بسم الله الرحمن الرحيم انثلم سيف الجليلاب وانهدّ ركنٌ رحيل الخال: أحمد يوسف أحمد الأمين الجليلابى الضبيانى فى فجر حزين د. عبدالمنعم عبدالباقى على [email protected] فى يومٍ مطير من أيّام فيضان عام ألفٍ وتسعمائة وثمانٍ وثمانين خضتُّ ووالدى، فى طريقنا للعزاء فى فقيدة عزيزة لنا، أمواجاً تتلاطم ونحن نحاول عبثاً اتّقاء زخّات المطر والرياح بمظلّة ملكت أمرى أكثر ممّا ملكتها. وعندما ضمّتنا غرفة واسعة مع خالى المرحوم إن شاء الله أحمد يوسف أحمد الأمين(حَمُّودْ) سليل راجل الغارين الحاج داود بن عبدالجليل مضيف الشيخ تاج الدين البهارى مؤسّس الطريقة القادرية فى السّودان وحفيد الأميرة ريّا الفونجاويّة، وعمّى الراحل عوض الله حسن أحمد الأمين، رحمه الله وأسكنه فسيح جنّاته. وكان عمّى الياس حسن أحمد الأمين، أطال الله فى أيّامه ومتّعه بالصحّة والعافية، كعادته يضحك حتى يهتزّ جسده، وجدّى خال أمّى سليمان الأمين العشا، رحمه الله وأحسن إليه مع الصدّيقين والشهداء، يضحك بوقار ويراقب كشاعر، وجدّى خال أمّى مهدى العشا متّعه الله بالعافية وأمدّ فى أيّامه الطّيبات،فى عينيه ذكاء لا يُحدّ وفى كلامه حكمة الخبير. نظرت إليهم بوجوههم النّضرة لا تعلوها تقطيبة ولا أخاديد ولا تجاعيد، أسنانهم سليمة بيضاء طويلة، وشعورهم قصيرة سوداء، وقاماتهم ممشوقة كالنّخيل تتقافز الضّحكات من أفواههم كما ينتفض النّدى من فيه النرجس إذا هززته، كأنهّم فى فرحٍ لا مأتمٍ. كان عمّى عوض الله، كعادته، يناكف ابن عمّه خالى أحمد يوسف. قلت لنفسى هذه الوجوه الصبيحة رأيتها كما هى منذ أن وعيت الحياة كأنّها فى متحف تجمّدت يد الزّمان عند بابه. عندما دخل رجل ومدّ يديه طالباً قراءة الفاتحة، تحيّنت لحظة الهدوء التى أعقبتها وملت إلى خالى هامساً ومومئاً للجمع المحتفل بالحياة لا تغيّره تصاريفها: "الجماعة ديل ليه ما بتغيّروا؟"، وضحك خالى وردّ هامساً: "ديل ناس دهرييّن". هذهالجملةٌ أثارت عصفاً ذهنيّاً لدىّ بمضامينها الفلسفيّة والنّفسيّة والاجتماعيّة، ولكنّ ذهولى كان فى إيجاز بلاغته وفصاحته بفطرة خالية من الشوائب وقلت لنفسى ما أظنّه قرأ لجرير: "أنا الدَّهرُ يُفنى الموتَ، والدَّهر خالدٌ"، ولا تصفّح لسان العرب وعلم أنّ الدّهر هو "الأمد الممدود"، وعلمت حينها أن سنين الدّراسة وتصفّح الكتب لم يغن عنّى شيئاً وأنّ ما أطلبه عند من فارقتهم فى سبيله، وأدركت معنى عمى البصيرة، وفقهت أنّ ما ينبغى أن تبنيه لا يقوم إلا على ما عندك منأساس، وتذكّرت عودة شيخى وصديقى محمّد عبدالحى، جعله الله فى فردوس الجنّة، لسنّار وكلام محى الدّين بن عربى: "قال ما أخرجك من بسطام؟ قال طلب الحق، قال ارجع فإنّ الذى تطلبه تركته وراءك ببسطام، فرجع فلزم الخدمة حتى فُتح له". وليتنى رجعت وليتنى لزمت الخدمة ولكنّ طول الأمل وعمى البصيرة وبُعدَ الطّلب أقعدوا فتى صار كهلاً ولم يُنجز ما أمِل وأصابه داء أهل السودان فى خلط الأولويّات وصدق فيه قول الإمام الغزالى رحمه الله:"وترك الترتيب بين الخيرات من جملة الشرور". كلّما زرت أهلى كان أوّل المستقبلين فهو جارنا وقامته المديدة مثل النخلة المشرئبة للسماء تجعل الحائط يتطاول إليه فلا تفوته شاردة ولا واردة ليس كمثل رادارات السودان ويهشُّ إليك مبتسماً ومحيّياً " أهلاً يا خِينا، ما خلاص كفاك؟"، وأردّ مازحاً: "إن شاء الله قريب"، هذا ديدننا منذ أن أدرت ظهرى للوطن وأقبل عليه قلبى، وفجيعتى أنّنى لم أوف بوعدى وقد كاد، إن أذن الله، أن يتحقّق فكيف يحلو الوطن وجناحىّ ربعنا، عوض الله وحَمُّود، قد قصّهما الدّهروقد كانا يرفرفان ويحلّقان بنا ثمّ غاب جناح وظلّ الآخر يخفق وحيداً حزيناً حتّى لحق برفيقه. أذكرهما فى حلبة العرس يتقابلان بسيفيهما يطيران ويحطّان ومعهما النظرات والشهقات وتتبعهما الزغاريد وكلمات "أبشروا بالخير". قلت لعمّى عوض الله رحمه الله: "كم أشتهى أن أراك وخالى حَمُّود فى حفل عرس"، فردّ ضاحكاً: "القاوت (النّقرس) خلّى لينا كرعين نعرض بيها"، وأردف مقهقهاً: "حتّى خالك حمُّود قال عندو قاوت، يعنى من كترة أكل الكسرة بى موية؟ القاوت ده أعمى ما بشوف؟" والمعروف عن خالى حساسيته المفرطة لكلّ أنواع اللحم وخاصّة البقرى وكنت أعزم عليه ليذوق شواء الكرامة فكان يجاملنى بأكل قطعة أو قطعتين كنت أعلم أنّه سيدفع ثمن أكلهما لاحقاً. سألته أختى فاطمة بعفويّتها المحبّبة وقد ظهر فى شعرها خيط أن خيطان من الشيب وهى فى ريعان الصبا وميعة الشباب، خفّفنا عنها بقولنا إنّه شيب السعد أو البخت: "إنت يا خالى مالك ما بتشيّب؟"، فانتفض قائماً وغاضباً ومحوقلاً: "البت دى دايره تسحرنى وتقصّر أجلى"، ولكن فى ساعة صفاء سألته عن السّر فباح لى هامساً: "يا ولدى من ما أخت راسى فوق المخدّة تانى ما بفكّر فى حاجة ولا فى حاجة بتهمّنى ولا بشيل غبينة ولا غم وأقول الخالق رازق"، حينها أدركت معنى حديث المصطفى صلّى الله عليه وسلّم :"يدخل عليكم رجل من أهل الجنّة، وقول الرجل لعبدالله بن عمرو بن العاص عندما كاد أن يبخّس عمل الرجل: رضى الله عنهم: "هو إلا ما رأيت غير أنّى لا أجد فى نفسى لأحدٍ من المسلمين غشّاً ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إيّاه". قلت فى نفسى ها أنت تدّعى معرفة علم إصلاح النّفوس وتفشل أكثر ممّا تفلح بدءاً بنفسك وهاهى الحكمة تُلقّنها لا تكلّفك شيئاً غير السُؤال، وهاهو خالك الذى لم يدرس فى الجامعات ولا رأى المكتبات مع ما به من هموم تنوء بها الجبال الرّاسيات لا يصيبه طلّها ولا رذاذها كالصخر الصّلد تسيل على سطحه. بعد سؤالى بسنوات اكتشف العلم كيف يفعل هرمون القلق المزمن بالجسد إنهاكاً وشيباً، فهل كان ذلك إلهاماً أو بصيرة الفطرة؟. فى صيف قائظ فى منتصف شهر مايو، حيث تركت ورائى ربيعاً تتنافس فيه ورود البشر مع ورود الشجر فى شمال بلاد الإنجليز، عُدّت زائراً لأهلى وقد أخذهم الجهد من فحيح السّموم وقد ضاقت نفوسهم بأرضهم وسمائهم بما وسعت فقال لى خالى حَمُّودْ، أسكنه الله فردوسه فى علّييّن، "أها ما جات مطرة المرّة دى؟، وكان يقصد مزحتى بادّعائى أن سماء السّودان لا تمطر إلا بوصولى لأنّ الخير على قدوم الواردين الصالحين وليس الجالسين الصالحين، قاصداً بذلك والدى شيخهم المقيم. وأذكر أنّ عودتى بعد غيبة طويلة،كما ذكرت سابقاً، صادفت الفيضان فما كان من خالى إلا أن قال لى: "تانى تعال لينا كلّ سنة ما تغيب وتجيب لينا فيضان". قلت لخالى مازحاً فى ذلك اليوم: "إن شاء الله ستمطر قبل منتصف الليل وعندها أنت وشيخك ستقبّلان يدى"، ونسيت الأمر وما كاد الليل ينتصف إلا وصوت "كمباله" يرتفع من حوشه فقد أمطرت وهُرع النّاس يستفسرون فقال جادّاً: "ود أختى اتبيّن"، ولكنه انتحى بى جانباً فى صبيحة اليوم التّالى وقال لى: "ما بنقدر ندّيك الراية لأنّو أبوك شيخنا وقاعد فى وسطنا وانت كان احتجنا ليك ما بنلقاك"، وضحكنا سويّاً. صحيح أن من يحيا متوافقاً مع نفسه يحيا متوافقاً مع الكون. لم يقصّر أجله تفكّر أختى فاطمة البرىء التى بكته نائحة: "يا حليل خالى البِسُر بالى"، ولكن سوء العناية الطّبيّة وانهيار النٌّظم الصحيّة وتلاشى الأخلاق المهنيّة خطفت منّا فارساً ثغرته لا تسدّ وكسره لا يجبر فلا حول ولا قوّة إلا بالله وإنّا والله لفراقك لمكلومون ومحزونون وإنّا لله وإنّا إليه راجعون. اللهمّ جاءك عبدك خرج من دنياك كما دخلها لا له ولا عليه، جلس على شطّ الحياة وحسا منها كما يحسو الطير،لم يملأ وعاءه بزادٍ أبداً ولا أبدى شرهاً، باشر بالمحبّة وصبر على البلاء، وضحّى بالكثير والقليل من عافيته وسعادته، وقابلته دنياه بالجحود وظلمته، ولكنّه احتسب وتوكّل وتأمّل فعلم أن كثيرها كقليلها فزهد فيها، ولم يبخل عليها وعلينا فرواها بابتسامته وسعة باله وعميق حكمته التى غطّاها بتواضعه، وبغيابه سينفرط عقدنا ويتشتّت شملنا اللهم فزدنا صبراً على صبرنا وافتح له وسيع أبواب جنّتك وألبسه ثوب نور منك واغسله بماء الجنّة واسقه منها حتى يروى وأطعمه من طيب لحمها حتى يرضى. آمين.