاته، وكذلك كان محمود. لكن جمهور مصطفى سيد أحمد تقبل نبأ موته بيقين وثبات، في الوقت الذي لجأ جمهور محمود عبد العزيز إلى أسلوب مختلف في التعبير عن حزنهم على رحيل نجمهم المفضل. لقد استقبل مستشفى الخرطوم لوحده أكثر من 40 حالة إغماء من شباب معجبين بالراحل بجانب محاولات الانتحار من قبل بعض المعجبين والهيستيريا التي صاحبت وصول الجثمان، والأحداث المتفرقة التي وصلت أحياناً للتخريب كأحد وسائل التعبير عن الحزن... هذا السلوك هو أمر جديد لم يكن موجوداً حين وفاة مصطفى سيد أحمد أو أي فنان آخر غيره، وهذا هو الفرق ربما بين زمن مصطفى سيد أحمد وزمن محمود عبد العزيز. اللهم نسألك الرحمة والمغفرة لمصطفى ومحمود وأن تجعل الجنة مثواهما. Ayman Abo El Hassen [[email protected]]