السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زبور الزنوج : ما أثارته (دفاتر كمبالا) .... بقلم: عمر جعفر السّوْري
نشر في سودانيل يوم 18 - 08 - 2009


انشر على لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد
شكوى يرددها الزمان غداً إلى الأبد الأبيد
عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)
في ربيع العام 1984 انعقد مؤتمر للحزب الاشتراكي الإيطالي في مدينة روميو و جولييت الخالدة، فيرونا، دُعي إلى حضوره عدد كبير من الأحزاب و الفعاليات السياسية الإيطالية، ومن أرجاء الدنيا كلها أيضا؛ و جاء لتغطية أخباره صحافيون من مختلف البلدان. كان هذا المؤتمر هو الأول للحزب الاشتراكي بُعيد فوزه بالانتخابات البرلمانية، و اعتلاء أمينه العام، بتينو كراكسي، سُدة رئاسة الوزارة، كأول رئيس وزراء اشتراكي في تاريخ الجمهورية الإيطالية، و تاريخ الحزب الذي تأسس في نهاية القرن التاسع عشر. رأى الاشتراكيون الإيطاليون أن يحشدوا العدد الأكبر من الضيوف في مؤتمرهم هذا تتويجا لانتصارهم الانتخابي و برهاناً على صلاتهم الواسعة و المتشعبة في العالم كله دون أن تقتصر على أحزاب الاشتراكية الدولية (الأممية الثانية - أو النادي اليهودي، كما يحلو لغلاة اليمين الاروبي تسمية هذه الرابطة) و من يدور في فلكها عرباُ أو أفارقة، و كذلك غمزاُ من قناة الشيوعيين، منافسيهم في الشارع اليساري و ساحة التنظيمات النقابية. و قد اظهر الاشتراكيون تلك البغضاء ساعة أعلن عريف المؤتمر عن دخول وفد الحزب الشيوعي الإيطالي يتقدمه الأمين العام، انريكو برلينقوير، إلى القاعة، إذ ضجت بالصفير و الصراخ، و كانت تهتز قبل ذلك بالتصفيق و الهتاف حينما يُعلن عن دخول وفود أحزاب اليمين، ألد أعدائهم، كالحزب الديموقراطي المسيحي و الحزب الجمهوري و غيرهما. تلك كانت المفارقة! لكن هذا الاستقبال المزعج لقيادة الحزب الشيوعي أربكت قيادة المؤتمر و أحرجتها، فدفعت بكراكسي إلى المنصة قبل موعد الافتتاح ليقدم اعتذاراً للشيوعيين عن سؤ أدب بعض محازبيه، نافيا أن تكون تلك هي روح غالبية أعضاء حزبه! ثم طلب من المؤتمرين التزام الأدب، و مراعاة الأخلاق الاشتراكية الحميدة، و حسن استقبال الضيوف الأعزاء، فتحول الصفير إلى تصفيق.
جرى كل ذلك قبل أسابيع قليلة من موت برلينقوير المفاجئ، و هو الذي كان قاب قوسين أو أدني من الاستحواذ على الحكم، و على مرمى حجر من تسلم حزب شيوعي للسلطة في بلد أروبي غربي رأسمالي عبر صناديق الاقتراع، بعد أن طرح برنامجه السياسي الشهير و الجريء: "المساومة التاريخية" بين الماركسية اللينينية و الرأسمالية الغربية. كان برلينقوير هاجس الغرب دوما مما أملى على مجلة "تايم" الاميركية نشر صورته غلافاً لعددها الصادر في 14 يونيو 1976 بعنوان فاقع اللون، "ايطاليا: التهديد الأحمر." لكن التهديد زال إثر دخوله في غيبوبة قصيرة و رحيل سريعٍ أخذ الشيوعيين الإيطاليين على حين غرة صيف ذلك العام.
توزع ضيوف المؤتمر من وفود الأحزاب الأجنبية و الحكومات و صحافيين كثر على نُزل و فنادق بلدة فيشينزي الساحرة الوادعة المستلقية تحت سفوح جبال الألب الإيطالية، و هي لا تبعد كثيرا عن فيرونا. و في إحدى الأمسيات دار حوار بين بعض المدعوين الأفارقة و الكاريبيين في مقهى الفندق الذي أقمنا به حول شعراء و روائيين من افريقيا و جزر الكاريبي كتبوا بالفرنسية. معظم المتحاورين جاءوا من سفارات بلادهم في باريس و روما أو من الذين جعلوا من العاصمة الفرنسية و جوارها مربطاً لخيولهم، يقيمون فيها اكثر مما يقيمون في بلادهم. كان الحديث ثراً رفيعاً، اختلف فيه "المتآنسون" حول هوية الشعراء و الكتاب و كنه انتمائهم. فمنهم من عدهم شعراء و كتاب فرنسيين خالصين رغم لون بشرتهم؛ و حسبهم آخرون مبدعين أصيلين أثروا لغة التعبير في الفرنسية بمفردات و مفاهيم و رؤى ما كانت تتاح للفرنسي الأبيض لولاهم، بل لما استطاع أهل فرنسا تطوير آدابهم البتة من غير هذا الإبداع الذي جاد به رجال و نساء "ملونين"!! و البعض الآخر رأى في ذلك إجحافاً بحق من كتب بالفرنسية تعبيراً عن اللغة الكامنة في جوانحه و المتدفقة في عروقه لكنها لم تستطع النطق الفصيح بما يكسر أسوار الرقعة الجغرافية الضيقة حتى في محيط البلد الواحد، أو لم يقدر على القفز فوق حواجز اللغات المحلية المحكية و هيمنتها. و في سبيل تعضيد رأيهم ضربوا مثلاً بالكاتب المارتنيكي جون برنابي الذي نافح عن لغة الكرييولي**، لكنه كتب جل أعماله الأدبية بالفرنسية الفصحى. و ذهب هذا البعض إلى أن هناك من ابتدأ على هذا المنوال ثم انتهى إلى شاعرٍ أو كاتبٍ فرنسي داكن اللون، و ليس أفريقياُ أو كاريبياً، أو زنجياً في أحسن الأحوال. بل هو فرنسي قح أو هي فرنسية خالصة ببشرة "غير بيضاء". استقر النقاش على شاعرين جادا و أجادا و أقلعا سوياُ في قارب "الزنوجة" و حركتها، (التي طبعت إسهام المثقفين من منطقتي أفريقيا الفرنسية و البلجيكية و جزر الكاريبي في فترة ما بين الحربين و ما بعد تلك الفترة، ردحاً من الزمن)، ثم تفرقت بهما السبل.
كان ايميه سيزار المارتنيكي و ليبولد سنقور السنقالي هما محور النقاش المستفيض، إذ لم يجمع الساهرون رأياً عليهما قط، لكن الغالبية اتفقت على أن سنقور انتهى شاعراً فرنسيا و حسب، على الرغم من رئاسته لدولة افريقية، بينما لم يتزحزح سيزار قيد أنملة عن الزنوجة و همومها و آمال الشعوب و الإنسانية جمعاء في الانعتاق و التقدم، و هو الفرنسي الجنسية، الذي ظل يتقلب في سلك فرنسا السياسي و يتبوأ مراتبها الوظيفية طيلة حياته المديدة؛ و يكاد يقترب منه هنا شاعر هايتي الكبير، جون بابتيست رومان، الذي انشد لحرية بلاده و استقلالها، دون أن ينسى فضل فرنسا أو يتنكر له. ألم يلهم سيزار تلميذه فرانتز فانون مؤلف "معذبو الأرض"، ذلك الذي التحق بصفوف الثورة الجزائرية مقاتلا و طبيباُ ؟ ثم تساءل أحدهم ماذا فعل سنقور؟! كان ذلك السؤال – في ظني – مبالغة في الإنكار، و شططاً، و تجنياً على أحد أهم شعراء القرن العشرين، بأي لغة كتب.
وردت أسماء كثيرة في تلك الليلة، و قُرئت نماذج من شعر هذا أو كتابات ذاك لتساند هذا الرأي أو تدحض غيره. ثم انتبهنا إلى أن الوقت قد حان للانطلاق إلى المدرج الروماني في فيرونا كي نلحق بحفل المغنية الاميركية جاُن بيز، تلك التي تهدهد الروح المنهكة الخاملة حتى تستفيق و تنشط، و تحي النفوس الهامدة، و تمسح عن الجسوم الحزنَ و التعبَ!
سيطرت مسألة الهوية و الانتماء، في ظني، على مجمل حكايات "دفاتر كمبالا" التي رواها الأديب الأريب جمال محمد إبراهيم في عمله الثالث، الصادر عن دار نلسن، قبيل مغادرة منصبه سفيرا للسودان في لبنان في ابريل/نيسان المنصرم. و لتأكيد هذا الهاجس لجأ أديبنا إلى نثر قصيدة العودة إلى سنار للمبدع السوداني الراحل محمد عبد الحي بين صفحات هذه القصة الطويلة. و لعله استعان على ذلك بأخر تعديل أجراه ناظمها عليها، الا إن عبد الحي، لسبب ما، لا أذكره الآن، أغفل بعض مما جاء في نسخة نشرها أول مرة في مجلة حوار التي صدرت ببيروت في ستينيات القرن العشرين. ذلك الذي لم يرد في نسخ اخرى من القصيدة، نُشرت فيما بعد، يشكل في ظني لب الإجابة - و إن لم يكن فصل الخطاب - عن سؤال الانتماء لدى السودانيين عامة و الشماليين منهم على وجه الخصوص، في صورة موحية، و أشارة دالة، و هو ما جسده التشكيلي الرائد عثمان وقيع الله في لوحة من أجمل ما خط و ما رسم؛ و أكاد أذهب إلى القول إنها الأبيات التي لخصت "منفستو" شعراء الغابة و الصحراء:
الليلة يستقبلني أهلي
الصوفيون الوثنيون
و صدى القرآنيات الأخضر يغلي
تحت سعار الطبل المجنون
الليلة يستقبلني أهلي
ذبحوا لي وعلاً صحراويا
عمدت صلاتي بدمائه
و توضأت به
ثم يأتي إلى القول:
أهدوني مسبحة من أسنان الموتى
إبريقا، جمجمة،
مصلاة من جلد الجاموس
لكن جمالاً، أو الراوي بالأحرى، في تساؤله و شكوكه، إن لم نقل حيرته، التي بدت أيضا في روايته البكر "نقطة التلاشي" لم يقطع بشيء و لم يذهب إلى الحدود القصوى التي ذهب إليها غيره. تلك الحدود التي لامست تخوماً مزعجة - و في بعض الأحيان مرعبة - وقف عندها طويلاً، على سبيل المثال لا الحصر، الروائي و الشاعر و المسرحي و السياسي و الوزير العاجي، برنار داديه.
يقول داديه في قصيدته الأشهر "شكراً لك، يا إلهي":
(ما اللون الأبيض إلا ارتجال عابر للون الأسود،
الأسود هو لون الأيام كافة،
فأنا أحمل الدنيا منذ حلول مسائها الأول.
أنني سعيد بشكل رأسي الذي جُبل ليحمل الكون؛
و راضٍ عن شكل أنفي، الذي يقدر علي استنشاق هواء العالم كله،
كذلك أنا سعيد بهيئة ساقيي المهيأتين لتعدوان عبر جميع مراحل الحياة الدنيا.
أشكرك يا ربي لأنك خلقتني أسوداً، و جعلتني حامل هموم العالم و أساه.)
هذا الذي ابتهل به داديه و حمله إلى كرسي الوزارة في نظام الرئيس فيلكس هوفيه بونيه، حاربه مبدع عاجي آخر. ففي روايته "شموس الاستقلال"، كشف أمادو كوروما مخازي و تسلط و قهر الحكومات الوطنية التي أعقبت مرحلة الاستعمار الأوروبي. تلك الأنظمة التي اغتالت فكرة الحرية و أجهضت تضحيات الشعوب للتحرر من نير الوجود الأجنبي، فلم يعد اللون الأسود إلا غطاء كالحاً لذات العسف إن لم يكن أسوأ منه. و ما جرى في أوغندا ما هو إلا تكرار لما حدث و يحدث في أرجاء القارة الأخرى. و كانت روايته الأخرى "ليس بمشيئة الله"، تعبيرا رائعا ليس عما جرى في ليبريا فحسب، بل في أوغندا و في منطقة البحيرات الكبرى، و في السودان أيضا. و لذلك الظلم "الأسود" جذور ضاربة في القدم، ممتدة عبر الحقب إلى يومنا هذا. و في ظني إن رواية الكاتب الكندي، لورنس هيل، "زبور الزنوج"، أكثر تصويرًا لمعاناة الإنسان المقهور المستعبد، أياً كان لونه و دينه و جنسه، من رواية أليكس هيلي "جذور"، رغم أن كليهما تناولتا فترة اصطياد العبيد و ترحيلهم إلى العالم الجديد! لكن لورنس هيل يشير إلى ما يحدث اليوم على يد "الوطنيين" بقدر ما يفضح عذابات الأمس، التي شارك في ارتكابها أهل البلاد السود.
و جمال يجعل من الغزو سبباً للبحث عن الانتماء و مثاراً لأسئلة الهوية. و هو ليس وحده في ذلك، فقد قال مصطفى سند مرة، على سبيل المثال: (جماع الغابة و الصحراء لم يكن ودياً في البداية. و لكن من رخام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية و سبايا الغاب الإفريقي نحتنا وجهنا.) هل الامر كذلك؟ يقول هاشم، راوي جمال في "دفاتر كمبالا" مخاطباً سميرة شرقاوي في ص 106: (لربما كان جدك أنت يا سميرة "كولونيلاً" قدم مع جيش غازٍ من الشمال ..!
كثر هم الغزاة الذين وردوا وادي النيل، من الشمال. كثر هم الغزاة الذين جاءوا عكس تيار النيل القادم من البحيرات المقدسة، من الجنوب. نعم .. فيهم عبدالله بن أبي السرح، و بعده محمد علي باشا الكبير، و بعده، و بعده. تمازجت في الوادي حقب طويلة، من الجغرافيا و من التاريخ. و في ثنائية الاتجاهات تلاقت ثنائيات أخرى، لم يكتمل تلاقحها، و لم ينتج بعد عن هذا التزاوج القدسي مولود مكتمل القسمات. و في أطروحتي القديمة عن تاريخ الفن الإفريقي، رصدت ثنائية الغابة و الصحراء، تنعكس على مرايا الشعر، كما على مرايا الرسم و التشكيل. لن يكون تلاقي الصحراء و الغابة، مثل تلاقي التنافر بين الماء و الزيت. لكنك يا ابنة الوادي، وقفت معي على مشارف الصحراء، و قبل انبثاق الدغل .. )
و يردف القول في ص 153: (أه من هذه الغزوات اللونية التي أورثتنا التباسات في الهوية بامتداد هذا النهر الأسطوري الذي شهد حضارات الفراعنة، و بنيت في أكتافه اهرامات امتدت من شمال السودان، عند مروي، و تواصلت إلى الجيزة في أطراف القاهرة، ثم اختلطت مياه النهرين الأبيض و الأزرق، منسابة من هضاب الشرق الإفريقي و أعالي خط الاستواء، لتشكل ذلك النيل الذي أعجب "هيرودوت" كثيراً، فكانت مصر عنده هبة النيل."
ظل هذا الارتياب يتردد بين دفتي الكتاب صعوداً و نزولاً، و بقيت الحيرة تتأرجح ذات اليمين و ذات اليسار، على الرغم من انه وصل إلى قرار في لحظة ما، صاغه في ص 105 بدون حيثيات واضحة كل الوضوح: (هذا هو السودان: نتاج أخلاط أثنية، و تقاطع رحلات، و طرق تجارة قديمة ..!) في مخالفة صريحة لما يورده في الصفحة التالية حينما يجزم: (لم ينتج بعد عن هذا التزاوج القدسي مولود مكتمل القسمات.)
منذ بداية الدفاتر الأولى تبرز هذه الهواجس جلية، لا يكتنفها غموض، و لا يلفها التباس: (نظرت حولي مأخوذا بما أرى.
ها أنذا في كمبالا على مرمى حجر من البحيرة المقدسة. بعض وجداني دفين في مياهها السحرية، ترى: هل تتعرف إلى أمواهها؟ هل تدرك موجة في هذه البحيرة إنها ستنحدر لأميال عديدة و تمر بأم درمان بعد ملتقى النيلين الأزرق و الأبيض، ثم تصل عبر القاهرة و تذوب في مياه المتوسط.) ص 32. و يشيع الاضطراب في ص 65: "هنا في الدغل – لا في الصحراء – كان علي أن أطارد قرابين جديدة، حتى في المدينة السمراء ..! لتتكشف لي جذوري، منسية هناك في الغابات البعيدة من صحرائي، القريبة من صحرائي .. يأخذني سحر المكان إلى جذوري الأولى.) و يمضي و هو في اضطرابه إلى ص 155 مخاطباً سميرة شرقاوي: (بعد عقد كامل من الزمان، ها أنذا تضطرب دواخلي معك، تلتبس أحوالي تجاه تاريخي القريب .. و البعيد، مثلما يلتبس عليك تاريخك بقساوسته و مسلميه و كولونيلاته.)
غير أن الغابة و الصحراء لا تكفيانه مطلقاً. لابد له من الاستعانة بأروبا لإزالة نقائص العِرق الأسود، حينما يقول هاشم في ص 94: (هم أشبه بشعراء "التروبادور" الجوالة في العصور الوسيطة في أسبانيا. "الانكولي" .. أي خليط حضاري يهب أخيار القارة السوداء فضائل أروبا؟) و لكن من أين للتروبادور بالقيثارة ذات الأوتار الستة؟ أليست هي قيثارة ذرياب؟ ذلك الزنجي العربي الهارب إلى الأندلس من دسائس اسحق و إبراهيم الموصلي و شيعتهما في بلاط الخليفة ببغداد؟ هي إذن فضائل "الزنج رن" و صاحبها الذي يشبه الانكولي و أبناء عمومتهم، و ليست فضائل أروبا.
إلا إن هاشم في النهاية يبقى تائهاً محتارًا، و قد فر من كمبالا بعد أن حاصرته نيران القذائف و طلقات الرصاص، تاركاً كتابه ناقصاً و رسومه غير مكتملة و نفسه خائفة خاوية، كما يبدو، إذ يقول في ص 97: (و من تكون "سميرة شرقاوي" هذه السبية المنعمة في أسرها، هذه الصبية المذهبة الأعطاف في خدرها..؟
ثم من أكون هنا، و قد جمعت الأضداد بين جوانحي، غرقت في هزائمي المريعة، شرقت بانتصاراتي المتوهمة..؟
ها أنذا و قد تكسرت مفاتيح شفرة عمري في لحظة الانكشاف، تلتبس عليّ هويتي في فسيفساء الصورة..)
إلا يبدو رحيل هاشم عن الخرطوم إلى كمبالا شبيه برحيل صاحبنا في "نقطة التلاشي" عن القاهرة إلى تونس؟ و هل تشبه عزيزة زميلته المصرية في جامعة الدول العربية التي فارقها يوم رحلت الجامعة إلى تونس؟ أليس فراق كمبالا فيه مرارة و خواء الرحيل عن تونس؟ قد يكون، لكنني لا أستطيع القول إن "دفاتر كمبالا" هي تتمة sequel لنقطة التلاشي أو العكس. كلاهما فيه تلك اللغة الشعرية المتينة التي نفتقدها في كثير من الروايات و القصص العربية المعاصرة، إلا عند القليل. و نجد عنده الوصف الأخاذ للاماكن و الشخوص و النفوس و الزمان. حتى تلك المناجاة، ذلك المنولوج الطويل يأخذان بالألباب؛ يطربان في كل الأحوال، و لا يشعران القارئ بالملل أو الضجر. دفاتر كمبالا تلك حرية بالقراءة و التأمل، لا مراء.
*The Book of Negroes, by Lawrence Hill
** الكرييولي لغة يتحدث بها الخلاسيون في أمريكا اللاتينية و بعض الولايات الجنوبية في أمريكا الشمالية.
نقلا عن الأحداث ومدونة الكاتب في موقع مكتوب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.