ذات صيف غائظ فى شهر مايو فى العام 2010 إقترحت على بعض الاصدقاء فكرة زيارة لدولة اريتريا وذلك بغرض الترويح على النفس وكذلك التعرف على من حولنا من شعوب ودول. صحوت فى ذلك الصباح باكرا وحزمت حقيبتى ومنها الى الميناء البرى, ومن هنا كانت البداية نحو اريتريا....تحرك بنا البص السياحى نحو كسلا وجبالها التى استعصمت بالبعد عنا, وعند المساء كنا داخل مدينة كسلا التى رأيتها لمرة الاولى فى حياتى وإقترحت على من كان معى الطواف على تلك المدينة بسحناتها المختلفة..وطفنا على المدينة وتحدثا مع صديقنا عثمان بن كسلا الشفيف, المغرم بالونسة حول السياسة وسوء الطبقة الحاكمة فى الشمال. فى الصباح الباكر والمدينة تصحو على صوت عربات الاتوس وصوت الباعة المتجولين, ذهبنا الى قسم الشرطة لتكملة إجراء السفر ومنها تحركنا صوب 13 وهى الخط الذى يفصل كسلا عن تسنى, التى تتشابه حد التطابق كسلا او اى مدينة سودانية يغطيها الغبار, الفنادق لا بأس بها فى تلك المدينة التى لايمكنك التميز مابين من هو السودانى والاريترى, لكى نقضى ليلتنا فى تلك المدينة ذات الطابع القروى, كانت اولى ملاحظاتى هى الطلب الغريب الذى بموجبه علينا التسجيل فى مركز الشرطة ثم ان ندلف الى الفندق ثانية, ولكن الاكثر إدهاشا هو الود والطيبة التى وجدناها من سائق الحافلة الذى تشابه حافلته الهايسات الموجودة فى موقف الشهداء ام درمان. قلت لصديقى عمر الحاج وشقيقى هيثم, علينا بالتجوال فى تلك المدينة, لان الفندق يحجب عنا وقائع إجتماعية ليست لها علاقة بما هو كائن خلف الحزن والشقاء الإجتماعى ...لذا علينا أن نوغل نحو الاعماق.....وما يعرف بقاع المدينة.....الوجوه والشوارع تأبى القمع وتحنو الى لمعان الينابيع وصوت القمرى الذى يذكرك الغائبين الذين يعشعشون فى حنايا الذاكرة الفردية طويلة المدى. يا لكرم السماء!! ومن دون مقدمات ينهمر المطر مدرارا فى تلك الليلة ذات السماء البلو, وكأنها تستقبلنا ...همست لعمر: هذا والله فأل حسن وإحتفاء "ووليمة لاعشاب البحر" – ان تغسل تلك المدينة ما علق بنا من تراب وغبار فى تلك الرحلة, بل ازالة عنا صيف الخرطوم الممسك بحواف القلب.. ومنحنا المطر جو من النعاس الذى غلفنا برائحة الموز فى حقل بعيد, وكيف لا؟ والمطر هو رمز الخصوبة وطاقة الإشعاع, ومن هنا بدأت " الاشياء تتداعى" الونسة التى لا تصلح الا فى جو الانعاش والإنتعاش والدعاش. فى الصباح الباكر تحركنا نحو العاصمة اسمرا وعلى جنبات الطريق كنا نرى بعض مخلفات حرب التحرير التى تقف بعض الآليات المحطمة للجيش الاثيوبى من جانب, ومن جانب آخر تقف شاهدا على التضحيات الكبيرة لجبهة التحرير الاريترية..وكلما توغلنا فى العمق الاريترى...كلما كان إرتفاع الارض عاليا والطريق الجبلى الذى تحفه الاشجار...الى ان دخلنا كرنا التى حارب فيها الجيش السودانى على ايام الحروبات العالمية وصراع الجبابرة والممالك. كرن يبهرك ضوءها النهارى الذى ارجع الينا النهار والشوق اللامحدود الى الإستجمام وتمنحنا الارادة والاغواء الى العوالم الجميلة والمغامرة والثرثرة على الجبال الخضراء....لحسن حظنا ان تعارفنا على مهندسان يعملان فى تنقية المياه فى كسلا ويديران مشروعا لتلك المهمة وهما تخصصا فى إحدى الدول الغربية وكانت وسيلة التفاهم الوحيدة بيننا هى اللغة الانجليزية, فكلانا لا يعرف لغة الآخر, فيا له من جوار اقليمى شديد التنوع والثراء اللغوى. كنا كلما مرننا بمعالم لا ندرك كنها ...كان هذان الشابان بمثابة دليل ومرشد سياحى لنا, عند مغيب الشمس , تطل اسمرا التى يكسوها الغمام كحسناء تخرج من سباتها الطويل وهى مشرئبة الى السماء, حالة من الصخب والغناء على انغام الموسيقى التى كانت مصدرها المسجل على الباص, شباب يعشقون اسمرا حتى الثمالة, قلت لهيثم وعمر ماذا لو اتخذنها كمدينة بديلة ونحن الذين احتلت مدينتا ونأت عنا بفعل الطغيان والغطرسة, فهى على الاقل شمسها حانية ومناخها اكثر حنونا وحنينا علينا نحن الذين افترسهم قانون الغاب, والوحش قانونه الإلتهام...منذ الحظة الاولى المدينة ذات المعمار الإيطالى تركت وردة على قلبى وبللتنا بماء البحر...وهنالك دائما بيت آخر يتسع لاحلامنا, كنت اقول لنفسى ومازلت. اخترنا فندقا لتقضية الاجازة الصيفية... فى فندى يسمى ( شقى) على ما اذكر وهو يجمع ما بين السعر المعقول والهدوء الذى يحفه, وفى اليوم التالى وبعد نوم عميق اخذنا من الرسبشن خارطة الطريق للطواف على المدينة ذات الشوارع النظيفة والاشجار والازهار التى فى غاية الجمال والتنسيق ...وكانت فاتحة الزيارة , الوقوف بقبر الراحل عميد الفن السودانى الحاج محمد احمد سرور, ليست المقابر وحدها التى يتساكن فيها الموتى, مسلمون ومسحيون جنبا الى جنب, بل الكنيسة تجاور الجامع, وكيف لا " وجعلناكم شعوبا وقبائل لنتعارف" لا لنتعارك حد ابادة الجنس البشرى كما يحصل من حروب داحس والغبراء فى سودان اليوم الذى يحفه القتل والتقتيل . اخيرا, وللحديث بقية الذى حفزنى على كتابة هذه المقالة هو ما يدور فى تلك البلد من احداث سياسية بعد الانباء التى تداولتها وسائل الإعلام العالمية عن تمرد بعض العسكريين وسيطرتهم على مبنى الاذاعة والتلفزيون, وإعتقال 60 شخصية من قيادية من عسكريين ومدنيين أبرزهم عبد الله جابر الذى يعتبر الرجل الثالث فى الحزب الحاكم...وهو رجل كان من الممسكين بملف شرق السودان لما من اريتريا من تأثير على الاوضاع فى السودان والصومال وعدد من دول الجوار, كان لابد من تقيم ما يحدث فيها. من وجهة نظرى الخاصة جدا, أرى ان ما يحدث فى تلك الدولة الشقيقة التى إستضافة قادة المعارضة السودانية ردحا من الزمن, هو عبارة عن رواية قديمة متجددة, اى هنالك تجارب لا حصر لها من قبل تنظيمات كانت لها اليد الطولى فى حروب التحرير من المستعمر الخارجى, الجزائر على سبيل المثال لا الحصر فى حربها ضد المستعمر الفرنسى, ولكن الذى حصل هو إحتكار التظيم الذى دفع كلفة التحرير وتحوله الى وحش كاسر, احتكر الاعلام وقام بعملية إقصاء سياسى وإقتصادى لكل المجموعات التى دفعت معه ثمن التحرر والإنعتاق,, وتحول التنظيم التحررى الى نظام شمولى ودائما هنالك خلايا ميتة داخل التظيم الشمولى لا تصلح للحياة, ولا تصلح لإعطاء الحياة الآلق الانسانى...بالرغم من ان النظام السياسى فى اريتريا سعى جاهدا لاحداث تنمية إقتصادية وتعليمية كما شاهدنا, والرئيس الاريترى كما عرفنا عنه لا تحوم حوله تهم فساد ويمكنك رؤيته متجولا ببنطال وقميص نص كم فى شوارع المدينة التى تعرفنا عليها تعارف الأرض للمطر. لكن هذه التنمية, يمكن ان نسميها النموذج الافريقى للتنمية, فالتنمية الحقيقة تكون بخلق رأس مالى بشرى قادر على الاختيار الحر للقيادة داخل التظيم والدولة, وهذا بالطبع لا يتوفر الإ فى ظل الدولة الليبرالية. والحاكم الشمولى يصير كالآلهة التى لا تقبل القسمة.. والزعيم الفرد الذى يعمل الإعلامى الشمولى على اسطرته وجعله فى مصاف الانبياء, فهو الواحد الاحد الغير متعدد, الذى تحدى العالم كله وصانع المعجزات ولنا نماذج سيئة لتلك النوع من القيادات, وبالرغم سوء إدراتها للدولة وتقسيمها وافقرها ..ولكن الاعلام الشمولى يحاول عبثا وضعها موضع الآلهة! ومثل هكذا زعامات وقيادات وانظمة مكانها المتاحف وارشيف المكتبات..فقد جاء زمن الشعوب ولا مكان للحزب الطليعى والقائد الفرد فى عالم اليوم. وارتيريا وحزبها الحاكم ان ارادت حقا التحرير, عليها بترك الجماهير لتحديد خياراتها وفى جو ديمقراطى صحى يسمح بنمو مليون زهرة برية ويقتل مليون زهرة شمولية سامة!! فالتحرير ليس بالدبابة وحدها وانما التحرير الحقيقى يعنى تحرير العقول ودولة القانون والعدالة وقبول التعددية السياسية والإعلامية, وهكذا يكون التحرير كاملا غير منقوص.. فالمعارضة تحت ظل دولة الحزب الشمولى الاوحد تعد خيانة ووجهات النظر المختلفة, وحتى داخل الحزب الواحد تعد خيانة للتنظيم والخيانة ثمنها السجن المؤبد, او الاعدام.. وباسم اى تحرير وأية عدالة سماوية او ارضية نصادر حق الشعب فى الاختيار والاقتراع الحر فى جو ديمقراطى صحى. ونحن نرفض وبشدة واشمئزاز تواريخ الطغاة... بدءا بثورة الزنج والقرامطة ومحاكم التفتيش وقتل الحلاج ومحمود محمد طه, ذاك" الانسان الكامل" والمطاردات والاعتقالات والتصفيات للجماعات والافراد فى عالمنا الافريقى والعربى والعالمى. abd alfatah saeed [[email protected]]