أنا وعادل إمام    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    إدارة مرور ولاية نهر النيل تنظم حركة سير المركبات بمحلية عطبرة    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    شاهد بالصورة والفيديو.. الفنان أحمد محمد عوض يتغزل في الحسناء المصرية العاشقة للفن السوداني (زولتنا وحبيبتنا وبنحبها جداً) وساخرون: (انبراش قدام النور والجمهور)    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    رسميا.. كأس العرب في قطر    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



زبور الزنوج : ما أثارته (دفاتر كمبالا) .... بقلم: عمر جعفر السّوْري
نشر في سودانيل يوم 18 - 08 - 2009


انشر على لهب القصيد شكوى العبيد إلى العبيد
شكوى يرددها الزمان غداً إلى الأبد الأبيد
عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى)
في ربيع العام 1984 انعقد مؤتمر للحزب الاشتراكي الإيطالي في مدينة روميو و جولييت الخالدة، فيرونا، دُعي إلى حضوره عدد كبير من الأحزاب و الفعاليات السياسية الإيطالية، ومن أرجاء الدنيا كلها أيضا؛ و جاء لتغطية أخباره صحافيون من مختلف البلدان. كان هذا المؤتمر هو الأول للحزب الاشتراكي بُعيد فوزه بالانتخابات البرلمانية، و اعتلاء أمينه العام، بتينو كراكسي، سُدة رئاسة الوزارة، كأول رئيس وزراء اشتراكي في تاريخ الجمهورية الإيطالية، و تاريخ الحزب الذي تأسس في نهاية القرن التاسع عشر. رأى الاشتراكيون الإيطاليون أن يحشدوا العدد الأكبر من الضيوف في مؤتمرهم هذا تتويجا لانتصارهم الانتخابي و برهاناً على صلاتهم الواسعة و المتشعبة في العالم كله دون أن تقتصر على أحزاب الاشتراكية الدولية (الأممية الثانية - أو النادي اليهودي، كما يحلو لغلاة اليمين الاروبي تسمية هذه الرابطة) و من يدور في فلكها عرباُ أو أفارقة، و كذلك غمزاُ من قناة الشيوعيين، منافسيهم في الشارع اليساري و ساحة التنظيمات النقابية. و قد اظهر الاشتراكيون تلك البغضاء ساعة أعلن عريف المؤتمر عن دخول وفد الحزب الشيوعي الإيطالي يتقدمه الأمين العام، انريكو برلينقوير، إلى القاعة، إذ ضجت بالصفير و الصراخ، و كانت تهتز قبل ذلك بالتصفيق و الهتاف حينما يُعلن عن دخول وفود أحزاب اليمين، ألد أعدائهم، كالحزب الديموقراطي المسيحي و الحزب الجمهوري و غيرهما. تلك كانت المفارقة! لكن هذا الاستقبال المزعج لقيادة الحزب الشيوعي أربكت قيادة المؤتمر و أحرجتها، فدفعت بكراكسي إلى المنصة قبل موعد الافتتاح ليقدم اعتذاراً للشيوعيين عن سؤ أدب بعض محازبيه، نافيا أن تكون تلك هي روح غالبية أعضاء حزبه! ثم طلب من المؤتمرين التزام الأدب، و مراعاة الأخلاق الاشتراكية الحميدة، و حسن استقبال الضيوف الأعزاء، فتحول الصفير إلى تصفيق.
جرى كل ذلك قبل أسابيع قليلة من موت برلينقوير المفاجئ، و هو الذي كان قاب قوسين أو أدني من الاستحواذ على الحكم، و على مرمى حجر من تسلم حزب شيوعي للسلطة في بلد أروبي غربي رأسمالي عبر صناديق الاقتراع، بعد أن طرح برنامجه السياسي الشهير و الجريء: "المساومة التاريخية" بين الماركسية اللينينية و الرأسمالية الغربية. كان برلينقوير هاجس الغرب دوما مما أملى على مجلة "تايم" الاميركية نشر صورته غلافاً لعددها الصادر في 14 يونيو 1976 بعنوان فاقع اللون، "ايطاليا: التهديد الأحمر." لكن التهديد زال إثر دخوله في غيبوبة قصيرة و رحيل سريعٍ أخذ الشيوعيين الإيطاليين على حين غرة صيف ذلك العام.
توزع ضيوف المؤتمر من وفود الأحزاب الأجنبية و الحكومات و صحافيين كثر على نُزل و فنادق بلدة فيشينزي الساحرة الوادعة المستلقية تحت سفوح جبال الألب الإيطالية، و هي لا تبعد كثيرا عن فيرونا. و في إحدى الأمسيات دار حوار بين بعض المدعوين الأفارقة و الكاريبيين في مقهى الفندق الذي أقمنا به حول شعراء و روائيين من افريقيا و جزر الكاريبي كتبوا بالفرنسية. معظم المتحاورين جاءوا من سفارات بلادهم في باريس و روما أو من الذين جعلوا من العاصمة الفرنسية و جوارها مربطاً لخيولهم، يقيمون فيها اكثر مما يقيمون في بلادهم. كان الحديث ثراً رفيعاً، اختلف فيه "المتآنسون" حول هوية الشعراء و الكتاب و كنه انتمائهم. فمنهم من عدهم شعراء و كتاب فرنسيين خالصين رغم لون بشرتهم؛ و حسبهم آخرون مبدعين أصيلين أثروا لغة التعبير في الفرنسية بمفردات و مفاهيم و رؤى ما كانت تتاح للفرنسي الأبيض لولاهم، بل لما استطاع أهل فرنسا تطوير آدابهم البتة من غير هذا الإبداع الذي جاد به رجال و نساء "ملونين"!! و البعض الآخر رأى في ذلك إجحافاً بحق من كتب بالفرنسية تعبيراً عن اللغة الكامنة في جوانحه و المتدفقة في عروقه لكنها لم تستطع النطق الفصيح بما يكسر أسوار الرقعة الجغرافية الضيقة حتى في محيط البلد الواحد، أو لم يقدر على القفز فوق حواجز اللغات المحلية المحكية و هيمنتها. و في سبيل تعضيد رأيهم ضربوا مثلاً بالكاتب المارتنيكي جون برنابي الذي نافح عن لغة الكرييولي**، لكنه كتب جل أعماله الأدبية بالفرنسية الفصحى. و ذهب هذا البعض إلى أن هناك من ابتدأ على هذا المنوال ثم انتهى إلى شاعرٍ أو كاتبٍ فرنسي داكن اللون، و ليس أفريقياُ أو كاريبياً، أو زنجياً في أحسن الأحوال. بل هو فرنسي قح أو هي فرنسية خالصة ببشرة "غير بيضاء". استقر النقاش على شاعرين جادا و أجادا و أقلعا سوياُ في قارب "الزنوجة" و حركتها، (التي طبعت إسهام المثقفين من منطقتي أفريقيا الفرنسية و البلجيكية و جزر الكاريبي في فترة ما بين الحربين و ما بعد تلك الفترة، ردحاً من الزمن)، ثم تفرقت بهما السبل.
كان ايميه سيزار المارتنيكي و ليبولد سنقور السنقالي هما محور النقاش المستفيض، إذ لم يجمع الساهرون رأياً عليهما قط، لكن الغالبية اتفقت على أن سنقور انتهى شاعراً فرنسيا و حسب، على الرغم من رئاسته لدولة افريقية، بينما لم يتزحزح سيزار قيد أنملة عن الزنوجة و همومها و آمال الشعوب و الإنسانية جمعاء في الانعتاق و التقدم، و هو الفرنسي الجنسية، الذي ظل يتقلب في سلك فرنسا السياسي و يتبوأ مراتبها الوظيفية طيلة حياته المديدة؛ و يكاد يقترب منه هنا شاعر هايتي الكبير، جون بابتيست رومان، الذي انشد لحرية بلاده و استقلالها، دون أن ينسى فضل فرنسا أو يتنكر له. ألم يلهم سيزار تلميذه فرانتز فانون مؤلف "معذبو الأرض"، ذلك الذي التحق بصفوف الثورة الجزائرية مقاتلا و طبيباُ ؟ ثم تساءل أحدهم ماذا فعل سنقور؟! كان ذلك السؤال – في ظني – مبالغة في الإنكار، و شططاً، و تجنياً على أحد أهم شعراء القرن العشرين، بأي لغة كتب.
وردت أسماء كثيرة في تلك الليلة، و قُرئت نماذج من شعر هذا أو كتابات ذاك لتساند هذا الرأي أو تدحض غيره. ثم انتبهنا إلى أن الوقت قد حان للانطلاق إلى المدرج الروماني في فيرونا كي نلحق بحفل المغنية الاميركية جاُن بيز، تلك التي تهدهد الروح المنهكة الخاملة حتى تستفيق و تنشط، و تحي النفوس الهامدة، و تمسح عن الجسوم الحزنَ و التعبَ!
سيطرت مسألة الهوية و الانتماء، في ظني، على مجمل حكايات "دفاتر كمبالا" التي رواها الأديب الأريب جمال محمد إبراهيم في عمله الثالث، الصادر عن دار نلسن، قبيل مغادرة منصبه سفيرا للسودان في لبنان في ابريل/نيسان المنصرم. و لتأكيد هذا الهاجس لجأ أديبنا إلى نثر قصيدة العودة إلى سنار للمبدع السوداني الراحل محمد عبد الحي بين صفحات هذه القصة الطويلة. و لعله استعان على ذلك بأخر تعديل أجراه ناظمها عليها، الا إن عبد الحي، لسبب ما، لا أذكره الآن، أغفل بعض مما جاء في نسخة نشرها أول مرة في مجلة حوار التي صدرت ببيروت في ستينيات القرن العشرين. ذلك الذي لم يرد في نسخ اخرى من القصيدة، نُشرت فيما بعد، يشكل في ظني لب الإجابة - و إن لم يكن فصل الخطاب - عن سؤال الانتماء لدى السودانيين عامة و الشماليين منهم على وجه الخصوص، في صورة موحية، و أشارة دالة، و هو ما جسده التشكيلي الرائد عثمان وقيع الله في لوحة من أجمل ما خط و ما رسم؛ و أكاد أذهب إلى القول إنها الأبيات التي لخصت "منفستو" شعراء الغابة و الصحراء:
الليلة يستقبلني أهلي
الصوفيون الوثنيون
و صدى القرآنيات الأخضر يغلي
تحت سعار الطبل المجنون
الليلة يستقبلني أهلي
ذبحوا لي وعلاً صحراويا
عمدت صلاتي بدمائه
و توضأت به
ثم يأتي إلى القول:
أهدوني مسبحة من أسنان الموتى
إبريقا، جمجمة،
مصلاة من جلد الجاموس
لكن جمالاً، أو الراوي بالأحرى، في تساؤله و شكوكه، إن لم نقل حيرته، التي بدت أيضا في روايته البكر "نقطة التلاشي" لم يقطع بشيء و لم يذهب إلى الحدود القصوى التي ذهب إليها غيره. تلك الحدود التي لامست تخوماً مزعجة - و في بعض الأحيان مرعبة - وقف عندها طويلاً، على سبيل المثال لا الحصر، الروائي و الشاعر و المسرحي و السياسي و الوزير العاجي، برنار داديه.
يقول داديه في قصيدته الأشهر "شكراً لك، يا إلهي":
(ما اللون الأبيض إلا ارتجال عابر للون الأسود،
الأسود هو لون الأيام كافة،
فأنا أحمل الدنيا منذ حلول مسائها الأول.
أنني سعيد بشكل رأسي الذي جُبل ليحمل الكون؛
و راضٍ عن شكل أنفي، الذي يقدر علي استنشاق هواء العالم كله،
كذلك أنا سعيد بهيئة ساقيي المهيأتين لتعدوان عبر جميع مراحل الحياة الدنيا.
أشكرك يا ربي لأنك خلقتني أسوداً، و جعلتني حامل هموم العالم و أساه.)
هذا الذي ابتهل به داديه و حمله إلى كرسي الوزارة في نظام الرئيس فيلكس هوفيه بونيه، حاربه مبدع عاجي آخر. ففي روايته "شموس الاستقلال"، كشف أمادو كوروما مخازي و تسلط و قهر الحكومات الوطنية التي أعقبت مرحلة الاستعمار الأوروبي. تلك الأنظمة التي اغتالت فكرة الحرية و أجهضت تضحيات الشعوب للتحرر من نير الوجود الأجنبي، فلم يعد اللون الأسود إلا غطاء كالحاً لذات العسف إن لم يكن أسوأ منه. و ما جرى في أوغندا ما هو إلا تكرار لما حدث و يحدث في أرجاء القارة الأخرى. و كانت روايته الأخرى "ليس بمشيئة الله"، تعبيرا رائعا ليس عما جرى في ليبريا فحسب، بل في أوغندا و في منطقة البحيرات الكبرى، و في السودان أيضا. و لذلك الظلم "الأسود" جذور ضاربة في القدم، ممتدة عبر الحقب إلى يومنا هذا. و في ظني إن رواية الكاتب الكندي، لورنس هيل، "زبور الزنوج"، أكثر تصويرًا لمعاناة الإنسان المقهور المستعبد، أياً كان لونه و دينه و جنسه، من رواية أليكس هيلي "جذور"، رغم أن كليهما تناولتا فترة اصطياد العبيد و ترحيلهم إلى العالم الجديد! لكن لورنس هيل يشير إلى ما يحدث اليوم على يد "الوطنيين" بقدر ما يفضح عذابات الأمس، التي شارك في ارتكابها أهل البلاد السود.
و جمال يجعل من الغزو سبباً للبحث عن الانتماء و مثاراً لأسئلة الهوية. و هو ليس وحده في ذلك، فقد قال مصطفى سند مرة، على سبيل المثال: (جماع الغابة و الصحراء لم يكن ودياً في البداية. و لكن من رخام هذا اللقاء الشرس بين فرسان الخيول العربية و سبايا الغاب الإفريقي نحتنا وجهنا.) هل الامر كذلك؟ يقول هاشم، راوي جمال في "دفاتر كمبالا" مخاطباً سميرة شرقاوي في ص 106: (لربما كان جدك أنت يا سميرة "كولونيلاً" قدم مع جيش غازٍ من الشمال ..!
كثر هم الغزاة الذين وردوا وادي النيل، من الشمال. كثر هم الغزاة الذين جاءوا عكس تيار النيل القادم من البحيرات المقدسة، من الجنوب. نعم .. فيهم عبدالله بن أبي السرح، و بعده محمد علي باشا الكبير، و بعده، و بعده. تمازجت في الوادي حقب طويلة، من الجغرافيا و من التاريخ. و في ثنائية الاتجاهات تلاقت ثنائيات أخرى، لم يكتمل تلاقحها، و لم ينتج بعد عن هذا التزاوج القدسي مولود مكتمل القسمات. و في أطروحتي القديمة عن تاريخ الفن الإفريقي، رصدت ثنائية الغابة و الصحراء، تنعكس على مرايا الشعر، كما على مرايا الرسم و التشكيل. لن يكون تلاقي الصحراء و الغابة، مثل تلاقي التنافر بين الماء و الزيت. لكنك يا ابنة الوادي، وقفت معي على مشارف الصحراء، و قبل انبثاق الدغل .. )
و يردف القول في ص 153: (أه من هذه الغزوات اللونية التي أورثتنا التباسات في الهوية بامتداد هذا النهر الأسطوري الذي شهد حضارات الفراعنة، و بنيت في أكتافه اهرامات امتدت من شمال السودان، عند مروي، و تواصلت إلى الجيزة في أطراف القاهرة، ثم اختلطت مياه النهرين الأبيض و الأزرق، منسابة من هضاب الشرق الإفريقي و أعالي خط الاستواء، لتشكل ذلك النيل الذي أعجب "هيرودوت" كثيراً، فكانت مصر عنده هبة النيل."
ظل هذا الارتياب يتردد بين دفتي الكتاب صعوداً و نزولاً، و بقيت الحيرة تتأرجح ذات اليمين و ذات اليسار، على الرغم من انه وصل إلى قرار في لحظة ما، صاغه في ص 105 بدون حيثيات واضحة كل الوضوح: (هذا هو السودان: نتاج أخلاط أثنية، و تقاطع رحلات، و طرق تجارة قديمة ..!) في مخالفة صريحة لما يورده في الصفحة التالية حينما يجزم: (لم ينتج بعد عن هذا التزاوج القدسي مولود مكتمل القسمات.)
منذ بداية الدفاتر الأولى تبرز هذه الهواجس جلية، لا يكتنفها غموض، و لا يلفها التباس: (نظرت حولي مأخوذا بما أرى.
ها أنذا في كمبالا على مرمى حجر من البحيرة المقدسة. بعض وجداني دفين في مياهها السحرية، ترى: هل تتعرف إلى أمواهها؟ هل تدرك موجة في هذه البحيرة إنها ستنحدر لأميال عديدة و تمر بأم درمان بعد ملتقى النيلين الأزرق و الأبيض، ثم تصل عبر القاهرة و تذوب في مياه المتوسط.) ص 32. و يشيع الاضطراب في ص 65: "هنا في الدغل – لا في الصحراء – كان علي أن أطارد قرابين جديدة، حتى في المدينة السمراء ..! لتتكشف لي جذوري، منسية هناك في الغابات البعيدة من صحرائي، القريبة من صحرائي .. يأخذني سحر المكان إلى جذوري الأولى.) و يمضي و هو في اضطرابه إلى ص 155 مخاطباً سميرة شرقاوي: (بعد عقد كامل من الزمان، ها أنذا تضطرب دواخلي معك، تلتبس أحوالي تجاه تاريخي القريب .. و البعيد، مثلما يلتبس عليك تاريخك بقساوسته و مسلميه و كولونيلاته.)
غير أن الغابة و الصحراء لا تكفيانه مطلقاً. لابد له من الاستعانة بأروبا لإزالة نقائص العِرق الأسود، حينما يقول هاشم في ص 94: (هم أشبه بشعراء "التروبادور" الجوالة في العصور الوسيطة في أسبانيا. "الانكولي" .. أي خليط حضاري يهب أخيار القارة السوداء فضائل أروبا؟) و لكن من أين للتروبادور بالقيثارة ذات الأوتار الستة؟ أليست هي قيثارة ذرياب؟ ذلك الزنجي العربي الهارب إلى الأندلس من دسائس اسحق و إبراهيم الموصلي و شيعتهما في بلاط الخليفة ببغداد؟ هي إذن فضائل "الزنج رن" و صاحبها الذي يشبه الانكولي و أبناء عمومتهم، و ليست فضائل أروبا.
إلا إن هاشم في النهاية يبقى تائهاً محتارًا، و قد فر من كمبالا بعد أن حاصرته نيران القذائف و طلقات الرصاص، تاركاً كتابه ناقصاً و رسومه غير مكتملة و نفسه خائفة خاوية، كما يبدو، إذ يقول في ص 97: (و من تكون "سميرة شرقاوي" هذه السبية المنعمة في أسرها، هذه الصبية المذهبة الأعطاف في خدرها..؟
ثم من أكون هنا، و قد جمعت الأضداد بين جوانحي، غرقت في هزائمي المريعة، شرقت بانتصاراتي المتوهمة..؟
ها أنذا و قد تكسرت مفاتيح شفرة عمري في لحظة الانكشاف، تلتبس عليّ هويتي في فسيفساء الصورة..)
إلا يبدو رحيل هاشم عن الخرطوم إلى كمبالا شبيه برحيل صاحبنا في "نقطة التلاشي" عن القاهرة إلى تونس؟ و هل تشبه عزيزة زميلته المصرية في جامعة الدول العربية التي فارقها يوم رحلت الجامعة إلى تونس؟ أليس فراق كمبالا فيه مرارة و خواء الرحيل عن تونس؟ قد يكون، لكنني لا أستطيع القول إن "دفاتر كمبالا" هي تتمة sequel لنقطة التلاشي أو العكس. كلاهما فيه تلك اللغة الشعرية المتينة التي نفتقدها في كثير من الروايات و القصص العربية المعاصرة، إلا عند القليل. و نجد عنده الوصف الأخاذ للاماكن و الشخوص و النفوس و الزمان. حتى تلك المناجاة، ذلك المنولوج الطويل يأخذان بالألباب؛ يطربان في كل الأحوال، و لا يشعران القارئ بالملل أو الضجر. دفاتر كمبالا تلك حرية بالقراءة و التأمل، لا مراء.
*The Book of Negroes, by Lawrence Hill
** الكرييولي لغة يتحدث بها الخلاسيون في أمريكا اللاتينية و بعض الولايات الجنوبية في أمريكا الشمالية.
نقلا عن الأحداث ومدونة الكاتب في موقع مكتوب


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.